بعد أربعين عامًا على تأسيسه، لا يبدو واقع “حزب الله” اليوم شبيهًا بواقعه منذ أربعة عقود. فبالنسبة للبعض، لا يعدو الغوص في مسار التنظيم منذ نشأته إلى اليوم كونه مجرد استعراض ممتع وشيّق لتاريخ مقاومة لم تنفصم عراها النضالية المتصلة بهموم شعبها، وقضاياه، وهو أمر لا يسلّم به آخرون. وإذا كانت اللحظة التاريخية لنشأة الحزب قد تقاطعت مع رغبة قسم كبير من اللبنانيين بمقاومة الاحتلال “الإسرائيلي”، إلا أن الأسئلة التي تحاصر الحزب، اليوم، تبدو مغايرة تمامًا لمبررات النشأة، وتفسيراتها. فالنظرة إلى “إسرائيل” اختلفت، في ضوء تسارع مسار التطبيع بين بعض الدول العربية و”إسرائيل”، كما أن تناسل الحروب الداخلية في المنطقة بعد أحداث “الربيع العربي” أوجدت فالقًا في العلاقات البينية ضمن النسيج الاجتماعي للدولة الواحدة، يقوم على خطوط التباينات المذهبية، التي يجد التنظيم اللبناني نفسه اليوم من حيث يدري أو لا يدري أحد أطرافها. فأين يقف الحزب في يومنا هذا؟ وما هي مقاربة أعدائه لتطور دوره وآفاق المواجهة معه؟
“حزب الله”: بين حيثيات المعادلة السياسية في لبنان وقواعد الاشتباك مع العدو
على وقع محاولة استكشاف مفاعيل نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان، والتي خسر فيها معسكر حلفاء “حزب الله” أغلبيته في البرلمان، يغلب مناخ الترقّب الحذر لدى الجانب “الإسرائيلي” حيال تلك النتائج.
ورغم أن دوائر أمنية وسياسية في تل أبيب لا تخفي بهجتها بـ “الخسارة البرلمانية” للعدو اللدود لـ “إسرائيل”، القابع على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، إلا أن محللين يعتبرون أنه، وبصرف النظر عن الهوية السياسية للمرشح القادم لرئاسة الحكومة اللبنانية المقبلة، وعما إذا كان سيتبنى أجندة صدامية مع الحزب، أو متعاونة معه لاعتبارات عدة، لا يمكن المغالاة في التفاؤل بانعكاسات ذلك على الواقع اللبناني المعقّد، والدور الفاعل للحزب فيه.
فمن جهته، يستذكر الباحث “الإسرائيلي” المختص بالشؤون اللبنانية والسورية يال زيسر أن الحكومات السابقة المتعاقبة لسعد الحريري، وهو خصم سياسي لـ “حزب الله”، “لم تفعل شيئًا لمواجهته”. من جهة أخرى، يطرح أفراييم انبار، وهو أستاذ جامعي في جامعة “بار ايلان” العبرية، ومتخصص في الشؤون الاستراتيجية، سيناريو إمكانية العودة إلى تشكيل حكومة لبنانية، على وفاق مع “حزب الله” حول بعض القضايا الجوهرية، معتبرًا أن ذلك السيناريو “لا يعني أن مقاتلي الأخير سيشرعون بإطلاق النار علينا في اليوم التالي، وذلك على خلفية الانشغال بالوضع الداخلي هناك”، في إشارة إلى توازن قوى داخلي في لبنان غير مريح لتل أبيب، ولكن مضطرة إلى التعامل معه وفق معادلة “الهدوء مقابل الهدوء” على الحدود الشمالية للكيان.
