إنّ الحضارة الغربية شكّلت نموذجًا جديدًا لدى كثيرين للاقتداء بها، فسعوا لأن يسيروا على خطاها، حاملين من أُسس تلك الحضارة مسيرًا ومسارًا لهم، ويعود سبب ذلك ربّما إلى أنّ كل ما في هذا النموذج محسوس وملموس، فالإنسان بطبيعته يميل للمادة ما لم يقرأ ما بين سطور المادة ومناشئها ومحرّكها.
لا يصح أن نتجاهل حضارة الغرب لمجرّد أنّنا نعارضها اليوم على مستوى المشروع السياسي، فحضارته موطن لا بدّ من أن يدرس، ويستحق أن ينظر فيه، خاصة في الأسس والمبادئ التي أدّت لهذا التطوّر، ولهذا الانتشار، فضلًا عن كونه أحدث عامل جذب لكثير من شعوب العالم.
بدايةً، هم يرون في “غربهم” مركزية لباقي أطراف العالم، أي يعتبرون أنّ الأصل ينبع مما وصل إليه العقل الغربي، وبالتالي ستكون أقطار الأرض المصنّفة بحسب ذلك العقل مأمورة لما يمليه ويأمر به! ثمّ بعد ذلك كانت الحضارة مرتكزة على محورية الاقتصاد فيها، فالاقتصاد هو تلك البيئة الخصبة التي تنمو فيها البلاد غربية الحضارة، بل وكل الخطط الاجتماعية والثقافية والتربوية مسخرة لخدمة ذلك الاقتصاد.
سأعطي مثالين على ما انتهجته الحضارة الغربية بالنسبة لاعتبارها “الغرب” مركزًا للأرض، وبالنسبة للاقتصاد المحوري الذي سيدرّ عليها الربح والمنفعة، ولا ضير من ذكر أنّ هاتين الكلمتين هما كلمتا سرّ هذه الحضارة، فالربح والمنفعة كانا ولا يزالان حاكمين في المشروع الحضاري الغربي منذ بدايته.
المثال الأوّل: مركزية الأرض، أمريكا نموذجًا
ما سأذكره مأخوذ من كتاب “أميركا والإبادات الجماعية” للكاتب السوري الأصل منير العكش الذي روى فيه منشأ أميركا والأحداث التي رافقتها:
“لم تكن إبادة 18.5 مليون هندي أحمر على يد المستعمرين الإنكليز في المنطقة المعروفة اليوم بالولايات المتحدة حادثة فريدة في التاريخ الأميركي، ولم تقتصر حروب الإبادات على الهنود الحمر، بل إنّها رافقت تاريخ الولايات المتحدة القديم والحديث، داخل القارة الأميركية وخارجها، وكانت من أهم عناصر فكرة أميركا”.
ويكمل العكش: “إنّ فكرة أميركا نفسها (فكرة استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة) هي التطبيق العملي للفهم الإنكليزي لفكرة إسرائيل التاريخية. وإنّ كل تفصيل من تفاصيل الاستعمار الإنكليزي لشمال أميركا حاول أن يجد جذوره في أدبيات تلك الإسرائيل ويتقمّص وقائعها وأبطالها وأبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية”.
وكل ما فعله المستعمرون في أرضِ غيرهم إنّما كان تحت مبدأ “حق التضحية بالآخر”، وللأسف هذا ما اعتبره الغرب أساسًا لمنهجهم في مختلف القضايا، فما الغاية التي تبرّر الوسيلة إلّا ضمن إطار هذا الحق!
لاحظوا كيف أنّ أرضًا يسكنها شعب ما، فيأتي من الخارج شعبٌ يدّعي أنّه بلا أرض، فيعيث خرابًا في أرض الغير، يضحّي به، يقتله ويشرّده، ثم يقول: “شمال أميركا، هي أرضٌ بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض”!
