يَتَساءَل كثيرون، بقليلٍ من السذاجة في بعض الأحيان، عن الموانِع التي حالَت دون حدوث فوضى اجتماعية في لبنان لحدّ الآن، بعد استفحال الأزمات وتَتاليها فوق رؤوس الناس منذ ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات.
السذاجة “المَوضعيّة” هُنا تَتَأَتّى من تقديم الفوضى كفعل اجتماعي بحت، يثور به الفقراء على واقعهم ويحملون السلاح وينزلون إلى الشوارع معلنين “كسر” قواعد الاشتباك مع السلطة. هذا النوع من الفوضى غير وارد في الأمد المنظور، ولا المتوسّط، نظرًا لخصائص التركيبة الاجتماعية في لبنان وهوية العقد الاجتماعي الذي كُوِّنَ نتيجة الممارسة السياسية منذ ما قبل ولادة الكيان. ليست تلك هي الفوضى التي يجب أن نتخوّف منها، إنما الخوف يكمن في مقلبٍ آخر.
يُسَجَّل للولايات المتّحدة الاميركيّة، أنها تَمتاز في صناعة الفوضى الداخلية في البلدان التي تخضع لهيمَنَتها السياسية، أو تلك التي يختار شعبها حُكَّامًا محليّين لا يلبسون الرداء الأميركي. لكنها أعجز عن صناعتها في البلدان الخارِجة عن سيطرتها بشكل بُنيَويّ (كإيران وروسيا والصين مثلًا)، والتي بطبيعة الحال تَتَمَتَّع بنِسَب عالية من الوعي السياسي والاجتماعي تجعلها سدًّا منيعًا بوجه الطموحات الأميركية. وعليه، يكمن الخطر الأول في إحداث فوضى داخلية، على أي بقعة من بقاع الأرض، في مطامع أميركا وتوابعها الغربيّين بالدرجة الاولى.
لم تَكُن الفوضى الداخلية أولويّة في الأجندة الأميركية عام 2005، الذي شكّل الافتتاحية الرسمية للمواجهة الشاملة مع لبنان “المقاوِم”، الذي هزم إسرائيل منذ 5 سنوات حينها، وطردها من أرضه. عند تلك اللحظة الزمنية، كان لبنان خاضِعًا بشكل كلي للسطوة الأميركية السياسية، بعد خروج الجيش السوري ذلك العام، وبداية تحضير الأرضية لإعادة هندسة المسار السياسي الداخلي، وتنظيمه وهَيْكَلَته، وخَلق بيئة غير حاضنة لأي مشروع مناهض للهيمنة، وبالتالي نَبذ كافة أشكال المقاومة.
لم ينجح النَهج المُتَّبَع في تحقيق المبتغى، وظَلَّت الفوضى الداخلية مُستَبعدة طالما ظَنَّ الأميركيون أنهم يسيطرون على “الأرض” والبُنى التَحتية للنظام، كما أن لهم الكلمة الاولى والأخيرة في المسالك السياسية الداخلية، والداخلية الخارجية.
مطلع العقد الثاني في ألفيّتنا الثالثة، افتُتِحَت مرحلة جديدة تطال الطبيعة الجيوسياسية في المنطقة كَكُل، تَنتَهِجُ مسار الفوضى الداخلية الشاملة عبر تبنّي نظريات الثورات الملوّنة وإدارتها وتأمين الأرضيّة الخصبة لها لضمان نتائجها المنشودة أميركيًا. ومن ناحية أخرى تأمين الدعائم العسكرية في البلدان العصيّة على التغيير السياسي، التي تحتاج إلى حل جذري يطيح بـ”عقيدة” الدولة ويسقطها عسكريًا، كما حدث في سوريا.
مثّلت المقاومة اللبنانية العائق الأساسي أمام تنفيذ المشروع الأميركي في المنطقة ككُل، وفي لبنان على وجه الخصوص، وباتت تلك المقاومة تشكّل خطرًا وجوديًا استراتيجيًا على المصالح الأميركيّة وتواجدها السياسي والعسكري، والثقافي. لكن الأميركي لم يُشرِك لبنان في “ربيعه” المنشود عربيًا، لعدّة أسباب أبرزها طبيعة النظام اللبناني غير المبني على أحاديّة في الحكم أو على حزب حاكم، إنما هو خليط معقّد لا يتغيّر بالخشونة المفرطة، ولا بالفوضى التي قد تطيح بالمشروع الاميركي وتقلب الدفّة نحو الطرف الأقوى داخليًا، المقاومة. ومن هنا، كانت سوريا هي المعبر نحو لبنان عبر إسقاط عقيدة الدولة السورية، ليس النظام فحسب، وخلق الفوضى الشاملة الذي يتبعها التناحُر والتّمزيق، وهذا حتمًا ما سينقل الفوضى إلى لبنان نظرًا إلى طبيعة التداخل بين البلدين، جغرافيًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، وتداخل الدولة السورية في مشروع المقاومة الذي يتبنّاه نصف الشعب اللبناني بالحدّ الأدنى. بطبيعة الحال، لو تم إسقاط الدولة السورية، لكانت خصائص الفوضى المفروضة على لبنان مؤذية للأخير، وهي فوضى تركيبيّة مُهَجّنة ومُدَوَّلة، على عكس الفوضى الشبيهة بالربيع العربي التي لا تؤتي أُكُلَها في لبنان كما أشرنا سابقًا.
