د. محمود موسوي – خاص الناشر |
عند كل محك تتّضح هشاشة هذا الكيان ويتفسّخ الجدار ليرسم خطوطًا لم تخفها طويلًا ريشة الدهّان بلونيها الأبيض والأحمر، لوني العلم اللبناني.
عند كل أزمة يظهر جليًّا أنّ التناقضات التي حضرت عند تشكيل دولة فرانكشتاين الكبير ما زالت مؤثّرة، وأنّ القوى المتصارعة حينًا والمتحالفة حينًا آخر لم تستطع بلورة مشروعٍ يوحّدها ويعطي الشرعية لوليد سايكس بيكو ويؤسّس لوطنٍ حقيقي.
ما زال التيار “الفينيقي” حاضرًا، وهو عامةً من المسيحيين وخاصةً قسم من الموارنة الذين انتدبوا من الفرنسيين للعب دور عريف الصف، وتمّ خلق كيان عجيب على مقاسهم مع اقتطاع أجزاء من هنا وهناك لإكمال العدد، كما يقال في لغة كرة القدم، على أن يكونوا الكابتن والهدّاف بينما يقوم الآخرون بتمرير الطابة لهم.
لأجل هذه الأقلية التي ترى نفسها نخبة فريدة من نوعها اخترع أيضًا تاريخٌ وعراقة وحصلت معجزة ربط الجبل المسيحي الذي ورث المتصرّفية بالساحل الفينيقي القديم وصار للموارنة القاطنين خارج دولة لبنان الكبير أيضًا شرعية وحق في القدوم إلى لبنان والحصول على ختم الأصالة الفينيقية.
لم يشرح لنا المستشرقون الفرنسيون كيف استطاعوا إقناع البطريركية بربط رعيّتها بعبدة أوثان ولكن ربّما كان اختيار الوثنية أقلّ إزعاجًا من الانتماء إلى العالم العربي. في نهاية الأمر هم هواهم غربي ورحّالة الأم الحنون قد أسبغوا عليهم لقب السحنة الفينيقية التي يرصدها فرنسي القرن التاسع عشر من بعيد ويميّزها عن العرب والمصريين “الفراعنة”.
قسمٌ آخر من المسيحيين، وكانوا من روّاد الأدب والشعر، بقي وفيًّا لمشرقيته ولكن أبت نفسه أيضًا أن يكون تحت حكم المسلمين والعرب فانقسم إلى مدرستين؛ تلك التي لجأت إلى القومية العربية، وكان لسان حالها يقول إنّها أصيلة العروبة قبل الإسلام نفسه فجاء هذا الانتماء العربي ليوفّر لها قاعدة عريضة ويعفيها في الوقت نفسه من الخضوع للأكثرية المسلمة ويشركها في معركة التخلّص من العثماني الذي كان أيضًا مطلب الغرب، وهي صدفة تندرج ضمن محاسن الصدف.
أمّا المدرسة الثانية فقد استطاعت ضرب عصفورين بحجر واحد عندما أعلنت سوريتها المشرقية فحيّدت الإسلام دون الوقوع في فخ الارتباط بالعروبة. لقد توفّر لهذه الأيدولوجيا ما لم يتوفّر للحلول الأخرى فقد وجدت في فكرة السورية المشرقية ندًّا تاريخيًا للفينيقية يتفوّق عليها بلغة محتضرة لما تمت بعد. الأجمل من ذلك بالنسبة للكيانيين السوريين أنّها أعفتهم من الالتحاق بالكيانية اللبنانية بحكم أنّ اللفظ أقرب إلى سوريا سايكس بيكو من الجزء اللبناني الذي احتكر الفينيقية.
عند قيام دولة لبنان الكبير كان هناك أيضًا قوّة مسلمة تتألّف من راعٍ سنّي وأقليات مذهبية في المنطقة تمّ إلحاقهم بالمعية دون أن يكون لهم دورٌ مفصلي. والحق يقال إنّ الثقل السنّي كان مهمًّا بسبب ميل الكثير من أبنائه إلى المركزية العثمانية التي كانت تمثّل مركز الخلافة. غير أنّ التيّار القومي العربي آنذاك باركته بريطانيا وأغدقت الوعود على من سمّى نفسه “ملك العرب”، أي الشريف حسين، فنادى بالثورة العربية وبنقل مركز الخلافة إلى العرب من جديد، ولكن ما وفى الغرب بوعوده، فما طال الملك العربي بلح الشام ولا عنب اليمن.
قد تكون القوّة الاجتماعية السنّية أكثر الغائبين اليوم عن مسرح القوى المجتمعة عشيّة 1920، إذ لم تكد تصحو من صدمة خسارة الخلافة العثمانية وانهيار حلم الخلافة العربية حتّى نكبت مع المشروع القومي الناصري ثمّ أصيبت بالإحباط بعد تعويلها على صدّام حسين كرمز للنهوض العربي ومعيد أمجاد العرب في انتصاراتهم على الروم والفرس. هذا الغائب الأكبر قد ترك الساحة الإسلامية خالية من ثقل عربي تحرّري وجعلها جاريةً في قصر الرجعية العربي بينما ملأ هذا الفراغ في لبنان عقيدةٌ أخرى لها امتداداتها الدينية التي تتخطّى القومية العربية والكيانية اللبنانية. لقد حقّقت هذه الحركة الشيعية الكثير من النجاح على مرّ الزمن ودفعت ثمنه الكثير من التضحيات إن كان عبر مقاتليها أو عبر بيئتها التي ساندت قبل ذلك الموجة الشيوعية والأيدولوجيات الأخرى دون نجاحٍ يذكر خلا السعر الكبير الذي باع به قيّاديوها أنفسهم في مزاد المال الخليجي والحريري. غير أنّ هذا النجاح بقي هشًّا من الناحية الجماهيرية العربية؛ فقد شكّلت رموزها التاريخية وارتباطها بالأخ والعدو التاريخي للعرب، أي إيران، عامل إضعاف لشعبيّتها استغلّه الإعلام العربي والغربي بشكلٍ فعّال وساهمت في ضربه الحساسية المفرطة للقوى الأخرى تجاه خطابها الديني؛ فالسنّي لا يريد شيعيّتها والشيوعي يرفض التزامها الديني والقومي العربي يعيش هاجس أمميّتها والسوري المشرقي يحبّها عندما تدافع عن أبنائه ويبغضها عندما تعتزّ بهويّتها.
اليوم تحضر إذًا الكثير من القوى التي تصارعت قبل لبنان الكبير مع فارقين أساسيين هما الغياب السنّي والحضور القوي للمهدوية الشيعية. والملفت للنظر هو تشكّل مزاج عام عند هذه القوى يتمنّى المصير الأسود للحركة الشيعية أو يحلم في أحسن الأحوال أن تطرد هذه المقاومة الهيمنة الغربية ثمّ تخلي له الساحة كي يحكم بأيدولوجيته “النبيلة” والقادرة وحدها برأيه على أن تؤسّس لدولة قوية وعادلة بعيدًا عن الأساطير و”الخرافات” التي يصف بها الحزب المقاوم الأبرز. يبقى لهذا التيّار الذي يتقاطع مع حركة التحرّر أن يشرح لنا قبل ذلك كيف فشلت أيدولوجيته في تحرير الأرض قبل ظهور هذه الحركة التي ينعتها في مجالسه بأسوأ الأوصاف. مهما كان الجواب فإنّه من الواضح أنّ لبنان كما نعرفه قد انتهى وأنّ المستقبل سيكتبه من قلّ كلامه وكثر عمله، مهما أخطأ.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.