كان اللون الأرجواني يعبق بكل شيء في ذاك الصقيع المترامي الأطراف، حيث الصهيل المنكر لريح جليدية ستحمل بعد أيام فراشًا أبيض لكل لبنان، وسيتحول ذلك المعسكر إلى جحيم ثلجي لا يطاق. وصار الأثير أنسًا يلاطف آذانهم وشغاف قلوبهم إذ كانت عاصفة الليل تلك تتعطر بأنفاس فجر الجمعة الصادق وتحمل معها رنات صوت سحيق لمؤذن عتيق في إحدى القرى المهملة إلا من فطرة لم تتلوث بالمادية، وعشق كبير لله.
دبت الحركة في كل المعسكر وكان عليهم أن يسرعوا الخطى لأداء صلاة الصبح والاستعداد بكامل لباسهم العسكري وعتادهم ، لبرنامج يوم «التخشن»، وصاروا يزحفون مع ضوء الصباح المكفهر برماد السماء إلى نقطة التجمع، وبدأ البرنامج متضمنًا صلاة الجماعة وقراءة دعاء العهد اليومي، ثم قراءة دعاء الندبة ومناجاة صاحب الزمان (عج) حبيب قلوبهم وملهم أرواحهم وقبسهم النوري للدفء في هذا الصقيع الذي يختزن بردًا لو وزّع على مدافىء المنطقة كلها لرفضته وطردته.
أدوا الورد اليومي، وأخذوا التشكيل المناسب لدعاء الندبة. وليتك تحضر معي ذاك المشهد لتبكي عليه دمًا بعد انقضائه ليصبح وجعًا تشهره ذاكرتك كلما احتجت لبطاقة سفر إلى عالم الآخرة.
جلس العشرات من المجاهدين بكامل لباسهم وسلاحهم على عواتقهم يندبون الإمام (عج). نظرة واحدة إلى هذا التشكيل تعطيك الدليل على أن أمة كهذه الماطرة دمعًا في صبح قارس في مكان ناءٍ، والمحترقة لوعة على غيبة إمامها، هي الوصفة السماوية الوحيدة لإذلال بني إسرائيل قتلة الأنبياء.
لقد اشتدت تقاسيمهم عن اللحظة الأولى للتعارف؛ فقد أصبحت سحنات الوجوه أكثر عزيمة وإشراقًا وأشد قساوة، وبتَّ ترى بعض اليافعين أكثر رجولة من ذاك الكائن الضئيل الذي عاش ردحًا من عمره على فراش وثير وكرسي ناعم في بيت، أو طالبًا في جامعة أو موظفًا في مكتب. فلا نعومة مع الصخر الصلب والشوك ونوم العراء وأصوات الذئاب والضباع والتدريبات القاسية، التي تتخللها عملية صقل روحية، بدنية وعقلية شاقة لا تخلو من عقوبات يطلق كل عقاب منها تلك الروح من إسار أنانيتها ويشد عضدًا في عزيمة المجاهد. وكل هذا كان يحدث لأن السر من كل الأمر أنه لا نعومة مع الصهيوني، ولأن الدمع في هكذا ظرف لا يخرج إلا من دم القلب ومن الرجال؛ فقد بدأ الراثي يفترش وأخوته نياط القلوب لتجأر نياحة ودمعة بندبة الإمام المهدي (عج) لتخرج الأسرار في ذاك الصقيع البعيد صرخات لاهبة وأنات مقروحة ولتحول الجماعة كلها إلى نفس واحدة تخرج من عالمها الترابي لتنقل نجواها إلى حيث يقف مولى الكل (عج) عساه يرى بينهم من يستحق أن يسمع آهاته وزفراته، وعسى الحبيب أن يرجع بدمعه كل شيء بينهم إلى الأصل حيث الرقة والمؤانسة والفطرة التي انقشعت عنها غبار الكثافات.
وينقلب كل شيء رأسًا على عقب أنّى ندب الراثي قلبه إلى كربلاء مجمع الوجع والمصائب، ليشدهم إلى حيث سبقت أرواحهم للثأر الموعود، يزحفون كلهم مع الروح يبثون للقائم (عج) عزاءهم، وهو العزاء والرجاء.
«فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما فليبك الباكون وإياهم فليندب النادبون ولمثلهم فلتذرف الدموع ويصرخ الصارخون ويضج الضاجون ويعج العاجون، أين الحسن… أين الحسين أين أبناء الحسين».
ثم يتلو راثيهم المصيبة، ويتلو مقاطع من زيارة الناحية تنقل حال الإمام المهدي (عج) كل صباح ومساء بلسانه وكلامه، «سلام من قلبه بمصابك مقروح ودمعه عند ذكرك مسفوح سلام المفجوع المحزون الواله المستكين، سلام من لو كان معك في الطفوف لوقاك بنفسه حد السيوف، وبذل حشاشته دونك للحتوف، ولئن أخرتني الدهور وعاقني عن نصرك المقدور، فلأندبنك صباحًا ومساءً ولأبكين عليك بدل الدموع دماٍ، حسرة عليك وتأسفًا على ما دهاك وتلهفًا حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتئاب».
