قمت لعشرات السنين، بتغطية ما يحدث في غزة وصعود حماس وسيطرتها على القطاع من خلال انقلاب عسكري وفرض نظام أصولي وشمولي فيها. لم أستخدم يوماً ما أوصافاً بذيئة أو لغة شارع. لكن للأسف، بعدما سمعت رؤساء المستوى السياسي والأمني يعدون بأن حماس قد فتحت باب جهنم على غزة (كما قال قائد الإدارة المدنية غسان عليان)، أو بنيامين نتنياهو (العدو سيدفع ثمناً لم يشهده)، فليس أمامي طريقة أخرى لطيفة وواضحة أكثر لقول ما سأقوله، وأنا مضطر لاستخدام كلمات أكثر دقة لوصف الوضع الحالي الذي فرضته هذه المنظمة على إسرائيل يوم السبت، 7 تشرين الأول 2023.
المقارنة بين الهجوم الحالي المفاجئ وحرب يوم الغفران أمر مطلوب. نظرة إسرائيل لأنور السادات بعد صدمة يوم الغفران لم تكن نفس النظرة المستخفة التي تعودت على النظر بها قبل الحرب. ونظرة إسرائيل “لمخربي حماس” لن تكون نفس النظرة بعد صدمة نزول التوراة. قادة حماس، إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد ضيف وغيرهم، ليسوا من الأشخاص المنمقين الذين ينشغلون بـ “تك توك”، أو بتصريحات مليئة بجنون العظمة أو برحلات عديمة المسؤولية لأرجاء العالم على حساب المواطنين الخاضعين لحكمهم.
تم التخطيط لهجومهم المفاجئ جيداً خلال أشهر، إذا لم يكن خلال سنتين. لم تعد حماس منظمة إرهابية تختطف الإسرائيليين وتقتلهم وتخفي مكان دفنهم (ايلان سعدون وآفي ساسبورتس)، أو حماس التي تقوم بتنفيذ العمليات الانتحارية (الانتفاضة الثانية). لم تعد حماس منظمة إرهابية لمخربين رغم أنه تصنيفها بهذا أمر يريحها أكثر. هذه منظمة لها جيش يتكون من آلاف الجنود المدربين والمملوئين بالدافعية. لديهم انضباط حديدي واستعداد للموت “من أجل فلسطين”. جنود كانوا أطفالاً كبروا على واقع ليس فيه سوى حماس وجولات قتال وعدم أمل. لا يعرفون واقعاً أو أي مصطلحات أخرى. بعد “لا إله إلا الله” هناك حماس، حماس، حماس، المطلوب التضحية من أجلها.
الضيف والسنوار وغيرهما، عرفوا بأنهم بعد الهجوم على البلدات الإسرائيلية على طول غلاف غزة وإطلاق الصواريخ على إسرائيل، سيغيرون قواعد اللعب وينتقلون إلى عقيدة القتال العسكري. ولضمان بقائهم وبقاء حركتهم بعد الهجوم “البطولي”، وفق تعبيرهم، دربوا جنودهم على إعطاء أولوية عليا لعملية الاختطاف: اختطاف وجلب كل إسرائيلي يصادفهم بعد اقتحام الجدار إلى غزة. جنود، مدنيون، شباب، شيوخ، نساء، رجال وأطفال، لا يهم؛ أكبر عدد ممكن. المخطوفون سلاح يوم الدين الذي سيدافع عن غزة وعن كل الحركة عندما ستهدد إسرائيل باحتلال القطاع وإسقاط حكمهم.