ومع ذلك، تنقل تقارير إعلامية “إسرائيلية” عن مسؤولين تحذيرهم مما يعتبرونه “هيمنة تمارسها إيران على الدولة اللبنانية من خلال حزب الله”، مكررين مطالبهم بحصر السلاح بأيدي الأجهزة الرسمية اللبنانية. في هذا الإطار، يشير الجنرال “الإسرائيلي” المتقاعد، والمستشار السابق لشؤون الأمن القومي لحكومة الاحتلال، غيورا ايلاند، إلى أنه “يتعين على إسرائيل، في حال أرادت كسب الحرب المقبلة، عدم الاكتفاء بضرب حزب الله فقط، بل ضرب البنية التحتية للدولة اللبنانية الحاضنة له كذلك”، مجادلًا بأن مشاركة “حزب الله”، أو دعمه لأي حكومة لبنانية مقبلة “سيجعل من مسألة إقناع المجتمع الدولي بأحقية محاربتنا للدولة اللبنانية، أمرًا أكثر سهولة”.
وعن قواعد الاشتباك بين “حزب الله” والجيش “الإسرائيلي”، ينقل موقع “ميدل إيست آي” عن دوائر مقرّبة من الحزب قولها إنه “من الواضح أن إسرائيل تريد تجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع الحزب، انطلاقًا من رغبتها في الحفاظ على الوضع الراهن القائم، وإقرارًا منها بوجود خطوط حمر لا يمكن تجاوزها” على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. وتستعيد تلك الدوائر محاولات تل أبيب، خلال الأعوام الماضية، تغيير قواعد اللعبة مع المقاومة اللبنانية دون جدوى، رغم إدراكها أن الواقع السياسي الهش داخل كيان الاحتلال حاليًا، يبقي المجال مفتوحًا أمام محاولات جديدة على هذا الصعيد، وهو ما استلزم القيام بحركة استنفار غير معتادة، ومناورات طارئة على الجانب اللبناني. ضمن هذا الإطار، يعتبر آفي ميداد، وهو محلل مختص بالشؤون الاستخبارية، أن المؤسسة الأمنية في تل أبيب تهدف، ومن خلال نشاطها على الساحتين اللبنانية والسورية، إلى إشعار إيران، وحلفائها، بانكشافهم أمامها، موضحًا أن “نشاطها الأمني في لبنان يكتفي، حتى الساعة، بالتركيز على جمع المعلومات، والاستطلاع المتواصل”. أما في سوريا، فيعدد المحلل “الإسرائيلي” مزايا العمل “الغامض”، و”السري” على تلك الساحة بالنسبة لتل أبيب، بالنظر إلى تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين هناك، مضيفًا أن “الإسرائيليين” قرروا في ضوء ذلك “الحد من شن غارات مباشرة تلحق خسائر بشرية كبيرة” في صفوف عناصر “حزب الله” والقوات الإيرانية المتواجدين على الأراضي السورية.
وربطًا بتداعيات الأزمة الاقتصادية في لبنان على الواقعين السياسي والأمني، ينقل الموقع عن مصادر استخبارية تقديراتها باحتمال انكشاف البيئة الأمنية للمقاومة، مشيرة إلى أن الأخيرة تواجه خطرين أساسيين، أحدهما متعلق بواقع الفساد المستشري في لبنان، والآخر يتصل بالقيود المالية المفروضة على الحزب.
نموذج حزب الله الإقليمي: “أنصار الله” المثال الأبرز
وفي خضم تنامي الدور الإقليمي للحزب تأسيسًا على التحولات الجيوسياسية التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط خلال العقد الماضي، ظهر على السطح مصطلح “نموذج حزب الله”، الذي درجت عليه أقلام المحللين في كل مرة يتعلق فيها الأمر بأزمة إقليمية جديدة، تتمخض عن أبطال جدد، وفق سردية ما بات يعرف بـ “محور المقاومة”.
وبالقياس على استفادة المقاومة الفلسطينية من تجربة “حزب الله” في المقاومة ضد “إسرائيل”، تُستحضر تجربة الحزب كل مرة في حيز إقليمي مختلف آخر، ضمن ما اصطلح على تسميته بـ “جغرافيا المقاومة”. ومن وحي التجربة عينها، والمقصود بها “نموذج حزب الله” اللبناني، انطلقت حركة “أنصار الله” في اليمن، على اعتبارات أيديولوجية وسياسية تتقاطع مع حلقات مشروع استراتيجي أكبر، تدعمه طهران، التي تجد نفسها معنية بدعم حركات المقاومة في مختلف أرجاء الشرق الأوسط.