ويتفجر رضاب العشق قوارير عطر ودمعًا هاطلًا يستمطر نظرات اللطف من الإمام (عج) ليستقر هذا اللطف في العيون والقلوب بهاءً مرهفًا تتحسسه نسيمًا باردًا يمس المآقي فينعش القلوب ومعها الأجساد بدفق من الحيوية والأمل. ويصبح الإمام (عج) هو الثأر، «أين الطالب بدم المقتول بكربلاء؟».
«عزيز عليَّ أن تحيط بك دوني البلوى ولا يهم لك مني ضجيج ولا شكوى عزيز عليَّ أن يجري عليك دونهم ما جرى، هل من معين فأطيل معه العويل والبكاء؟ هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى؟ هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى؟».
يرونه ثأر شهيد كربلاء فيصرخون كلهم يا أبا عبد الله الحسين (ع)، يذكرون صرخته في عاشوراء (هل من ناصر ينصرنا ، أهل البيت (ع)؟ هل من معين يعيننا؟ هل من ذاب يدفع عن حرمنا؟».
إنهم هناك ليتدربوا على نصرة الإمام الحسين (ع)، ويَزيدهم اليوم «إسرائيل»وحسينهم هو الحجة القائم (عج) الذي يبثونه الشكوى. هذا فراس يخاطبه وقد كشف عن سره: يا ابن الحسن (عج)، وهذا أبو زهراء يجأر وقد طلق جديته المعهودة ليستكمل البحث كما فراس عن الصاحب الموعود (عج)، فقد أوسعوا المنطقة بحثًا ليلًا ونهارًا، في الزمهرير القارس وعلى عويل الذئاب والضباع، وهذا صادق وساجد وكميل وأبو الفضل وأبو محمد يتهللون كأسد سجين، وهذا هادي يغطي صوته كل الصرخات اللاهبة حتى يصلوا إلى محطة النهاية حيث ينتهي الدعاء ليستعدوا للتخشن، وكأن الهيئة التدريبية التي جلست تندب إمامها المهدي (عج) معهم أحبت أن تختبر القول والدمع هنا بالفعل حيث كل شيء يذكرك بالعذاب والجحيم والصلابة هناك في حقل التخشن.
تقدم المدرب الرئيسي وبدأ يتحدث إليهم بكلمات مقتضبة حول معنى العزيمة في خط أتباع إمام الزمان وكيفية نصرة الإمام الحسين (ع) فعلًا لا قولًا، وقال: أنتم اليوم على خط الانطلاق في عالم الفعل وسنرى إذا كنتم ستنجحون حقًا في الامتحان”. ثم طلب مهم التجرد من كل شيء وخلع الثياب إلا «البنطلون»، ولما أصبحوا كلهم على أهبة الاستعداد (حفاة، نصف عراة)، بدأت حفلة «التخشن»، ركض على الصخر والشوك وتدحرج وقفز، ثم زحف على الشوك اليابس الذي تكفي شوكة وحدة منه لكي تؤكد لك أن لله جنودًا من غضب ذخيرتهم الشوك.
هذا وصرخات المدرب تزلزل الصخر كله وتحاول أن تختبر قلوبهم التي ما زالت هناك، حيث جلسوا يبثون للحجة شكواهم (ع). وأمر المدرب أن يفتشوا عن أكبر «جباب البلان» ويتخذوها فراشًا. وكم وجدوا هذا الفراش الشائك ناعمًا رغم محاولات هيئة التدريب عصر هذا الشوك بأجسادهم نومًا وانبطاحًا وزحفًا ودحرجة، إلا أن الدمعة التي نزلت هناك حيث تحلقوا لتلاوة دعاء الندبة بقيت تنزل هنا على الشوك حيث بدأ الجميع وبصوت واحد يسلمون على إمام الزمان ويدعون دعاء «اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن …».
وكما تمرغوا بدمع الفراق هناك فقد تمرغوا بدمع العشق هنا «وليت شعري أين استقرت بك النوى بل أي أرض تقلك أو ثرى».
في ذلك الوقت بالذات كانت مجموعة أخرى قد اجتازت منذ سنوات قبلهم خط الانطلاق، تخترق الشوك والصخر وتتقدم نحو المهدي الموعود لتلثم التراب تحت قدميه ولتبث له عشقها «اللهم أدخل السرور بنا على قلب إمامنا وقائدنا المشرد في البراري والقفار». كانت تتقدم إلى قلعة من حصون اليهود فتأتيهم من حيث لم يحتسبوا، لتحطم الحصن وتفري ثلاثة من جنود نخبته فتصرعهم، وكان الفوز في هذا اليوم من نصيب شهيد، غبطوه كلهم، المفترشون حقل شوك بعيد في مكان ناءٍ، وإخوته عناصر مجموعته الذين وفقوا لإدخال السرور على قلب مولى الكل (عج).
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.