حتى كتابة هذه السطور، يتحدث الغزيون عن أكثر من 150 أسيراً، والصور التي تأتي من هناك عبر الشبكات الاجتماعية فظيعة وتفطر القلب. الإسرائيليون المخطوفون هم بوليصة تأمين لحماس. إذا تجرأت إسرائيل على البدء في عملية عسكرية واسعة فسيردون بالصور وأفلام فيديو، لن يستطيع المواطنون في إسرائيل استيعابها: هل تستطيع القيادة في إسرائيل بعد عملية واحدة كهذه، أن تصمد أمام العدسات وتثرثر بجمل “الانتقام لدماء طفل صغير لم يخلقه الشيطان” أو “لن نتوقف حتى بمحو غزة” أو “سنحولها إلى مواقف للسيارات”؟ هل سنسمح بإعدام الإسرائيليين بأسلوب “داعش”.
في اليوم الذي اختطف فيه جلعاد شليط، بدأ إيهود أولمرت الذي كان في حينه رئيس الحكومة، في عملية “أمطار الصيف”. وقتل خلال أسبوع، نحو 500 فلسطيني. قال أولمرت في حينه بغطرسة إن “صاحب البيت أصيب بالجنون”. مفهوم “الجنون” الذي استخدمه مع وزير الدفاع في حينه عمير بيرتس، أبعد إطلاق سراح شليط وزاد ثمنه وأبقى الدفع المبالغ فيه لنتنياهو – بعد ست سنوات. لا تملك إسرائيل، اليوم، المزيد من الترف للتصرف كصاحب بيت مجنون أو تصفية قادة حماس. قضية تصفية أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي التي أوقفت في حينه الانتفاضة الثانية، لا يمكن تكرارها. عندما تحتجز حماس الكثير من المواطنين الإسرائيليين، فليس أمامها أي خيار سوى الفهم بأنها لم تعد القوة الأكبر في المعادلة.
حماس لن تُهزم ولن يتم إسقاطها، لا في الغد ولا في الأشهر القريبة القادمة. هي التي ستملي المعركة والمفاوضات أيضاً. هي ستدير نتنياهو والكابنت وحكومة اليمين المطلقة التي ملأت إسرائيل بوهم أن لديها حلولاً سحرية بالقوة للنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين. وستضطر المعارضة إلى تقويم خطها بسبب القلق على حياة مواطني إسرائيل.
في الساعات القريبة القادمة وفي الأيام والأسابيع القادمة، ستنشر حماس أفلام فيديو سيكون لها تأثير كبير. هذه ستكون لحظات صعبة وقاسية وسيتم نقشها في الوعي الإسرائيلي بكونها لحظة من لحظات الإهانة والعجز الكبيرة التي عرفناها في حياتنا. ستكون أياماً أو أسابيع أو أشهراً ستضطر إسرائيل فيها إلى الاستيقاظ. قصف محطة توليد الكهرباء في غزة أو تدمير البنى التحتية المدنية غير ممكن، أي عملية قصف أو أي عملية يقوم بها صاحب بيت مجنون ستعرض مخطوفاً آخر للخطر.
الأمر الذي يجب على إسرائيل أن تغيره هو طريقة تفكيرها. نحن لا نتعامل مع شخص غبي أو مع مجموعة أشخاص متعطشين للدماء. الحقيقة القاسية أننا نتعامل مع عدو، قادته أذكياء ومخادعون، ويؤسفني القول بأنهم أكثر حكمة وذكاء وتصميماً من القيادة في إسرائيل الآن. عملية كبيرة سيتم وقفها، غزة لن تجوع، وحماس لن تسقط بهذه السرعة. من لم يسقطهم من قبل وسمح لهم بالتقوي والتعزز وحوّل الشيكات المليئة بالأموال لهم، هو الذي يقف الآن أمام الواقع الفظيع الذي سيتحول إلى صدمة وطنية جديدة، لا تشبه أي شيء مما عرفناه في السابق.
وجه يحيى السنوار المبتسم هو وأصدقاؤه سنضطر إلى رؤيته كثيراً في الأشهر القريبة القادمة، ولن نستطيع فعل أي شيء أكثر من القول “خسارة أننا لم نقم بتصفيتهم من قبل”.
شلومي الدار | «هآرتس»
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.