يعرف التضخم في علم الاقتصاد بأنّه الزيادة المستمرة في أسعار السلع والخدمات على مدى فترة من الزمن، إذ يؤدي في النهاية إلى التقليل من قيمة العملة، وهو ما بتنا نعيشه اليوم في ظلّ الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي يمُر بها العالم أجمع.
يدفع التضخم الأسر لإنفاق المزيد من الأموال في شراء الكميات ذاتها من السلع أو الخدمات التي اعتادوا على شرائها، كما يشكّل ضغطًا على ميزانية الأسرة ويمكن أن يجعل من الصعب تغطية نفقاتها، ويقلّل من القوة الشرائية والقدرة على تحمّل تكاليف الاحتياجات الأساسية مثل المأكل والملبس والمأوى، ويشكل هذا تحدّيًا بشكل خاص للأسر ذات الدخل المُنخفض وأولئك الذين يعيشون في المناطق ذات معدّلات التضخم المرتفعة.
أسباب التضخم
طرق مبتكرة لمحاربة التضخم على المستوى الأسري
هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تسهم في التضخم وهو ظاهرة مُعقّدة متعددة الأوجه، فالنظام المالي العالمي القائم على الربا وأسعار الفائدة المتزايدة والرأسمالية المبنية على النزعة الاستهلاكية، وأنظمة الحكم غير الرشيدة في إدارة الموارد والنفقات هي السبب فيما وصلنا وسنصل إليه من تدهور اقتصادي.
يمكن حصر الأسباب الاقتصادية في التالي:
زيادة عرض النقود: من أكثر أسباب التضخم شيوعًا زيادة المعروض النقدي، وهو ما يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة، يحدث هذا عندما تطبع البنوك المركزية المزيد من الأموال أو عندما تزيد الحكومات الإنفاق.
زيادة الطلب: سبب آخر للتضخم هو زيادة الطلب على السلع والخدمات، فعندما يفوق الطلب العرض تميل الأسعار إلى الارتفاع.
انخفاض العرض: إذا انخفض المعروض من السلع والخدمات، تميل الأسعار إلى الارتفاع حيث يتنافس المستهلكون على العرض المحدود.
زيادة تكاليف الإنتاج: عندما تزيد تكلفة إنتاج السلع والخدمات، تنقل الشركات هذه التكاليف إلى المستهلكين في شكل أسعار أعلى.
توقعات التضخم: إذا توقع الناس ارتفاع الأسعار في المستقبل، فقد يؤدي ذلك لدفع الأسعار لأعلى، فينتج في النهاية تضخّم فعلي.
تجدر الإشارة إلى أن التضخم يمكن أن يتأثر أيضًا بمزيج من هذه العوامل بالإضافة إلى عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية أخرى، ما يجعله ظاهرة معقّدة ومتعددة الأوجه، وينبغي للأسر أن تكون على دراية بتأثير التضخم على مواردها المالية وأن تتخذ خطوات لإدارة ميزانيتها واستثماراتها وتعمل على محاربة التضخم على المستوى الأسري ودرء آثاره السلبية.
طرق مبتكرة لمحاربة التضخم
محاربة النزعة الاستهلاكية وثقافة الاستهلاك
طرق مبتكرة لمحاربة التضخم على المستوى الأسري
لا شك أننا نعيش اليوم في عصر ثقافة الاستهلاك بامتياز إذ إن النزعة الاستهلاكية باتت جزءًا لا يتجزأ من سلوك الأفراد وذلك بسبب النظام الرأسمالي ونظرية النيوليبرالية المهيمنة علينا، والآلة الإعلامية التي تدفعنا نحو الاستهلاك دفعًا حتى أصبحنا كالمخدرين نشتري أشياء لسنا بحاجة لها، وبالطبع كان للطلب والاستهلاك المرتفع دور كبير في زيادة معدلات التضخم.
نظرة سريعة على كثير من المقتنيات التي ربما شريتها في الفترة الفائته ستجعلك تدرك أنك لم تستخدم الكثير منها وربما لم تكن هناك دوافع واقعية ومنطقية لشرائها، وبالتالي فإن التوقف عن شراء الكماليات والأشياء غير المهمة سيساعدك في إطار نفسك وأسرتك على الحد من التضخم، وينعكس شيئًا فشيئًا على الحالة الاقتصادية العامة.
نذكر هنا الأثر المنقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما رأى سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحمل لحمًا في يده فقال له: ما هذا يا جابر؟ فقال جابر: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر: أوكلّما اشتهيت اشتريت! أما تخاف من هذه الآية يا جابر {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا …}.
ولحل مشكلة الاستهلاك أنشئ ميزانية لإدارة أموال أسرتك تحتوي على الضروريات وتحدد فيها أولويات الإنفاق وتتبع فيها نفقات الأسرة ودخْلَها، هناك الكثير من الأدوات والتطبيقات المتاحة عبر الإنترنت التي تسهل عليك ترتيب الميزانية، يساعد وضع الميزانية على توفير الأموال وتلبية الاحتياجات المهمة دون الإسراف أو التسوق المفرط، ما يؤدي لبقاء أموال آخر الشهر يمكن استثمارها في الأصول ذات القيمة المرتفعة، كما يساعد على الادخار الذي يسهم في تجاوز الزيادة المفاجئة للسلع والخدمات، وبالتالي تشكل حصانة على مستوى الأسرة ضد آثار التضخم والأزمات الاقتصادية الخانقة.
