إن خريطة التجزئة التي تمت في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن تجزئة جغرافي فقطة، بل تضمنت إلى جانب ضرب الوحدة مستويات أخرى من الخلل وانعدام التوازن. وإن السمات الأبرز التي تزاوجت مع عملية التجزئة وتركت بصماتها بشكل حاد على نماذج الدول التي تشكلت في ما بعد هي:
١ – الموقع الإستراتيجي، عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، الذي يتمتع به الجزء المحتل بالنسبة للدولة المستعمرة على ضوء استهدافاتها في ظل ميزان القوى العام.
٢ – الأجزاء الحاضنة للثروات الطبيعية والثروات الزراعية.
٣ – تهميش الكتل البشرية الضخمة وفصلها عن محيطها.
وسنستعرض هنا ثلاثة نماذج حديّة مع الإشارة إلى كون هذه النمذجة مضطرة إلى اختزال جوانب تفصيلية عدة وكون هذه النماذج تشكّل مثالًا نظريًّا يشكّل مدخلًا لقراءة الواقع الذي هو بلا شك أكثر تعقيدًا.
مثال الدولة – الثروة
إن نموذج هذه الدولة – دولة الشركة النفطية – التي قامت كضرورة وجود شكل سلطوي محلي يشكّل غطاء شرعيًّا لمجال إنتاج الثروات المحلية لصالح السوق الرأسمالية العالمية.
إن التكون الممسوخ للدولة – الثروة سيكون له انعكاس على أي مشروع نمو توحيدي في الوطن العربي.
الدولة – الموقع الإستراتيجي
هذا النموذج الذي قام على أطراف الوطن العربي، سرعان ما وجد تاريخه الحضاري المشرق بعد تفجر آبار النفط ومناجم الفوسفات ولسوء طالعه بقي رهين التوازنات الدولية بأشكالها المختلفة في علاقتها بالوطن العربي.
الدولة – الكتل البشرية
ونموذجها الأساسي هنا مصر، هذه الكتلة البشرية العربية الإسلامية، التي جرى فصل طاقتها البشرية والحضارية بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى عن إطارها الطبيعي شرقًا وغربًا، ليصار إلى تطويقها من قبل دويلات النفط المفرغة من الطاقة البشرية -وهي الأساس- وبذلك بدل أن تكون الثروة أداة قوة بيد المركز الأساسي في الوطن العربي خاصة والاجتماع الإسلامي عامة أضحت هذه الثروة أداة تهديد لأي مشروع توحيدي نابع من هذا المراد.
لقد تشكلت دولة التجزئة على أرضية تحطيم بنى الإنتاج المحلية بفعل عنفي خارجي، لتقام محلها بنى إنتاجية مرتبطة بالسوق الخارجية.
وسمة الاقتصاد الاستخراجي هي.
- أن البنى الإنتاجية (الاستخراجية) خلقت لنفسها زمنًا إنتاجيًّا خاصًّا بها لا يتلاءم ودائرة الإنتاج العامة بل ولا يتقبل إدخال القوى الإنتاجية داخله.
- تمركز القوى العاملة في القطاع الزراعي المهمش من قبل قطاع الثروات الأولية، مع الإشارة إلى كون القطاع الزراعي يتسم بكونه يخضع لآلية الإنتاج الأحادي والمعد للتصدير، وبالتالي لا يسمح بتدعيم دورة إنتاجية داخلية قائمة على اقتصاد سوق داخلي.
- تضخم قطاع الخدمات على حساب القطاع الزراعي دون توسط القطاع الصناعي كحلقة وصل.
- اعتماد الدولة على الريوع المتأتية من تصدير الثروة والمواد الزراعية وهذا ما يجعل اقتصاد الدولة تخارجيًّا يتمتع بحدود استقلال كبيرة عن الدولة الإنتاجية الداخلية.
- أن الأنظمة الحاكمة لم تنوجد كطبقات اقتصادية على قاعدة امتلاكها لوسائل الإنتاج في بنى إنتاجية موحدة بل على قاعدة سيطرتها على جهاز الدولة المالك لهذه الريوع. وهذا ما يسمح لها بامتلاك قاعدة اقتصادية مستقلة عن المجتمع بحدود واسعة من جهة، ومتحكمة به من جهة أخرى.
- أن الدول التي لا تمتلك ثروات نفطية تعتمد أساسًا على دورها كوسيط تجاري أو على مقصات أسعار السلع الزراعية في التجارة الداخلية والخارجية.
أدت الخصائص السابقة وتؤدي إلى ضعف مقومات الطبقات المهيمنة اقتصاديًّا على مستوى قطرها. وبالمقابل حافظ ذلك على الاتّجاه التوحيدي القاعدي للجماهير العربية – المسلمة. وهذا ما يجعل كلّ دولة شديدة الحساسية لأي خطوة وحدوية أو تكاملية، إذ ترى في ذلك تعارضًا مع اتّجاه كامن فيها للبحث عن مقومات اقتصادية قطرية تعطيها شرعية مجتمعية قطرية.
إن السمات التي سبقت الإشارة إليها تفرض علينا قراءة جديدة للوحة التكتلات السياسية والاقتصادية خارج نقطة القياس المتمثلة بالدولة القومية الرأسمالية الناجزة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.