على هذا الأساس، تفرد مجلة “الإيكونوميست” مساحة للحديث عمّا أسمته “نموذج حركة الحوثي في الحكم”، بالانطلاق من التشابه الشكلي في شعارات الحركة اليمنية، والتنظيم اللبناني، إلى ما هو أبعد في الممارسة السياسية والعسكرية لكل منهما، القائمة أساسًا على مواجهة الغطرسة “الإسرائيلية”، و”العداء لأميركا”، فضلًا عن “الخطاب المعادي” للمشروع الإقليمي الذي ترعاه السعودية، بالتعاون مع واشنطن، والتنظيمات “الجهادية” المتطرفة. فالحركة، التي خاضت معارك عنيفة على مدى ست جولات من الصراع، أو ما عرف بـ “الحروب الست”، لإثبات وجودها السياسي في وجه نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الحليف للرياض، إضافة إلى صمودها في مواجهة “التحالف” السعودي منذ العام 2015، تكابد مسارًا شاقًا مر به الحزب اللبناني مع خصومه السياسيين الداخليين، وخلال حروبه المتعاقبة مع “إسرائيل”. وفي ضوء تأثرها بالمرجعية الدينية والسياسية لطهران، “شرعت الحركة في تأسيس اللبنات الأساسية لحكمها بالاستناد إلى نظام الحكومة الدينية الموجود في إيران”، وفق المجلة البريطانية.
وكجزء من جهود المحور الإقليمي المرتكز إلى مفاهيم “مقاومة الاستكبار” بكافة أشكاله ومسمياته، والممتد من إيران إلى البحرين الأحمر والمتوسط، حاولت الجماعة وضع حد للنفوذ السعودي التاريخي في اليمن، بالتوازي مع إدماج تراث الفكر السياسي المقاوم لدى الشيعة، بالمذهب الزيدي، مع الاهتمام بالجانب التوعوي التثقيفي الديني والعقائدي لدى أنصارها، إلى جانب تعزيز المناقبية الأخلاقية والعسكرية لديهم، في وجه أندادها من التنظيمات التكفيرية. وتلفت المجلة إلى جملة إجراءات اتخذها “أنصار الله” ضمن إطار المؤسسات الحكومية، لافتة إلى ترسيخ الحركة “دولة موازية” في اليمن، وهي للمفارقة، اتهامات مشابهة لتلك التي توجّه لـ “حزب الله” في لبنان، رغم اختلاف السياقات السياسية والعسكرية في الحالتين اللبنانية واليمنية. وبشيء من التبسيط المتقن، والمُغرض، تجمل المجلة البريطانية الصورة الإجمالية التي تعكس تشابهًا نسبيًا بين واقعين مستجدين في بلدين عربيين، يهز أحدهما أحد أركان السياسات الأميركية بشأن “ضمان الأمن الإسرائيلي”، فيما يشكل الآخر هاجسًا لركن آخر من تلك السياسات، وما يتصل منها بمعادلة “النفط مقابل الحماية” لبعض الأقطار الخليجية، إذ تقول: “إن صنعاء اليوم، تتغير في ظل الحكم الحوثي، وقد باتت تماثل بغداد، أو أجزاء من العاصمة اللبنانية، بيروت، الخاضعة لنفوذ حزب الله”.
أي دور لحزب الله في العراق؟
وعن دور حزب الله في العراق، تغفل معظم التقارير الغربية الحديث عن أي نفوذ سياسي مباشر للتنظيم اللبناني على الساحة العراقية، لحساب دور أكثر تجليًا لحليفته الإقليمية الكبرى، إيران هناك، حمل غالبًا بصمات القائد التاريخي الراحل لـ “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، قبل أن يوكل هذا الدور مؤخرًا إلى القائد الجديد إسماعيل قاآني بعد اغتيال سلفه. في المقابل، سال حبر كثير بشأن الدور العسكري للتنظيم اللبناني على أرض العراق، لا سيما وأن بعض التقارير تكشف جانبًا مهمًا من كواليسه إبان الحرب على “داعش”. ففي خضم التلكؤ الغربي، بخاصة الأميركي، في مساندة حكومة بغداد ضد التهديد “الإرهابي”، تكشف تقارير غربية عن دور للفصيل المدعوم، إيرانيًا، في توريد الأسلحة عبر الحدود السورية العراقية. ففي العراق، يقودنا الحديث إلى فصيل مسلح، يدعى “كتائب حزب الله”، المقدر عدد عناصرها بسبعة آلاف عنصر. وتصف كتائب حزب الله نفسها بأنها “تشكيل جهادي إسلامي مقاوم”، معلنة أنها تعمل على إفشال “المشروع الأميركي-الإسرائيلي في الشرق الأوسط”.
