حين تقتحم وحدة عسكرية نظامية السجن، أو حتى حين تكون من الوحدات الخاصة لمصلحة السجون، مثل متسادا ودرور، فإن أول ما يحدث، إجرائياً، هو مصادرة صلاحيات مدير السجن وضباطه، وتصبح هذه الوحدة هي صاحبة السيادة المطلقة بين الجدران. كما أنها تحتكم إلى الإجراءات المطلقة وعقيدتها العسكرية القائلة بقتل العدو، وإن انتابتها نوبة من الرحمة الكذابة، فإنها تكتفي بتكسير العظام، وهو الشعار الإسرائيلي الحاكم والثابت، بغض النظر عمّن يقف في سدة الحكم. إن قانون إدخال القوات العسكرية إلى السجون يعني، عملياً، استباحة دماء الأسرى وأرواحهم، أي استخدام أدوات القتل ضدهم. هذه الاستباحة قد تردعها القوة الكامنة في الحركة الأسيرة، على الرغم من حالة الضعف العام، وقد تردعها تداعيات تطبيق، مثل هكذا إجراء، على مواجهة واسعة لا تبدأ في السجون، ولا تنتهي بين جدرانها، وهذا ما سوف أتطرق إليه لاحقاً.
ليس من المبالغ فيه القول إن الحكومة الإسرائيلية الحالية المدعومة عربياً، ومن اليسار الصهيوني، تملك قدرات على اتخاذ خطوات عدوانية ميدانية، وتمرير قوانين وإجراءات مؤاتية، بحريّة عمل لم تكن تتمتع بها حتى حكومة نتنياهو. ليس لأن الحكومة السابقة كانت أقل عدوانية، بل لأنها كانت تواجه معارضة غابت أغلبية مركبّاتها حالياً، بعد أن باتت جزءاً من الائتلاف الحاكم.
لقد صادق الكنيست الإسرائيلي فجر الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2021، وبالقراءة التمهيدية، على ثلاثة قوانين تستهدف، وبصورة علنية، المجتمع العربي الفلسطيني والحركة الأسيرة. بكلمات أُخرى، استهداف الشعب الفلسطيني، من خلال السعي لإضعاف المجموعتين المذكورتين. فقد تم إقرار قانون لتعزيز قوات مصلحة السجون بالجنود النظاميين بهدف قمع الأسرى الفلسطينيين، وهو نصّ قانوني غير ملتبس يستثنيهم خصيصاً من باقي السجناء.
بينما يتيح القانون الثاني للجيش إرسال وحدات الجيش النظامي لتعزيز قوات الشرطة من أجل أهداف أمنية قومية، مع التنويه بأنه ليس هناك حتى حاجة إلى مثل هذا القانون، فلدى وزير الأمن الصلاحية في ذلك. ولا يزال أحد أبرز الأحداث في هذا الصدد، عشية إضراب يوم الأرض في سنة 1976، حين دخلت قوات الجيش بدباباتها وعتادها إلى قرى البطوف، وواجهها الناس وسقط الشهداء، وفي سنة 2000، وخلال هبّة القدس والأقصى، تم استخدام وحدات القناصة ضد الشباب العربي الفلسطيني في الداخل.
في المقابل، لم يكن المفتش العام لشرطة الاحتلال كوبي شبتاي بحاجة إلى قانون، بل اكتفى بصلاحياته القانونية، وقرر في الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر 2021 دمج قوات نظامية من “حرس الحدود” في مقار الشرطة القريبة من التجمعات العربية الفلسطينية، بحيث يتم إسناد كل مقر شرطة مناطقي بـ 250 جندياً من هذه الوحدات السهلة التنقّل، وذلك لتعزيز قدرات الشرطة القمعية الضاربة وأعمال المداهمة والقنص.
أما القانون الثالث، فيتيح للشرطة والجيش اقتحام البيوت العربية ومنحهم كامل الصلاحيات في تفتيشها من دون أي أمر من المحكمة، وهو ما يُطرح تحت غطاء محاربة العنف والجريمة. أن تكون البيوت العربية مستباحة وحرمتها منتهَكة بحسب ما يراه رجال الشرطة والجيش مناسباً، هو فعلياً من الإجراءات التي كانت متّبعة في إبان الحكم العسكري ويتم استحداثها، مع التنويه بأن قرار التفتيش بمصادقة من المحكمة لم يحد من المداهمات يوماً. لكن الواضح من الديباجات أن الدولة حددت فلسطينيي الداخل عدواً يجب التعامل معه كما مع العدو في زمن الحرب.