ومن هذا المنطلق الذي قطفه الغرب واضعًا إياه في دساتيره، أصبحنا اليوم نعيش ضمن تصنيف الأقوى، الذي يمتلك قدرات الهجوم، بحيث أصبح الغرب القوي متحكّمًا بباقي أطراف العالم الضعيف. والأقوى يسلب الضعيف خيراته وكنوزه، تارةً بالاستعمار، وتارةً بالاغتيالات الاقتصادية والسياسية، وتارةً عبر الثقافة التي يرنو بها لأن يغيّر تفكير الضعيف، فيصبح الأخير مقتنعًا بضعفه، ومسلّمًا للغرب “ربّ الاقتصاد” وبالتالي تصبح الحضارة الغربية -تحت هذا التأثير- بالنسبة لشعوب العالم مكان التكامل الثقافي، والتقدّم الاقتصادي، فيطمح ولو على الصعيد الفردي للاقتداء بذلك النموذج والسير على خطاه.
المثال الثاني: محورية الاقتصاد
عندما يتم طرح سؤال لماذا الاهتمام بالاقتصاد؟ وما هي الغاية المرجوّة منه؟ قد يأتي الجواب الغربي بأنّه لمكافحة الفقر والحرمان، أو لتوفير الرفاهية، أو لعمارة الأرض، أو لإحراز التقدّم الثقافي والعلمي والصناعي وغيرها.
ولكن إليكم بعض الأرقام الناتجة عن هذه المحورية، من كتاب أميركا الحزينة للصحافي الفرنسي “ميشال فلوكيه” حيث يذكر أنّ 170 ألف عائلة أميركية يمثّلون 1% من عدد السكان، يملكون 25% من الثروة الوطنية الأميركية!
كما يذكر أنّه في استصراح أجراه بنك Morgan Stanley سأل فيه مودعيه: ماذا يفضّلون أكثر، الموقع الاجتماعي أم الربح؟ لتكون الإجابة 55% للربح، و35% للجمع بينهما، و15% للموقع الاجتماعي.
كما لا يمكن تجاهل أرقام أثرياء العالم، فـ”ستيف إلس” صاحب سلسلة مطاعم Chiptole السريعة، وهو الأقل ثراءً بين أثرياء أميركا الكبار، تقدّر ثروته بحوالي 70 مليون دولار، والغريب في أنّ هؤلاء يعتبرون في تلك الحضارة نجومًا، وأبطالًا، ونماذج للحلم الأميركي، حيث تعرض صورهم على الصفحات الأولى للصحف!
كما يرصدها بالأرقام، فـ”فلوكيه” يعتبر أميركا أيضًا بلد الـ50 مليون فقير، وبلد الـ70 ألف جسر بحاجة للصيانة بشكلٍ طارئ.
يمكن استخلاص ثلاثة من المدعّمات التي بنيت عليها تلك البلاد، فيتّضح أنّها باستخراجها لكنوز المناجم في القارة الأميركية التي حقّقت بها الثروة، ومجازرها بالسكّان الأصليين التي أمّنت بها الأرض، وطبعًا لا يمكن نسيان استعباد الأفارقة الذي كان علامة بارزة في مسار هذه الحضارة. وكلّها تلخّص في كلمة واحدة هي “الجشع”.
في الختام لا بدّ من ذكر ما قاله الإمام الخامنئي حفظه الله منذ مدّة: “القوّة الناعمة لأميركا متجهة نحو الأفول والضمور والسقوط. وهذا ليس بالشيء الذي أقوله أنا، بل هو من الآراء التي يطرحها علماء الاجتماع المهمون في العالم اليوم”. ويعتبر هذا الإمام العظيم أنّها تسير نحو الأفول بلا أي كوابح نتيجةً لهذا الجشع، ونتيجة طبيعية لتلك المبادئ والأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية.
والسؤال الأهم: هل الغربيون أناسٌ كاملون، أم أنّ الذي يسيطر عليهم هي الذهنية التجارية والعقلية الاستعمارية؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.