يعلمُ العارفون بطبيعة المكوِّن السياسي اللبناني، وغير العارفين، أن التحقيقات “القضائية” في القضايا والأحداث الكُبرى في لبنان قلّما تصل إلى خواتيمها، إنما يصبح مسار التحقيق جزءًا من مسار الاستغلال السياسي الذي يتّبعُه الغرب، ممثلًا بالولايات المتحدة، بدايةً، ومادةً للأفرقاء الداخليين المعادين للمقاومة. إذ ما إن تقع الكارثة، حتى تُصوَّب السهام، منذ اللحظة الأولى، اتجاه الاستغلال السياسي في وجه المقاومة، فيضيع حق الشهداء والجرحى والمتضرّرين، ويفلت المرتكبون من عقابهم.
في الأصل، إن من يطّلع على الخصائص التي تكوِّن الكيان اللبناني، يجد من الصعوبة البالغة محاسبة أحد على ارتكاباته؛ فكل فرد داخل المنظومة السياسية، وغير السياسية، يتبع إلى مرجعية معيّنة، لها نفوذها الداخلي “العميق”، مدعومة من المجموعة الخارجية التي تهيمن بشكلٍ كبير على المسار السياسي القائم في لبنان، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
إذًا، لبنانُ هذا، “الحالة الفريدة في هذا العالم”، يحتاج إلى مقاربات دقيقة في بيئةٍ متشعّبة ومتداخلة، تشرّع الأبواب دائمًا أمام الاستغلال السياسي وتشتيت الوَعي.
مساءَ الرابع من شهر آب عام 2020، اخترق صوتُ انفجار ضخم صخَب العاصمة وضجيجها، وحوّل، في لحظات، حياتها الطبيعية، إلى جُثَثٍ متناثرة في الهواء، وأنين جراحاتٍ مترامية على جوانب الطُرُقات، وبيوت مترهِّلة آيلة للسقوط فوق رؤوس قاطنيها، وأخرى سقطت فوق رؤوسهم!
تحريف مسار الوعي لاستهداف المقاومة
رغم عظمة المشهد و “كارثيّته”، ورغم الدماء التي سالت على طرقات العاصمة، وأوجاع الجرحى الذين غصَّت بهم المستشفيات، لم يتأخّر بعض اللاهثين نحو فُتاتٍ “يتكرّم” بها عليهم سيّدهم “الخارجي”، إلى التصويب السياسي المباشر. ولم يمضِ على الكارثة إلا بضع دقائق معدودة، حتى وجَّه “تُجّار الدم” أصابع حقدهم نحو المقاومة، مُستغلّين دماء الأبرياء وأرزاقهم، مادّةً “دسِمة”، لاستهداف المقاومة، ورموزها، وشعبها.
ولولا قناعتي الداخلية أن الانفجار غير مُفتَعَل، لكنتُ أكّدت أنه كان جزءًا من المسار الذي ابتدَأَ منذ 17 تشرين قبل عام من الحادثة. لكن، وحتى لو لم يكن جزءًا مُفتَعَلًا، تم إدراجُهُ مباشرَةً ضمن الأجندة المُتَّبَعة منذ ذلك التاريخ المذكور.
وكما شعار “كلن يعني كلن” التشريني، والذي تبيَّنَ لاحقًا أنه يستهدف المقاومة فقط، جرى تأطير العبارات المُعَدّة مُسبقًا داخل الشعارات التي تم اتّباعها ضمن سياق استغلال الحادثة، كشعار “كانوا يعلمون”، على سبيل المثال وليس الحصر، والذي كان بشكلٍ صريح، يستهدف الأمين العام لحزب الله، فقد أتى الشعار بعد سياق الاشارة إلى كلام سماحته أنه يعلم ما يوجد في مطار حيفا (داخل فلسطين المحتلة)، في إطار معركة الحزب الأساسية مع الكيان الصهيوني، فبُنِيَ بالتالي أنه كان يعلم ما يحتوي مرفأ بيروت، وعلى أساسه أُدرج هذا الشعار، والذي أوحي أنه يستهدف كافة الطبقة السياسية، لكن السياق الذي “أُسقِطَ” على الناس من خلاله، يبيّن جليًا أنه كان يستهدف أمين عام المقاومة حصرًا، بطريقة مُلتفّة لإبعاد شبهة الاستغلال السياسي عن الجهات المُستغِلّة.
وهكذا كان اللعب على تحريف الوعي داخل تفكير شريحة مُعتَدّ بها في المجتمع اللبناني، والتي بالمناسبة، كانت نفس الشريحة التي “انجرف” وعيُها بعد تيار 17 تشرين، وهي مشكلة أساسية تكمن عند كل مواجهة يُستغلّ بها العقل الشبابي بشكل خاص، والذي يصبح أداةً مطواعةً في يد أصحاب المشاريع التي تصبّ في النهاية في استهداف مشروع المقاومة بشكل مباشر.