لا يمكن حصر هذه التشريعات تحت مسمى حقوق الإنسان والمسّ بالإجراء، بل هي عدوان مباشر واضح المعالم. تُعتبر القوانين الثلاثة جزءاً من بنية قانونية لحرب عدوانية، فالجهوزية الحربية لا تتوقف عند العتاد والتدريبات، بل تشمل مجمل العوامل الضرورية، كما تشمل مجمل التغييرات البنيوية في هوية الجهاز القضائي. وتشكل هذه البنية حماية قانونية للجيش والشرطة وحرس الحدود، وإعفاء من تحمّل أية مسؤولية أمام المحكمة الدولية ولجان التحقيق الأممية. القوانين الثلاثة لا تندرج تحت مسميات “قوانين أجواء”، أي تلك التي تُسن نتيجة إحباط عام وأجواء غضب شعبي، كالتي رافقت أجواء نفق الحرية أو هبّة الكرامة، وإنما هي قوانين حكومية ناتجة من قرارات استراتيجية أمنية عدوانية بعيدة المدى، توصلت إليها المؤسسة الصهيونية الحاكمة من خلال استنتاجاتها والعبر الذي اعتبرتها من تطورات العام الأخير. فهي تعبّر عن ذهنية متسلطة ترى أن المواجهات القادمة، سواء على ساحة الأسرى في سجون دولة الاحتلال أم مع الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل، هي مسألة وقت، وهي جزء من الاستعدادات الحربية الإسرائيلية. إننا بصدد بنية متكاملة الأجهزة، لا تحاكي حتى المفردات الديمقراطية، أو الليبرالية، أو حتى إنفاذ القانون، وانما تجاهر في عدوانيتها، ولا تراعي كونها قوانين استثنائية موجهة ضد جزء من السكان؛ المواطنين أو شريحة عينية من السجناء.
لقد وصلت إسرائيل إلى قناعة بأن إضعاف الشعب الفلسطيني يتطلب إضعاف الداخل الفلسطيني كقوة شعبية ذات جهوزية عالية وسريعة التحرك، وكذلك إطفاء جذوة الحركة الأسيرة التي باتت تشكل حالة مدٍّ معنوي وسياسي جوهري، فحين يهزّ نفق الحرية مجمل ركائز مصلحة السجون وسطوتها، فإن مؤسسات الأمن القومي الإسرائيلي ترى في ذلك حدثاً ذا أبعاد استراتيجية.
قضية الأسرى ليست محصورة داخل السجون، بل هي قضية قد تشعل مواجهة شاملة. وما شهدناه في الأسبوع الأخير من طعن أسير لسجّان في سجن نفحة، ليس خارج المتوقع، بل إن الأسرى، وبالذات أسرى “حماس” والجهاد، سيتمسكون في هذه المرحلة أكثر بمعادلة الردع المعهودة، وهي أن أي مسّ بالثوابت من طرف مصلحة السجون يواجهه استهداف للسجّانين. والمقصود بالثوابت إهانة الأسيرات القليلات العدد، وبالذات نزع الحجاب عن رؤوسهن، والاعتداء على العائلات خلال الزيارات، أو التعامل المهين معها، والاعتداء المهين على قيادات التنظيمين. وعليه، فإن ردة الفعل في سجن نفحة على ما يحدث مع الأسيرات في سجن الدامون كانت متوقعة، وتدركها مصلحة السجون. كما تدرك هذه المصلحة وفوقها جهاز الأمن العام أن التوترات في السجون تنعكس على منسوب التوترات خارجها، وقد تقود إلى توترات هدفها التحريك، أو إلى مواجهة عسكرية شاملة.
لا يملك الأسرى خيارات كثيرة سوى الحفاظ على أكبر قدر ممكن من وحدتهم الكفاحية والثقة بهذه الوحدة، وكذلك القناعة بأن المعركة ليست محسومة لمصلحة دولة الاحتلال وسجونه، بل القناعة، من التجربة التاريخية المتراكمة، بأنه في المدى البعيد لا تستطيع إدارة السجون، من خلال القمع اليومي، ومن دون اعتماد تفاهمات بالحد الأدنى مع الأسرى، سواء فيما يتعلق بنظام الأسرى الداخلي وإدارة حياتهم الاعتقالية ذاتياً إلى حد ما، ومن دون تخفيف الخناق عليهم. فلا حياة رتيبة للسجّان ما لم يحظَ الأسرى بمثلها.
المطلوب إحضار هذه القوانين الأولية إلى لجنة التحقيق المنبثقة من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والتي أقرّها المجلس في أيار/مايو الأخير في خضم هبّة الكرامة التي واجهت العدوان على جماهير شعبنا في الداخل والقدس وغزة والضفة. وبالذات في الوقت الراهن، بعد إدراج دولة الاحتلال تنظيمات حقوقية فلسطينية ريادية ضمن الإرهاب.
نحن الشعب الفلسطيني بصدد عدوان متكامل العدة، ولا ينحصر فيما ذُكر آنفاً، بل هو ذاته العدوان الذي يقوم به جيش الاحتلال وعصاباته الإرهابية من المستوطنين، في أعمال التطهير العرقي الدموية اليومية ضد شعبنا في الضفة الغربية، والعدوان المتواصل على القدس والأقصى وحي الشيخ جرّاح، في مسعى بنفس روح التطهير العرقي، وكذلك على غزة المحاصرة، والتي أضيف مؤخراً إلى حصارها جدار تحت-أرضي آخر، وفي حصار الداخل الفلسطيني، وبالذات المدن الساحلية، وحصرياً اللد المهددة. وبالطبع يضاف العدوان على الحركة الأسيرة التي لا يزال نفقها يضيء الأرض والآفاق. المعركة ليست محسومة مهما بدت عدوانية دولة الاحتلال، فهذه ليست البداية، ولن تكون النهاية.
أمير مخول – مؤسسة الدراسات الفلسطينية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.