حسن نصر – بريست / بيلاروسيا – خاص الناشر |
واهم من يظن أن الولايات المتحدة أوقعت روسيا في المصيدة الأوكرانية، وواهم أكثر من يعول على نجاح الغرب في كسر هيبة الدولة الروسية عبر عقوباته الاقتصادية غير المسبوقة في تاريخنا المعاصر .
لقد جاءت العملية العسكرية التي بدأها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا بعد إدراكه أن الصراع مع الغرب وصل إلى نقطة الحسم، وأن الاستمرار في إقناع الولايات المتحدة بأنها أصبحت على عتبة البيت الروسي لم يعد يجدي نفعًا، وكان لا بد من اتخاذ خطوة استباقية لقطع رأس الافعى مرة واحدة وإلى الأبد، ولهذا اعتمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما تعلمه في شوارع مدينته لينينغراد في الصبا، وهو “إن وجدت نفسك في وضع لا مفر فيه من النزال، فعليك أنت أن توجه الضربة الأولى للخصم”.
يدرك بوتين أن الولايات المتحدة تراهن في المعركة الحالية على غرق الجيش الروسي في المستنقع الأوكراني وقتًا طويلًا، ويعرف أن حجم العقوبات التي جيّشت واشنطن حلفاءها من خلفها لفرضها على روسيا، ستكون قاسية على الاقتصاد الروسي. لكنه اختار مسار المواجهة بحسابات اعتمد فيها على معطيات التغيرات الجيوسياسية في العالم وعلى حلفائه وفي مقدمتهم الصين والهند. ولهذا شدد على أن الأهداف التي وضعتها المؤسسة العسكرية يجب أن تتحقق بأسرع وقت ممكن، ولا سيما نزع سلاح الجيش الأوكراني على نحو كامل، واجتثاث النازيين الجدد من جسد هذه الدولة. كل ذلك يجب تحقيقه بغض النظر عن الحلول السياسية، التي سيقدمها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مسترشدًا بتوصيات داعميه في البيت الأبيض.
فما الذي تريده موسكو بالتزامن مع العملية العسكرية:
- أولًا، أوكرانيا دولة حيادية. وهو ما ينهي الجدل بشأن توسع الناتو شرقًا، ويبعد أوكرانيا نهائيًا عن الحصول على عضوية الناتو .
- ثانيًا، على الرئيس الأوكراني الإقرار بأن شبه جزيرة القرم أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الروسية .
- ثالثًا، الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين استنادًا إلى الحدود الإدارية لهاتين الجمهوريتين المنصوص عليها في الدستور الأوكراني.
هذه النقاط الثلاث وُضعت أمام الوفد الأوكراني المفاوض، الذي وافق مكرهًا عليها، لكنه تذرع بأنها يجب أن تنال موافقة البرلمان الأوكراني ليتمكن فيما بعد فولوديمير زيلينسكي من التصديق عليها. بيد أن موسكو تدرك أن الرئيس الأوكراني لا يتخذ أي قرارات مستقلًا، وينفذ التعليمات التي تصله من واشنطن التي لا تزال تراهن بدورها على الزمن لإفشال العملية العسكرية الروسية الخاصة في تحقيق أهدافها.
غير أن الرسالة، على ما يبدو، وصلت إلى واشنطن عبر بيانات وزراة الدفاع الروسية اليومية عن نتائج المعارك على الأرض، وهي ربما تتطابق تماماً مع صور الأقمار الصناعية الأميركية، ليس على صعيد تقدم القوات الروسية وحسب، بل والضربات المؤلمة التي تلقتها البنى العسكرية الأوكرانية، وتدمير الأسلحة الثقيلة، التي قدمها الناتو، بل ومصادرة ما سلم منها وشحنه على الناقلات الروسية .
