تحقيق | الإعلام الحربي: من توثيق الانتصارات إلى المساهمة في صناعتها

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

ما بين عين الكاميرا وما يقوله العدوّ ويشيعه، سنوات من الصراع، كانت في كلّ جولة الكلمة الفصل فيها للكاميرا. والكاميرا إن حكت، فإنّها ستكتب التاريخ بلغة الحقّ؛ لأنّها الشاهد الوحيد الذي يحقّ له في محكمة الحروب أن يعطي القاضي شواهد موثّقة، وليس روايات على ذمّة الراوي.

اعتمد الاحتلال الصهيونيّ، ولا يزال، سياسة إخفاء عدد خسائره البشريّة في العمليّات كافّة، ففي عمليّة الدبشة 1994، عمل العدوّ على تضليل الناس، ونَفَى أن المقاومة اقتحمت الموقع وطهّرته، وجاء النفي على لسان القائد العسكريّ للمنطقة الشماليّة المحتلّة آنذاك “عميرام ليفين”، الذي بدا مهزومًا مذهولًا حينما عَرَضت المقاومة مشاهد العمليّة، وكيف طهّرت الموقع، وأوقعت فيه خسائر في صفوف العدوّ، وظهرت راية المقاومة مثبتةً هناك تعلن النصر. أحدثت تلك المشاهد ضجّة هستيريّة لدى العدوّ، دامت أربعة أشهر، لكنّه لم يتعلّم من الدرس الأوّل، حتّى لقّنته عدسة المقاومة درسًا آخر عندما نفى “عميرام ليفين” نفسه حصول عمليّة أوجعت العدوّ، نفّذها الاستشهاديّ صلاح غندور في مركز الـ17 عام 1995. فحين عُرضت مشاهد العمليّة التي صوّرتها عدسة المقاومة داخل الشريط المحتلّ -وهذا أن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على أن عين المقاومة تستطيع أن تكون في الأماكن كلّها كما سلاحها، خاصةً في دائرة الخطر- يومها، رأى الجميع خيبة العدوّ على وجه “ليفين”، حين أشار على شاشته الصغيرة إلى سيّارة الاستشهاديّ صلاح غندور وهي تدخل بهدوء إلى عمق المنطقة في بنت جبيل، ليقتحم أهمّ مركز للعدوّ الإسرائيليّ، وهو مركز الـ17، بندائه الأخير ونفسه المطمئنّة. ومنذ ذلك الوقت، صار العدوّ “الإسرائيلي” يترقّب ما ستعرضه المقاومة؛ لأنّ عدستها أسّست لمصداقيّتها وكرّستها مقابل ادّعاءات العدوّ، فانتزعت بذلك منه الثقة أمام جمهوره أيضًا.

تأسيس “الإعلام الحربيّ”
كانت الكاميرا قد وثّقت عمليّة الاستشهاديّ صلاح غندور بتفاصيلها كلّها، بدءًا من وداع الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله له، مضافًا إلى تصوير وصيّته في السيّارة، وصولًا إلى تنفيذ العمليّة. كانت من أكثر العمليّات الاستشهاديّة الموثّقة بهذه الدقّة، ما دفع بالشهيد القائد السيّد مصطفى بدر الدين (ذو الفقار)، الذي كان القائد العسكريّ للمقاومة آنذاك، إلى دعوة الإخوة العاملين في التصوير الميدانيّ إلى التداول في تشكيل جديد ضمن الإطار الرسميّ لحزب الله. وهذا ما حصل، فأعطاه السيّد ذو الفقار اسمًا رسميًّا، والذي بقي حتّى الآن: “الإعلام الحربيّ”.
بدأ الإعلام الحربيّ مهامه الميدانيّة من خلال مواكبة كلّ العمليّات النوعيّة التي كانت تحصل من عام 1986 وحتّى التسعينيّات، وكانت مهامه: تصوير وصايا المجاهدين المنطلقين للأعمال الميدانيّة من عمليّات نوعيّة إلى عمليّات استشهاديّة، كوصيّة الاستشهاديّين هيثم دبوق وعبد الله عطوي وأسعد برّو عام 1988 و1989، وتصوير تحضيرات العمليّات؛ علمان الشومريّة، وبدر الكبرى، وعلي الطاهر، وبرعشيت عام 1987. حتّى أن الأمين العامّ السابق الشهيد السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، الذي كان المسؤول العسكريّ للمقاومة آنذاك، أولى عنايةً خاصّة بالكاميرا، فكان يسأل عن تحضيرات الإخوة، وعمّا إذا صُوِّرت أيّ عمليّة تُنفَّذ، معتبرًا أن للصورة أهميّة تعادل عمليّات الاقتحام؛ لأنّها تساهم في صياغة الرواية الخاصّة بالإنجازات التاريخيّة للمقاومة ومجاهديها.