اتباع نمط ونموذج حياة مبني على الإقلال
طرق مبتكرة لمحاربة التضخم على المستوى الأسري
الإقلال هو ثقافة تلتزم بأسلوب حياة تكتفي فيه بأقل ما يلزمك وتستغني عن ما لا حاجة لك به، فهو منهج يوازن بين شراء الضروريات والاستهلاك بغير معنى.
يساعدك اتباع نمط الإقلال من الطعام والشراب والمأكل والملبس والمسكن وحتى العلاقات على محاربة التضخم، وذلك عن طريق التخفف من الكثير من الأشياء غير الضرورية مما يسهم أيضا في تخفيف الضغط وتحسين الحالة المزاجية.
الإقلال سنة نبوية وهدي للتابعين إذ تذكر الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم حض في أكثر من موضع على أهمية الزهد والتخفف من الدنيا فعن عَبْد اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: ((نَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ؟ فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)). الترمذي (٢٣٧٧).
وهذا سعيد بن عامر رضي الله عنه بعث له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بألف دينار تعينه على قضاء حاجته، فلما علِم بصرّة الدنانير أخذ يبعدها عنه وهو يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، حتى ظنت زوجته أن أمير المؤمنين قد توفي فقال لها: «بل أعظم من ذلك؛ دخلت علي الدنيا لتفسد آخرتي»، فأخذ الدنانير وجعلها في صُرر ثم وزعها على فقراء المسلمين.
علينا أن نجعل هدي الأنبياء والتابعين في التعامل مع المال والدنيا نصب أعيننا، ليساعدنا على تجاوز المحن والصعوبات المختلفة فنحن في النهاية مهما اقتنينا من حاجيات وأشياء سنتركها ونمضي للآخرة.
التخلص من الديون والابتعاد تمامًا عن الربا فهو حرب مع الله
يعدُّ أكل الربا من المُحرّمات في الإسلام، وقد ذُكر تحريمه في الكتاب والسنَّة وهو من أكبر أسباب الأزمات المالية والاقتصادية إحقاقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّـهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّـهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
على رب الأسرة أن يجتهد في البعد عن المعاملات الربوية وأكل أموال الناس بالباطل دون جهد أو تعب لما فيه من الحرمة ومحق البركة التي سيراها في ماله وأبنائه، وعليه البحث عن سبل الكسب الحلال في التجارة والصناعة الزراعة وغيرها من الأشغال المباحة لتحقيق عمارة الأرض.
أما الديون التي يقع فيها الأفراد وأرباب البيوت من أجل توفير الاحتياجات المختلفة فينبغي الحذر منها لأنها كالطوق على جِيد الإنسان تكبّله وتقيّده، وقبل أن يمد الإنسان يده للاستدانة ينبغي عليه أن يدرُس جيّدًا السبب الذي يدفعه لذلك، فإن كان لا بد فعليه بالاجتهاد في ردّه ومحاولة إيجاد طريقة أخرى تساعده على تجنب الدين، وكذلك السعي لتجنب طرق الدين الخبيثة التي تطرحها الشركات عبر إعلاناتها مثل: اشتر الآن .. وادفع لاحقًا!
التمكين بالعمل وزيادة الإنتاج وإيجاد الفرص للعمل الحر
على الفرد عامة وربّ الأسرة خاصة العمل والسعي والاجتهاد والضرب في الأرض للبحث عن الرزق، فالعمل يكفي الإنسان عن السؤال ويسد حاجته وحاجة أسرته ومن يعولهم، كما أن وجود مصدر رزق يساهم في الحد من الآثار السلبية للتضخم، إذ إن الأفراد العاطلين عن العمل لن يستطيعوا مجابهة الزيادات الكبيرة في الأسعار ولا شراء حاجاتهم الأساسية.
والواجب على أفراد المجتمع والحكومات العمل متضامنين وخلق فرص العمل والتشغيل للعوائل والشباب وتسهيل سبل المعيشة، إذ إن هذه تعد من أبسط حقوق الفرد خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تطحن من لا يجد عملًا في ظلها.
وهناك سوق العمل الحر الذي يُخرج الإنسان من قيود الوظيفة والدخل المحدود ويساهم في خلق مصدر رزق إضافي.
خاتمة
يبدو التضخم ظاهرة متسارعة تهدأ وتستعر بين الفينة والأخرى، طالما ظللنا مكبَّلين تحت قيود النظام الرأسمالي النيوليبرالي، ورغم صعوبة تجاوزه كأفراد أو مجتمعات وحدنا دون حلول جذرية من الحكومات والمؤسسات إلا أن الأمر ليس مستحيلًا، بخطوات واثقة مثل تقليل الاستهلاك والإقلال من الكماليات وتجنب الديون والربا وخلق فرص للعمل والإنتاج يمكن تجاوز التضخم على المستوى الأسري والوصول لحالة من الأمان المادي والمعيشي.
ثم إن المسلم لا ينسى -وعليه أن يبث هذه الحقيقة بين أفراد أسرته- أن الدنيا إلى زوال وأن الجنة هي المستراح الذي تتحقق فيه كل الأمنيات والرغبات، فالتعلق القلبي بالآخرة والزهد في الدنيا يساهم بقدر كبير في تجاوز جميع الأزمات.
د. إيلاف بدر الدين عثمان – تبيان
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.