ووفق تقارير استخبارية غربية، يُعتبر أسلوب عملها شبيهًا بأسلوب حزب الله اللبناني، من حيث إيلاء أهمية خاصة لمواضيع التثقيف الديني والتجنيد العسكري لعناصرها، بالإضافة إلى حضورها في عدد من المشاريع الاقتصادية. وقد خضع هؤلاء العناصر للتدريب على يد قيادات إيرانية ولبنانية أبرزهم عماد مغنية الذي اغتيل في العاصمة السورية عام 2008.
ورغم أن الكتائب غير ممثلة في حزب سياسي، لكنها تشكل جزءًا من قوات “الحشد الشعبي” الذي ساعد القوات الحكومية في حربها ضد تنظيم “داعش”، فضلًا عن اضطلاعها بأدوار عسكرية أخرى في كل من العراق وسوريا، إلى جانب إسهاماتها في مقارعة الجيش الأميركي، والذي أفضى إلى إدراجها على “قائمة الإرهاب” من قبل واشنطن.
وبالطبع، يبدو حضور “حزب الله” اللبناني المباشر في المشهد العراقي، بصورة تتخطى استلهام النظرية في تجربة “نموذجية” في مقارعة الاحتلال، واقعًا لا مفر منه. وبحسب موقع “ديفنس وان”، المتخصص في الشؤون العسكرية، فإنه لا يمكن عد حزب الله جسمًا غريبًا عن البيئة العراقية، بالنظر إلى الدور الذي تولاه منذ حقبة ما بعد الغزو الأميركي لبغداد، والمقاومة الشعبية للاحتلال، ومن ثم دعم وتدريب عناصر عراقية بعد سيطرة “داعش” على أجزاء من البلاد. هذا، وتتداول صحف غربية، بأسماء قيادية بارزة تابعة لحزب الله اللبناني، بعضها “ملاحق أميركيًا”، حجزت لها دورًا سياسيًا توفيقيًا بين المكونات العراقية، لا سيما بين قيادات سنية وأخرى شيعية، وأخرى عربية وكردية، وذلك بعد صعود نجم “داعش” على مسرح الأحداث في العراق والمنطقة. وقد تعاظم الدور الميداني والسياسي للحزب، بعد اغتيال قائد “فيلق القدس” سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس حتى بات يوصف بـ “ضابط إيقاع البيت السياسي الشيعي” هناك، ضمن هيكلية هرمية ينتهي المطاف فيها عند الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
أعتى فصيل مسلح في العالم!
ومع حلول الذكرى الأربعين لتأسيس “حزب الله” في لبنان، يلاحظ الكاتب المتخصص في الشؤون العسكرية، كالب لارسون، أن ترسانة الحزب من الأسلحة قد باتت تحتل حيزًا من التغطية الإخبارية والتحليلية لأحداث الشرق الأوسط. ويفيد الكاتب، نقلًا عن مصادر في الجيش “الإسرائيلي”، أن التنظيم المسلح “مدرب كما لو أنه جيش، ومجهّز كما لو أنه دولة”. وينطلق لارسون من التقديرات الحالية لحجم تلك الترسانة، التي تضم أكثر من 130 ألف صاروخ، من بينها صواريخ كورنيت المضادة للدروع، وصواريخ ياخونت المضادة للسفن، الروسية الصنع، للقول إن التنظيم اللبناني يستحق عن جدارة لقب “أعتى تنظيم مسلح غير حكومي في العالم”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.