صدّق أو لا تصدّق!! .. منذ أكثر من عشر سنوات، وأثناء مشاركتي في ورشة عمل في قلب بيروت عاصمة الحضارة والانفتاح والحرّيات، تحدّث مدير عام إحدى أكبر شركات التوظيف عن الخدمات الجمّة التي تؤمّنها الشركة التي يعمل بها لتأمين الفرص المؤكّدة لتوظيف الشابّات في لبنان، وما قاله كان مذهلًا..
خبر للهولة الأولى قد يبدو مثيرًا للانتباه، ويبعث على الطمأنينة، ولكنّه حمل في طيّاته مفاجأة صادمة لي على غير صعيد، وفتح أمامي الأبواب على كثير من الأسئلة التي لا زالت تبحث عن إجابة. هذه المفاجأة تأتت من إعلان هذا المدير العام على الملأ ودون أي حرج، فقال “اعطني أي سيرة مهنية عادية لفتاة أو سيدة، وأنا كفيل بأن أجد لها الوظيفة المناسبة” وأردف قائلاً ردًا على سؤال طرحته عليه في هذا الإطار “لو أعطيتني أفضل سيرة مهنية، لفتاة محجّبة كاملة الأوصاف والمزايا الشخصية والأكاديمية والمهنية، لن أتمكّن من إيجاد وظيفة لها، لا لشيء، إلاّ لكونها محجبة … هذه هي الحقيقة بوضوح ومن دون تجميل ..”. ولن أطيل عليكم أكثر في ما جرى تداوله في أثناء ذاك اللقاء.
خلاصة هذا الطرح، دفعني للتفكّر كثيرًا عندما نرى أي مشهد لامرأة محجّبة داخل مكتب حكومي ولو كان بسيطًا في لبنان، دفعني للجزم بأنّه مشهد لا يمكن أن يكون عاديًا، وإنّما يحمل بين ثناياه تحدّيات ليست بالهيّنة على الإطلاق. .ففي مجتمع يدّعي احترام الحرّيات والتنوّع، تظهر أنماط خفية من التمييز: نساء محجّبات يُستثنين من إمكانية الحصول على وظائف عامّة، بالرغم أن القانون والدستور يكفلان لهن الحق في العمل، والاعتقاد، والتعبير. وهذا هو المعلن، أمّا المفعول به فشأن آخر.
هي مفارقة تختزن ليس فقط ظلمًا اجتماعيًا، بل هي في الواقع انتهاك قانوني لا يمكن تبريره تحت أي شعار، سواء كان “الحداثة” أو “الحياد الوظيفي”.
الدستور يتكلّم… بوضوح
لنبدأ من الجذر: المادّة التاسعة من الدستور اللبناني تكفل حرّية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية. كما أنّ المادة السابعة منه تضمن المساواة بين المواطنين دون تمييز. في حقيقة الأمر، لا أستعرض أمامكم شعارات، بل ضمانات دستورية واضحة تنطبق على حرية الاعتقاد والتعبير بما في ذلك قطعًا المظهر واللباس الديني.. هذا إشارة إلى أنّه لا يمكننا النظر إلى الحجاب على أنّه مجرد رمز ديني، وإنّما هو تعبير محمي قانونًا عن الهوية، وبالتالي يشكّل الامتناع أو رفض توظيف المرأة المحجّبة لا سيّما في مؤسّسة عامّة، يشكّل هذا الفعل انتهاك مزدوج، ضد العدالة ومن يطالبون بالمساواة بين الجنسين، وأيضًا وبما لا يقبل الشك ضد حرية المعتقد.
النموذج العالمي… وسوء الفهم المحلي
في الكثير من الدول، تحترم الأنظمة القانونية التعدّدية الدينية، وتفصل بين حيادية الدولة وحرّية المواطن. إنّما في بلد الحرّيات التي يُتغنّى بها في وطني لبنان، حيث الدولة ليست علمانية كما ينص عليه الدستور، بل هي طائفية بامتياز، يُستخدم مفهوم “العلمنة” أحيانًا كسلاح ناعم لاستبعاد المرأة المحجبة، تحت ذريعة “الحياد”. فهل يعني “الحياد” هنا إقصاء المعتقد؟!
إنّ “الحياد” يا سادة لا يعني إقصاء المعتقد، بل حماية تنوّعه. أن تطلب من الدولة أن تكون محايدة، لا يعني أن تطلب من المرأة أن تنزع حجابها لتكون مقبولة في وظيفة عامة، على سبيل المثال وليس الحصر.
