إن النمو السريع في الطلب على المواد الغذائية خلال العقود الأخيرة وقصور الإنتاج الزراعي عن الاستجابة لمتطلبات هذا النمو أدى إلى تفاقم مشكلة العجز الغذائي واتساع الفجوة الغذائية. ولم تعد مشكلة العجز الغذائي مجرد مشكلة اقتصادية زراعية أو غذائية، وإنما يمكن اعتبارها مشكلة ذات أبعاد سياسية، حيث إن زيادة الاعتماد على توفير الاحتياجات الغذائية من الأسواق العالمية التي تسيطر عليها الدول الصناعية الكبرى قد تؤدي إلى مخاطر عديدة ترتبط بالعلاقات والمساومات السياسية، لأن الغذاء أصبح سلاحًا إستراتيجيًا أو وسيلة ضغط للدول المنتجة والمصدرة للمواد الغذائية على الدول المستوردة بوضع شروط تتعدى الاعتبارات التجارية وقد تصل إلى مستوى التنازلات السياسية واستخدام أسلوب الحصار الاقتصادي بين الدول التجارية أو المتخاصمة أساسًا لفرض استسلام أحد الطرفين لشروط الطرف الآخر، وبذلك يكون غير قادر على تأمين احتياجاته من الغذاء.
إن الزراعة هي علم وفن وصناعة إنتاج المحاصيل النباتية والحيوانية، وهي المحول الأساسي للمواد الغذائية والجزء الأكبر من مواد الملابس، فضلًا عن تزويد الصناعة بحاجاتها من المواد الأولية والأيدي العاملة وفي كونها تمثل سوقًا للمنتجات الصناعية، ويعد الفائض في الإنتاج الركيزة الأولى في بنيان التنمية الاقتصادية.
ويعتبر وصف الزراعة على أنها مجرد نشاط اقتصادي وصف قاصر، حيث إن الزراعة ليست مهنة أو حرفة كبقية المهن والحرف، وإنما هي أسلوب وطريقة حياة متكاملة تتوغل في حياة الإنسان الريفي المزارع بكافة تفاصيلها. وحيث إن الزراعة طريقة حياة للمجتمع الريفي، فهي بالنسبة للمجتمع كله، ريفه وحضره، مصدر استقرار لبقائه نظرًا لإمدادها له بالغذاء والكساء والشراب والأوكسيجين وغير ذلك.
إن تحقيق تنمية زراعية أو مستوى نمو مناسب في القطاع الزراعي يعني استخدام أوسع للمواد السمادية والمعدات الحديثة، أي ما يعني نمو الصناعات المرتبطة بالإنتاج الزراعي وأخرى غيرها، كذلك توسيع البنية التسويقية للحاصلات الزراعية، أي أن التنمية الزراعية ستؤدي إلى زيادة الطلب الفعّال على السلع غير الزراعية ما يؤدي إلى توسيع السوق.
لذلك، فإن قضية تنمية القطاع الزراعي وتطويره لا بد أن تحتل أهمية استثنائية لكونه القطاع المسؤول بشكل مباشر عن الإيفاء بمتطلبات المجتمع الغذائية، فضلًا عن تلبية احتياجات الصناعة إلى المواد الأولية. وتعد الزراعة هي الصناعة التي ترتكز عليها النشاطات الإنتاجية الأخرى، كما إنها تمثل الدفعة الأولى القوية في النشاطات الاقتصادية التنموية في معظم تجارب التنمية الاقتصادية.
إن مسألة الغذاء أخذت أبعادًا سياسية واقتصادية تجلت أهميتها بشكل واضح ومؤثر من القرن الماضي، والسبب في ذلك يعود إلى محاولة العديد من الدول المنتجة استخدامه وسيلة للضغط على الدول المستوردة له ولتحقيق الأهداف السياسية التي تبتغيها من ذلك ضد الدول المستهدفة، وعلى ضوء ذلك أطلق شعار استخدام الغذاء كسلاح سياسي واستخدام أسلوب الحصار الاقتصادي أساسًا لفرض استسلام الطرف المستهدف وبذلك يكون غير قادر على تأمين احتياجاته من الغذاء.
ولذا فإن الصناعات الغذائية كحلقة في سلسلة التنمية ضرورية من أجل توسيع القاعدة التنموية وتلبية حاجاتها المتزايدة، فإنها تؤمن الاكتفاء الذاتي وتحقق الاستغناء عن استيراد المنتجات الغذائية من الأسواق الخارجية، فضلًا عن ذلك توفر فرص الاستغلال الأمثل للموارد الأولية المحلية وتشجع زيادة الإنتاج فيها، حيث تمثل الصناعات الغذائية فرعًا رئيسًا من فروع الاقتصاد الوطني ومن القطاعات المهمة والحيوية لدورها في تلبية حاجات المواطنين الأساسية وتوفيرها لفرص العمل فضلًا عن مساهمتها في خدمة الاقتصاد الوطني من خلال تحقيق متطلبات الأمن الغذائي وتعويض الاستيراد من الخارج، كما أن لها الأثر الكبير في النمو الصناعي.