بدأ عمل الإعلام الحربيّ بعدد قليل من الأفراد، وأصبح بعد عام 1996 يتكوّن من أربعة عشر مصوّرًا متدرّبًا ومتقنًا لعمله، وقد قام هذا الفريق بتغطية حرب تمّوز عام 1993، وكان الشهيد باقر حيدر أحمد ممّن صوّر ميدانيًّا في مناطق الخطر كافّة، واستشهد خلال هذه الحرب، فأكمل إخوانه من بعده رحلة التوثيق بعدساتهم. وكانت كاميرا الإعلام الحربيّ توثّق العمليّات النوعيّة كلّها، وزرع العبوات، والرمايات، والمناورات الخاصّة، كما أنّها واكبت الانسحاب الذليل لعملاء لحد من جزّين إلى عرمتى والبيّاضة، وباقي الأراضي اللبنانيّة التي كانت محتلّة من قِبل العدوّ الإسرائيليّ.

الاختصاص والدقّة
منذ عام 1997 وحتّى العام 2000، كما كان للمقاومة نمط جديد وتطوّر عسكريّ نوعيّ في العمليّات، كان الإعلام الحربيّ أيضًا يتطوّر بكادره وتقنيّات التصوير والأسلوب، وقد تميّزت صورته بالنوعيّة والجودة المميّزة، مضافًا إلى التصوير الاحترافيّ. وكان هدف المصوّر في تلك المرحلة: التقاط الصورة كمخرج، لا كمصوّر. وهذا ما كان يؤكّد عليه القائد الشهيد عماد مغنيّة عند إشرافه على الإعلام الحربيّ منذ عام 1999م. كذلك ارتفع عدد كاميراته، فمن كاميراتَين أو ثلاث في الميدان إلى أكثر من عشر في عمليّة بيت ياحون والبيّاضة، ووصلت إلى أكثر من 20 كاميرا في عمليّة عرمتى النوعيّة. وقد علّقت صحافة العدوّ حينها: “إنّ حزب الله يقوم بإخراج فيلم سينمائيّ ميدانيّ للعمليّات النوعيّة التي ينجزها!”.

هذا، مضافًا إلى تصوير عمليّة الأسر في شبعا 2000م، وعمليّة الغجر النوعيّة عام 2005م، ورويسات العلم، وغيرها من العمليّات التي كانت تنفّذها المقاومة الإسلاميّة بعد التحرير وصولًا إلى عمليّة الأسر النوعيّة في 12 تمّوز 2006م.

الحرب النفسيّة
ضاعفت مواكبة الكاميرا للعمليّات الجهاديّة من القيمة المعلوماتيّة والسياسيّة للحدث، وأضفت عليه أبعادًا ومفاعيل نفسيّة وردعيّة. ولم يقتصر دورها في الميدان على تصوير الحدث، وإنّما تعدّى ذلك لتوجّه رسائل ردع لمجتمع العدوّ. وقد برز ذلك خلال عدوان نيسان 1996م، حين أنتج الإعلام الحربيّ فاصلًا خاصًّا بالاستشهاديّين، عندما أعلن الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) التعبئة العامّة، وهذا ما شكّل رعبًا لدى العدوّ، وبالتالي تحوّلًا بارزًا في المعركة.