فما هي السيناريوهات المتبقية أمام الرئيس الاميركي؟
في حال توقيع زيلينسكي الوثائق الثلاث، فإن فلاديمير بوتين لن يتخلى عن المطالبة لاحقًا بإعادة قواعد الناتو إلى أماكن مرابطتها في سنة 1997، وهذا الخيار يعني هزيمة الولايات المتحدة سياسيًا أمام حلفائها، الأمر الذي سيدفع الغالبية من أعضاء الناتو للتفكير بمدى صدقية الحلف للدفاع عن أعضائه. وهو ما سيفضي إلى تخلخل قواعده الهشة وتوجه القسم الأكبر من أعضائه نحو بناء علاقات متكافئة مع روسيا بعيدًا عن الأحلاف العسكرية .
وسيؤدي كذلك إلى إبعاد زيلينسكي التام عن الساحة السياسية، بعد تحويل الصراع في أوكرانيا إلى حرب أهلية عبر جلب المرتزقة لقتال الجيش الروسي .
هذه الخيارات، حدد الرئيس الروسي الرد عليها عندما قال إن قدرات الجيش الاوكراني دمرت على نحو كامل، وإن جلب مزيد من المرتزقة للقتال في أوكرانيا لن يغير شيئا من واقع العملية العسكرية هناك.
هذا، وعلى الصعيد الاقتصادي، لا تبدو الصورة أكثر تفاؤلا، حيث إن الدول التي فرضت عقوبات خانـقة على روسيا لن تستطيع الصمود أمام ارتفاع أسعار موارد الطاقة في العالم، فهي ستدرك عاجلًا أو آجلًا أنها أخطأت عندما انضمت إلى لعبة العقوبات الامريكية وبخاصة على القطاعين المالي والبنكي في روسيا، وأن لذلك عواقب كارثية على اقتصاداتها، لأنها لن تستطيع التخلي في نهاية المطاف عن الغاز والنفط الروسيين رغم الوعود الاميركية بتعويض خسارتها.
أما المواطن الأوروبي، الذي لم يعتد سياسة التقشف نتيجة ارتفاع أسعار موارد الطاقة، فسيخرج إلى الشارع مطالباً بتقديم تنازلات من حكوماته يمكن أن تؤدي إلى هزات سياسية في الكيان الأوروبي وتفضي إلى تفكك الاتحاد الذي إذا ما انفكت إحدى حلقاته فتتبعثر الحلقات الأخرى.
إن صورة المشهد الحالي في أوكرانيا لا تختلف عما رسمته الولايات المتحدة خلال الأعوام الثلاثين، التي مضت. فهي كانت في كل مرة تفتعل الأزمات في شتى بقاع الأرض عندما يصل الاقتصاد الامريكي إلى حالة الانهيار التام، واليوم لم يعد لدى واشنطن من شيء تقدمة للعالم سياسيًا أو اقتصاديًا، وأصبحت تبحث اليوم عن مخرج من المأزق الجديد الذي وجدت نفسها فيه وجرت إليه حلفاءها فيه وبخاصة بعد خروجها المعيب من أفغانستان. ولهذا كله، أصبحت تبعث اليوم برسلها للتوسط لدى الرئيس بوتين لإنهاء الحرب، وآخرهم هو “رجل السلام” نفتالي بينيت، الذي حمل رسالة النخبة اليهودية، التي تتحكم بالاقتصاد الاميركي وتريد أخذ قسط من الوقت لترتيب أوراقها المستقبلية في سعي للبقاء على عرش الاقتصاد العالمي، لكن الواقع الحالي يشير إلى أن ورقة التوت الأخيرة سقطت عن الأميركيين بعد انفجار القنبلة الأوكرانية التي ستقوض أحادية القطب، وتشيد مراكز قوى أخرى لم يعد يهيمن فيها الدولار الاميركي.
ولهذا، يا سيّد بايدن، يبدو أنك لم تدرك معنى الضربة الأولى التي تحدث عنها الرئيس بوتين، فهو لم يخسر نزالًا يومًا ما منذ توليه زمام السلطة، والمعركة الحالية لروسيا هي على غرار: “تكون أو لا تكون!”.
ولذلك لن يجديك نفعًا، سيّد بايدن، إرسال حمائم السلام إلى موسكو، فقد انتهت اللعبة .
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.