إن الصناعات الغذائية تعتبر من الصناعات التحويلية المهمة حيث تلعب دورًا محوريًّا وأساسيًّا في الإنتاج الغذائي، ويمكن توضيح أهميتها على النحو التالي:
أ) تسهم في تصنيع وحفظ المواد الغذائية سريعة التلف وتحويلها إلى مواد أكثر ثباتًا وأطول مدة لصلاحية الاستهلاك.
ب) قدرتها على زيادة القيمة الغذائية للعديد من الخامات الزراعية التي لا يمكن استهلاكها على طبيعتها إلا بعد تحويلها إلى منتجات مختلفة مثل طحن الحبوب.
ج) قدرتها على استيعاب المحاصيل الزراعية المختلفة مما يساعد على رفع قيمتها الاقتصادية وحفظها إلى مواسم شحنها وعدم كسادها في مواسم نضوجها.
د) تسهم بدور كبير في تحويل مخلفات المصانع الغذائية بعمليات التصنيع الغذائي إلى منتجات اقتصادية مثل صناعة الأعلاف الحيوانية من مخلفات مصانع الزيوت النباتية ومصانع السكر.
ه) تساعد على تقليل الفوارق بين الريف والمدينة من خلال رفع المستوى المعيشي للأفراد العاملين في الزراعة من خلال العائد الذي يحصلون عليه مما يؤدي إلى رفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي والتكاملي.
و) لها أهمية كبيرة في تنمية صناعات أخرى مثل صناعة مواد التعبئة والتغليف.
ز) تشكل مرتكزًا مهمًّا في أسعار المنتجات الزراعية لأنها تضمن وجود أسواق دائمة والتشجيع على الاستمرار في إنتاجها وزيادة الربح منها فضلًا عن ثبات الأسعار من موسم إلى آخر.
ح) إسهامها وبشكل كبير في توفير العملات الصعبة التي يمكن الاستفادة منها في تنمية القطاعات الاقتصادية.
ط) دورها الكبير في استيعاب الأيدي العاملة مما يؤدي إلى الحد من البطالة.
ي) تسهم في زيادة الناتج الإجمالي ونمو متوسط نصيب الفرد مما يؤدي إلى زيادة الطلب على المنتجات الغذائية المختلفة.
ك) استثمار العمل المتخصص ذي المهارة الفنية الجيدة والإنتاجية العالية.
تمثل التنمية خارطة عمل تتضمن تحديد أهداف وبرامج وخطط وتوجهات تستهدف الرقي بمعيشة الإنسان ورفع قدرته المادية والفكرية.
لا تركز التنمية على جانب معين فقط، بل تشمل الجوانب البيئية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي فهي تنمية ثلاثية الأبعاد مترابطة متكاملة ومتداخلة في إطار تفاعل يتّسم بالضبط والتنظير والترشيد للموارد.
لذلك تنطوي التنمية بأبعادها الثلاثة على ضرورة إجراء تغييرات رئيسية وضرورية في المجتمع، ولكي تقوم هذه التنمية على قاعدة صلبة، لا بد أن تستند إلى واقع مخزون رأس المال الذي يديمها وتعتمد عليه، ورأس المال هنا لا يُقصد به رأس المال بمفهومه التقليدي المعروف كأحد عناصر الإنتاج ومكوناته، إنما رأس المال الذي يشمل كل معطيات ومقدرات المجتمع ويعكس محتويات ومكونات أبعاد هذا التنمية ومنه:
- رأس المال المادي: ويقصد به رأس المال المادي أو النقدي.
- رأس المال الطبيعي: ويعني الموارد الطبيعية والنظم البيئية.
- رأس المال الإنتاجي: ويشمل الأصول المادية القادرة على إنتاج السلع والخدمات.
- رأس المال البشري: ويُقصد به القدرات الإنتاجية للأفراد، سواء الموروثة أو المكتبسة.
- رأس المال الاجتماعي: ويشمل الثقافة الاجتماعية السائدة بكل قيمها وعاداتها وتقاليدها.
ولغايات التنمية فإنه لا بد من التحول من تكنولوجيا تكثيف المواد إلى تكثيف تكنولوجيا المعلومات، وهذا يعني التحول من الاعتماد على رأس المال الإنتاجي produced Capital إلى الاعتماد على رأس المال البشري Human Capital ورأس المال الاجتماعيSocial Capital ، وبالتالي فإن التنمية المستدامة يمكن أن تحدث فقط إذا تم الإنتاج بطرق ووسائل تعمل على صيانة وزيادة مخزون رأس المال بأنواعه الخمسة المذكورة، وعليه فإن العمليات الاقتصادية الأساسية الثلاث الممثلة بالإنتاج Production والتوزيع Distribution والاستهلاك لا بد أن تضاف إليها عملية رابعة هي صيانة الموارد.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.