وشكّلت الوسائل الإعلام “الثلاثة”، كما امتَهَنَت منذ 3 سنوات، رأس الحربة في التحريض على المقاومة وحرف الأنظار عن مكامن القضية الحقيقية وتصويبها تجاه مسارات أخرى تصبّ في النهاية في إطار الاستغلال السياسي البحت، وهي مشارِكة بشكل واضح في منع الوصول إلى الحقيقة المنشودة ومعرفة المسؤولين الحقيقيين عن هذه الكارثة ليجري محاسبتهم على ما اقترفوا.
منظمات المجتمع المدني في خدمة الاستغلال السياسي
في خلفيّة المشهد، بعد حادثة الانفجار الضخم، نشطت جمعيات المجتمع المدني المدعومة من دول الغرب، والقائمة بذاتها على أساس أنها جزء من مسار مشروع الهيمنة الغربية. نشطت هذه الجمعيات في أزقّة بيروت المدمّرة، وصار عدد الجمعيات العاملة على الأرض أكثر من عدد الوحدات المتضرّرة!
تعاملت تلك المجموعات مع الناس مباشرةً، وكانت تنغل كالنار في الهشيم، توحي أنها الأمل الوحيد الذي سينقذ ضحايا الانفجار، وأنها مصباح الضوء في وسط العتمة التي حلّت على أبناء العاصمة منذ مساء ذلك اليوم المشؤوم.
في الحقيقة، إن فساد تلك الجمعيات، لا يقلّ عن فساد الطبقة الحاكمة في لبنان، وربّما يتخطّاه في كثير من المحافل، وهي تنتهج المحسوبيّة السياسية التي تخدم المشروع الذي تُعنى به، بدليل أنها لم تهتمّ لأحياء شاسعة غرب بيروت، تضرّرت جرّاء الانفجار، لأن تلك الأحياء تُعتبر محسوبة على جمهور المقاومة. هي من جهة أخرى، حاولت استغلال الوضع لتأليب هذه البيئات على المقاومة، لكنها انكفأَت بعدما فشلت ولم تنجح في تحقيق مبتغاها.
في الواقع، طالما أن أصل وجود تلك الجمعيات “الأنجِيئوزيّة” كان في خدمة مشروع استهداف المقاومة في المواجهة الناعمة القائمة، فإن مكان وجودها، أينما حلّت، يُعتبر شبهةً، ويحتاج إلى التعامل بحذر معها بغية عدم الانجرار نحو سياق مشاريعها المشبوهة.
حزب القوات يقود الحراك من جديد
نَصَّب سمير جعجع نفسه مجدّدًا قائدًا لحراك البحث عن الحقيقة ومحاسبة “المجرمين” (!)، بعدما أصبح قائد “الثورة” والمتحدّث باسمها.
مشروع جعجع، المعروف، هو جرّ البلد نحو الحرب الأهلية والاقتتال، خدمة خالصة لمشاريع دول خارجية، “إقليميّة” بالتحديد. وهذا ما تجلّى في المجزرة التي ارتكبها حزبه، والتي يتحمّل مسؤوليتها شخصيًا، في الطيونة، أثناء إقامة مظاهرة سلمية تضمّ عددًا من أصحاب الشأن الحقوقي، كانت تقصد قصر العدل. ووفق الاثباتات والشواهد التي ظهرت بعد الحادثة، يتحمّل سمير جعجع مسؤولية الدماء التي سقطت، وكان هدفه استدراج ردّة الفعل على المجزرة المروّعة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وبالتالي الذهاب نحو الاقتتال الداخلي الذي يهدف مشروعه.
رغم ذلك، بقي جعجع ناطقًا باسم ضحايا انفجار المرفأ، مستغلًا وجود عدد من أهاليهم ضمن خطّه السياسي، وأظهَرَ الأمر على أنه في مواجهة المقاومة، وأن خصم الضحايا هو المقاومة، وأن الأخيرة هي المسؤولة عن الانفجار، وهي تخزّن السلاح في المرفأ تارةً، وتمنع تفريغ النيترات تارةً أخرى.
هكذا، وبالأساليب المُتَّبَعة منذ سنوات، يبيع “تجّار الدم” ضحايا وطنهم وأبناء مجتمعهم. يبيعون، كما باعوا منذ تأسيس الكيان، سيادة وطنهم وحقوق شعبه، ويدوسون على استقلاله كرامة خدمة مشاريع الأعداء الذين يريدون تفتيت ما تبقى من الدولة الهشّة بأصلها، لإحكام السيطرة على قراراتها السياديّة، وتمرير مشاريعهم الاستعمارية على حساب الشعوب، كما ومحاولة إقصاء كل العقبات التي تعترضهم، وعلى رأسها المقاومة، التي تقف سدًّا منيعًا في وجه مشاريعهم المُتَجَدِّدة، وتنتصر عليها في الكثير من المحافل.
يجبّ أن لا ننجرّ خلفهم، وأن نكون يقظين دائمًا، وأن نستحصل على حقّ ضحايانا المظلومين.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.