كان شهر آذار من العام ١٩٨٥ علامة فارقة في الصراع مع العدو الصهيوني. ففي ذلك الشهر كان العدو يندحر عن أرض عربية محتلة للمرة الأولى بفضل ضربات المقاومين من دون حاجة إلى ازدواجية معايير المجتمع الدولي والمنافق ولا لورقة توت تستر عورة الصهيوني وتحمل اسم “اتفاقية ثنائية” على غرار كامب ديفيد أو ١٧ أيار، بل كانت هزيمة العدو سافرة بلا لبس ولا تمويه وعبرت عنها تصريحات العدو بمستوياته السياسية والعسكرية وحتى الشعبية عبر عشرات الاستطلاعات التي أيدت الانسحاب من طرف واحد من غالبية المناطق اللبنانية للحفاظ على ارواح الجنود المحتلين.
وخلال انسحاب العدو كان يحاول ترك بصماته الاجرامية خلفه في المناطق المتحررة عبر عمليات ارهاب واغتيال تهدف إلى حفظ ماء وجهه المُراق فوق أرض لبنان وتقديم نفسه وكأنه صاحب الدور الايجابي الفاعل وله اليد الطولى للتعمية وذر الرماد في العيون على واقع اسفر عن سقوط ما بيده ولم يعد امامه الا الفرار.
وكان يهدف أيضًا الى زرع الرعب في قلوب الجنوبيين بالحصار والقتل والاعتقال والتهجير معتقدًا أنه بذلك يضع في نفوسهم حاجز رعب يمنعهم من التعرض لفلول قواته. وكان العدو يعتقد أيضًا أن المقاومة عمل تنظيمي سطحي قبل ان تكون حالة شعبية تجذرت في نفوس أهلنا، لذلك توهم انه عندما يستهدف قادة العمل المقاوم فإن الساحة خلفه ستكون ضائعة فلا تدري ماذا تفعل ما يخفف العبء عنه. لذلك كان من عناوين خطته “استهداف قادة العمل المقاوم”.
فبعد فترة وجيزة من اغتيال الشيخ راغب حرب كان استهداف مصطفى سعد في صيدا، وهو من الوجوه الوطنية في المدينة والمعادية للوجود الصهيوني. تلاه بعد ايام استهداف حسينية معركة وارتقاء الشهيدين محمد سعد وخليل جرادي وهما من قادة العمل الميداني المقاوم. وبعد معركة بيومين كانت الواقعة الكبرى في انفجار بئر العبد واستهداف العلامة السيد محمد حسين فضل الله الغني عن التعريف في ساحة الإسلام الحركي واحتضان المقاومين.
خطة العدو لم تنجح في أي بند من بنودها لأنها المرة الأولى التي يتعامل فيها المشروع الصهيوني مع مقاومة شعبية متعددة الانتماءات في أرض يحتلها من دون وجود نظام رسمي عربي يحوّل المقاومة الميدانية إلى ورقة سياسية على طاولة مفاوضات محكومة بعوامل سياسية ودولية تمنع في النهاية هزيمة هذا المشروع. لذلك كان العنوان المناسب لخطة العدو هو “خبط عشواء” قبالة المقاومين من أصحاب الأرض الذين كان العدو على جهل بطبيعتهم وكيفية تحركهم وسر تصميمهم على النصر او الشهادة، ولا ثالث لهما.
تعاظمت حركة المقاومة وترسخت شعبيًّا حتى تمكنت من دحر العدو عن لبنان في العام ٢٠٠٠ في هزيمة نكراء غير مسبوقة لمشروعه في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني. ولا زالت هذه الحركة تتعاظم حتى باتت عقبة كأداء تتكسر فوقها احلام الصهاينة وبات مشروعهم يواجه الخطر الوجودي المحدق كما بات شائعًا في كتاباتهم وفي هواجسهم.
تحولت المقاومة إلى لاعب إقليمي يحاصر الكيان من جهات عدة وتمتلك اذرع قوة عدة (قوة عددية منظمة مدربة، ذراع صاروخي فتاك، مسيّرات دقيقة، خبرات متراكمة… الخ). كل ذلك قلب قواعد اللعبة فوق رأس الكيان وأثبت له أن المقاومة ليست حالة تنظيمية سطحية بل هي نابعة من صميم الشعوب وهي حالة متجذرة في أعماق أعماق أرض الأجداد وتضرب جذورها بعيدًا وقابلة للنمو والتطور حتى يعانق فرعها عنان السماء وتلقي بظلالها فوق كل مظلوم ومستوصف، حتى باتت طعنة نجلاء في خاصرة العدو تنقل الرعب الذي نوى زرعه في قلوبنا إلى قلبه وقلب المغتصبين المحتلين الذين يهرعون إلى الملاجئ والاماكن المحصنة عند سماع أي صوت غير مألوف بعكس المعنويات العامرة في قلب اهلنا، ما يشكل أحد عوامل قوة هذه المقاومة ببيئتها وأحد معالم تضعضع مشروع الصهاينة.
رَبَت بذرة المقاومة ونمت فباتت حركة عصية على الاجتثاث وتجاوزت مرحلة الخوف من اغتيال قادتها لأنها حركة شعبية منظمة تمتلك عمقًا استراتيجيًا، من ناحية، وقدرة تجعل العدو يحسب الف حساب قبل التفكير بالنيل من قادتها او عناصرها.
ولعل المعلم الابرز بين العام ١٩٨٥ وعامنا الحالي أن العدو بات غير قادر على اللعب في أرضنا براحته وبسياسته المعروفة باسم “اليد الطولى وردّ الصاع صاعين او الف صاع احيانًا لزرع الرعب والترهيب. فقد استطاعت المقاومة ترسيخ معادلة جديدة بقواعد اشتباك غير مسبوقة على طريقة لعبة “البينغ-بونغ” بحيث أن كل ضربة مهما كانت صغيرة فهي ستواجه بضربة تكاد تعادلها ولكن من الاتجاه المعاكس.
بعد هذه المعادلة بات العدو ملزمًا بالوقوف موقف المتفرج، بشكل عام، أمام تنامي قدرات فصائل المقاومة، ومراكمتها للسلاح النوعي. وبات عاجزًا عن استرجاع هيبته، وتعديل ميزان الردع لمصلحته، بعد أن فقده منذ انسحابه الذليل من جنوبيّ لبنان، ومن غزة، أمام ضربات ألزمته بالدخول إلى قوقعة حدودية تحكمها الجدران العازلة، والأسلاك الشائكة، وبات يحسب ألف حساب لكل تحرك يريد أن يقوم به خارجها، قبالة تحفّز الفصائل على الرد، ضمن قواعد الاشتباك المستحدثة ضمن تاريخية هذا الصراع، بل على العكس بات يجهز ما يُسميه جبهته الداخلية بشكل دفاعي، ويجري مناورات عدة لقواته العسكرية للتصدي لاحتمال، بات يؤرقه، وهو عبور هذه الحدود، وخوض المعركة داخل أراضي فلسطين التاريخية للمرة الأولى منذ عقود.
نعم انتقل العدو من سياسة الهجوم والتوسّع، إلى عقلية الدفاع والتقوقع، لأول مرة منذ تأسيس كيانه على أنقاض فلسطين وشعبها، في أكبر جريمة إرهابية شهدها، ولا يزال يشهدها، العالم المعاصر.
بين الآذارَين (١٩٨٥ و٢٠٢٢) مسيرة رسخت حتمية زوال هذا الكيان الذي بات أقرب للواقع والاذهان من أي وقت مضى.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.