أُسقِطَ “الربيع” اللبناني. بقيَ الأميركي يفكّر بطبيعة الفوضى التي بإمكانها أن تُثمر ولا تنهك مشروعه في لبنان، لكنه استَبعَد، حتى تلك اللحظة، فكرة إحداث الفوضى الشاملة، لكن بقيت الفكرة على الطاولة واستَتبعتها خطوات تمهيدية لتحضير الأرضية المناسبة التي ستحتوي تلك الفوضى، التي ستختَلف عن زميلاتها بأنها “مُنَظَّمة”. وفي لحظة 17 تشرين انطلقت الخطة الموضوعة وكان الهدف تكوين مسار “فَوضَويّ” لكنّه منظّم لا يشكّل خطرًا على النفوذ الأميركي، ولا يُحدِث مناخًا ملائمًا لقوى المقاومة لقلب الطاولة على المشروع الأميركي في لحظة ما، لا يرغبها الأخير. طريق الفوضى تلك، تهدف لدى أصحاب الخطة إلى إنشاء فريق جديد تابع لأميركا، مع عدم استبداله بالفريق السابق المتمثّل بقوى 14 آذار، إنما تحديثه وإدماج عناصر جديدة غير مرتبطة بالحكم والسلطة.
وفي السياق نفسه، يسلك ذلك الفريق المتجدِّد تحت إشراف الأميركي مسار تعبيد دروب الفوضى بطريقة مترويّة خوفًا من أمور لا تقع ضمن الحسبان. وقد عمل الأميركي، عبر مسار 17 تشرين، على العديد من الخطوات التي ترسم له مسالك الفوضى المنظّمة:
• تقويض هيبة الدولة
• تحميل المقاومة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع
• تعميم خطاب الفوضى والسذاجة
• استغلال الحوادث الأمنية والاجتماعية
إضافةً إلى العديد من الخطط الموضوعيّة المدروسة، عبر استخدام سذاجة جزء لا بأس به من الشعب اللبناني، الذي يدعم تلك المسارات ويساعد على تحقيق الفوضى التي ستجعله أول الخاسرين. والسذاجة في المعجم اللغوي تعني بساطة التفكير، والافتقار إلى الحكمة، وقلّة النباهة والتبصّر.
في الخلاصة، إن ما يمنع الفوضى الشاملة في لبنان عاملان أساسيّان: أولًا، وجود قوة عسكرية ضخمة مناوئة للمشروع الاميركي، وهو ما يؤثّر على حضور تلك القوى في الميدان السياسي ويجعله عقبة في تنفيذ المخطّطات التقسيميّة التدميريّة، وثانيًا، وجود شريحة واسعة جدًا من اللبنانيّين الذين يتمتّعون بقدرٍ عالٍ من الحكمة والوعي، يتربّصون بالجهود الأميركية التي تريد تدمير كيان الدولة وتفتيت مكامن وجودنا كمواطنين ومجتمعات.
وما الاستعراض الذي صدر في الأيام الأخيرة من قِبَل نواب “التغيير” وتوابع المشروع التشرينيّ الأخير، إلا حلقةً من حلقات تنظيم الفوضى واحتوائها، والتفتيش عن أي ثغرة لاختراقها وتحقيق الأهداف. هم لا يأبهون لمصلحة أبناء بلدهم، ولا يهتمّون بالنتائج المأساويّة التي ستنشأ بحال حدوث فوضى أمنية شاملة، بل يتاجرون في الليل والنهار بدماء ضحايا مظلومين سقطوا يوم الرابع من آب عام 2020، ويقودون أهالي الضحايا نحو مسارات لا تلبّي رغبتهم بمحاسبة المتورّطين بمقتل أبنائهم. والأهم، أن تلك الزمرة، لا يعلمون، أو ربما يعلمون، أنه عندما تسقط الدولة ستسقط على رؤوسهم، وسيكونون هم أول الضحايا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.