معركة “جندرية” تحت غطاء “الزي الرسمي”
اللافت في وطني لبنان، أن التمييز لا يقع فقط على أساس ديني، بل أيضًا على أساس النوع الاجتماعي. فلا أحد يمنع رجل دين من العمل في مؤسّسات الدولة بلباسه الديني، إلاّ انّ المرأة المحجبة توضع في خانة الشك والمساءلة عند اقترابه من مس هذا المحظور عليها تحت ذريعة الحياد. المشكلة إذن ليست في القماش، بل في المرأة التي ترتديه. وهذا يكشف عن عدم تقبّل حضور المرأة المتديّنة الواثقة، الخارجة عن نمطيَّة الخضوع أو التحديث المصطنع. في الواقع، هذه المرأة هي “مرئية جدًا”، و”جريئة جدًا”، ولذلك هي”مزعجة جدًا”.
العلم يقول كلمته: الهوية الكاملة تُنتج أكثر
لقد أكّدت الدراسات في “علم النفس التنظيمي”، كما نُشرت في Journal of Organizational Behavior “أنّ السماح للموظفين بالتعبير عن هويتهم (بما في ذلك اللباس الديني) يعزّز شعورهم بالانتماء، ويزيد من إنتاجيتهم ورضاهم الوظيفي.” وبالتالي توضع مسألة استبعاد المرأة المحجّبة عن تولّي أي منصب في الإدارات العامّة في خانة مطالبتها ضمنًا بنزع حجابها، انطلاقًا من مبدأ التقيّد والالتزام بـ “لباس مهني”، ليحق لها تبوأ منصب مان وممارسة عمل ما في إدارة ما.
لا يمكننا تفسير ذلك الفعل، إلاّ بكونه فعلًا قسريًا يمزق هويتها ويُشعرها بأنها غير مرحب بها كما هي.
من الحق إلى التمثيل
تشير أرقام إدارة الإحصاء المركزي في لبنان، أنّ النساء لا يشكّلن أكثر من 20٪ من المناصب القيادية في القطاع العام. أما المحجبات، فهن شبه غائبات. وهذا الغياب ليس طبيعيًا، بل هو نتيجة تراكمات خفيّة: أسقف زجاجية، نظرات متوجّسة، وشروط غير معلنة. ولنقلها أمام الملأ، لا يمثّل وجود المرأة المحجبة في الوظائف العامة حقًا فرديًا فحسب، بل هو حاجة وطنيّة ضرورية وأساسية، بوصفها تمثّل صورة حقيقية عن نسيج هذا المجتمع اللبناني، ورسالة تقول إن الدين لا ينتقص من الكفاءة، ولا يحجب الولاء للوطن. وما عدى ذلك ما هو إلاّ إقصاء وتهميش وتغييب وتمييز سلبي لشريحة أساسية من شرئح هذا الوطن.
الحداثة الحقيقية تُقصي التمييز… لا الأشخاص
أقول هنا، لمن يطالبون ببناء وطن وَفقًا لمعايير ومنطلقات “الدولة الحديثة”، أقولها وَفقًا للمعايير وبالأدلّة العلمية والدستورية والقانونية والأخلاقية والاجتماعية .. إنّ الدولة الحديثة لا تطلب من مواطنيها نزع رموزهم ليلائموا قالبًا موحدًا، إنّ الدولة الديمقراطية الحقيقية، لا تلك الزائفة والخادعة والموهومة التي نرى نماذجها العالمية كل لحظة، الدولة الحديثة التي نريدها ونسعى لتكون مرتكز بناء دولتنا القانونية الحقّة، هي الدولة التي تحمي تنوّع مواطنيها، وتضمن مشاركتهم الفاعلة، دون قمع أو تجزئة للهويّة.
في لبنان، حيث التاريخ يحمل جراح الإقصاء، ويمتلك ذاكرة من التعدّد، فإن تهميش المرأة المحجبة ليس فقط تمييزًا، بل خيانة لفكرة لبنان نفسها.
من الذي يجب أن يُستبعد؟
بعد ما ذُكر، لسنا بحاجة لنسأل ما إذا كان الحجاب يناسب الوظيفة العامّة. السؤال الأهم هو: هل نظامنا الإداري قادر على احترام الدستور؟ على حماية الكرامة؟ على تمثيل المواطنين بعدل؟
إن كان الجواب لا، فالمشكلة ليست في الحجاب… بل في العقليات التي ما تزال تُقصي تحت ستار القانون.
المراجع:
د. ليلى شمس الدين – موقع أوراق
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.