تتبدّل أدوات المواجهة بين الأعداء باختلاف الزمان والمكان، وكذلك باختلاف طبيعة العدو. فالبعض يُمكن استهدافه بطائرة حربية مباشرة لضعف عتاده مثلًا أو بقتال بري عندما يكون العدو ضعيف المواجهة. وكذلك عندما يرى العدوّ عدوّه يحلّق صعودًا بالتطور التقني أو القدرة الاقتصادية، يواجهه بالحصار والعقوبات على اختلافها. لكن، عندما يتخطى أحد أطراف المواجهة جميع هذه المراحل، فيهزم الآخر عسكريًّا ويأبى أن يسقط اقتصاديًّا، يُلجأ حينها إلى الحروب الوهمية وضرب الثقافة وصورة الآخر أمام الناس عامةً والأطراف المحيطة به خاصةً. وتُعتبر الحروب الافتراضية عبر الجيوش الالكترونية إحدى أهم سبل المواجهة، والأقوى من بينها.
تُعتبر الجيوش الالكترونية من إحدى وسائل المواجهة في الحرب، حيث تلجأ بعض الحكومات إلى مجموعات مدرّبة هدفها اختراق مواقع الخصوم والترويج لوجهة نظر معيّنة عبر مختلف منصات الإنترنت، وإسكات وتشويه سمعة المناوئين، إلى جانب ترويج الإشاعات والأكاذيب وخلق البلبلة. وقد بدأت الدول في إنشاء وحدات الكترونية داخل أجهزتها العسكرية والأمنية لحماية أمنها القومي.
تُعتبر السعودية من أكثر الدول المعروفة في استخدام هذه الجيوش الالكترونية في مواجهتها مع عدّة أطراف. فقد كشفت معلومات سابقة لموقع يورو نيوز أن جيوشًا إلكترونية من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية تقوم بملاحقة ومضايقة منتقدي المملكة وتصفهم بـ”الخونة” في إطار موجة من تنامي المشاعر القومية في البلاد.
وقد تصاعد تأثير هذه الحسابات مع صعود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي قام بسلسلة تغييرات اجتماعية في المملكة المحافظة منذ صعوده إلى السلطة. وتنكبّ الجيوش الإلكترونية التي تعرف باسم “الذباب الإلكتروني” على الدفاع عن سياسة المملكة وتضع صورًا في العادة للحكام السعوديين، وأصبحت أخيرًا قوّة متصاعدة كما ذكرت صحيفة ذا واشنطن بوست.
ويربط كثيرون هذه “الحسابات الوهمية” بسياسة كان يقودها المسؤول السابق في الديوان الملكي سعود القحطاني، وهو مسؤول نافذ مقرّب من الأمير محمد وقد أُعفي من منصبه على خلفية دور محتمل له في مقتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول.
ولطالما أثار القحطاني الخوف في المملكة، واكتسب ألقابًا عديدة بينها “كاتم الأسرار” و”السيد هاشتاغ” (وسم) و”وزير الذباب الالكتروني” بعدما قيل إنّه كان يقود جيشًا من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن صورة ولي العهد وتخويف المنتقدين.
وتُعتبر الأزمة الدبلوماسية مع قطر مثالًا آخر، بعد قطع كلّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة ومصر العلاقات الدبلوماسية مع قطر بحجّة تدخّل قطر في شؤون بعض الدول الأُخرى. فقد أزال تويتر 4248 حسابًا يعمل من داخل الإمارات العربيّة المتّحدة، كانت تقوم بتنفيذ بروباغندا ضد قطر واليمن.
وبعد قصف الجيش واللجان اليمنيون الإمارات بسبب مشاركتها في العدوان على اليمن، لجأت الإمارات إلى دعم موقفها افتراضيًّا بجيوش الكترونية. وقد كشف خبير تقني أن 91% من الإعجابات التي يحصدها ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد على موقع تويتر تأتي من حسابات وهمية.
تشارك هذه الحسابات الزائفة البالغ عددها نحو 11 ألف حساب، تغريدات المؤسسات الحكومية الإماراتية وحسابات الأمراء التي تروّج لمحمّد بن زايد ومصالح الإمارات وسياساتها، وأبرزها انتقاد قناة “الجزيرة” ومهاجمة قطر وتركيا ودعم التطبيع مع “إسرائيل”.
وقد ذكر الخبير التقني مارك جونز في صحيفة ذا واشنطن بوست والـ cnn أن 8 آلاف حساب أُعجب وشارك تغريدة لابن زايد على تويتر عن طريق تعقّب تاريخ إنشاء الحساب. وتبيّن أن 50 % من تلك الحسابات أُنشئ في يونيو/حزيران 2020، ولديها أسماء متشابهة وصور مزيّفة، كما أنها تتشابه في عدد المتابعين والتغريدات. وهذا يشير إلى أنه حتى لو حصل منشور لابن زايد على 4 آلاف إعجاب، فإن عددًا كبيرًا منها سيكون زائفًا، لإيهام الجمهور بصدقه وشعبيته.
إنها ساحة حرب ومواجهة لا تختلف بأهدافها وتفاصيلها عن حرب عسكرية تُخاض بالدبابات والطائرات، لكن الوسيلة هنا “كلمة” في ساحة افتراضية هي أكثر خطورة ووقعًا على من يخوضون الحرب لأن الرصاصة تقتل صاحبها مرّةً، لكن الكلمة تصيب بأثرها قارئها وتؤثر على ثقافة مجتمع ومستقبل أجيال.
فلنكن جميعًا مهيّئين لهكذا جبهات، ولنرد الصاع صاعين، بالكلمة الحقّ في وجه سلطان جائر لخدمة القضية الأساس. ولنعلم جيّدًا أن ساحات المواجهة هذه تتطلب الكثير من الوعي والحكمة والصبر، فلنرابط جميعًا على هذه الجبهات في وجه العدوّ نفسه بكل ما تتطلبه المعركة من أدوات وحنكة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.