أيضًا، أحد عوامل تسريع التحرير وانسحاب العدوّ الذليل، التكتيك الإعلاميّ المواكب لقدرات المقاومة، حيث عمد الإعلام الحربيّ لتصميم فواصل فنيّة ترسّخ القواعد التي أسّسها الأمين العام (حفظه الله) للعملاء: “خياركم إمّا الانسحاب، أو التسليم للقضاء اللبنانيّ، أو القتل”؛ فتمّ تصوير عمليّة عرمتى التي دُفن فيها العملاء إلى الآن حيث هم، في فواصل تحت عنوان: “عرمتى اليوم.. وغدًا موقعٌ آخر”؛ لترهيب اللحديّين وبثّ روح الهزيمة في نفوسهم قبل عام 2000م، وغيرها من المحطّات طوال الصراع، وصولًا إلى حرب الدفاع عن المقدّسات، حيث لعب الإعلام الحربيّ دورًا نفسيًّا فاعلًا في تغيير معادلات الصراع مع العدوّ التكفيريّ والكيان “الإسرائيلي” بجنوده وقادته ومواطنيه، والذين كانوا دائمًا ينتظرون ماذا سيقول حزب الله عبر إعلامه، وماذا سيقدّم من أدلّة بالصوت والصورة.

معركة الدفاع عن المقدّسات
بعد اندلاع المعارك ضدّ التكفيريّين في سوريا، ومشاركة مجاهدي المقاومة الإسلاميّة عام 2012، التحق بهم بعض الإخوة من الإعلام الحربيّ وبدأوا مهامهم كالعادة، من استطلاع إلى توثيق وتصوير. وتطوّر العمل شيئًا فشيئًا، فأنشأ الفريق نواة إعلام حربيّ هناك من اللجان الشعبيّة السوريّة، وعمل على تدريبهم ليلًا والإشراف على عملهم نهارًا في المعارك الحيّة. وبعدها، أصبح الإعلام الحربيّ مصدرًا للوسائل الإعلاميّة كافّة في لبنان وسوريا، وتطوّر عديده وزاد ليلبّي الحاجة المطلوبة؛ فكان أفراده يصوّرون المشاهد، ويُخرجونها بقالب فنّيّ محترف، وصولًا إلى إنشاء مركز ضخم في دمشق للحرب النفسيّة، والإعلام الحربيّ، يحتوي على تقنيّات مونتاج حديثة لإعداد نشرة يوميّة وتوزيعها، مضافًا إلى المشاهد التوثيقيّة التي يصوّرها الإعلام الحربيّ في المعارك كلّها.

أهداف الإعلام الحربيّ
ثمّة مهمّة كبيرة على عاتق الإعلام الحربيّ، وتُمثّل دوره المحوريّ؛ فمن يرصد ويواكب الأحداث ويتابعها عن كثب، سيجد أن الإعلام الحربيّ ليس مجرّد كاميرا وصورة تُنقل للجمهور، إنّما يتعدّى دورها إلى وظائف ومهام عديدة، منها:
1 – رفع معنويّات جمهور المقاومة، وفي المقلب لآخر إرسال رسائل ردع لجمهور العدوّ وإظهار حقيقة جيشه الذي يثق به.
2 – توجيه رسائل لقادة العدوّ بأن يُعيدوا النظر في إظهار الحقائق؛ نظرًا إلى صدق رواية المقاومة عند التشكيك.
3 – توثيق التاريخ واللحظات الجميلة مع الشهداء في حضرة الوجدان، وفي اللحظات الأخيرة.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد