إن القوّة الكامنة في الإسلام هي التي تخيف الغرب؛ فإنّ الإسلام لما انبسط في العصور الوسطى أقام سدًا في وجه انتشار الغرب ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانه.
لقد أبرز ذلك لورنس براون (صاحب نظرية القرار) بقوله: “إذا اتحد المسلمون في امبراطورية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم، وخطرًا، وأمكن أيضًا أن يصبحوا نعمة له، أما إذا أُبقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير”.
القس سيمون ريتشارد كان أوضح في التعبير لما قال: “إنّ الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السمر وتساعدهم على التملص من السيطرة الغربية، ولذلك كان التبشير عاملًا مهمًا في كسر شوكة هذه الحركة، وذلك لأن التبشير يعمل على إظهار الغرب في نور جديد جذّاب، وعلى سلب الحركة الإسلامية من عنصرَي القوّة والتمركز اللذين هما منها”.
إذًا، كانت الوحدة الإسلامية تكتلًا ضد الاستعمار الغربي، ثم استطاع المبشرون أن يظهروا الغرب في غير مظهر المستعمر، من أجل ذلك قالوا يجب أن نحوّل بالتبشير مجاري التفكير في الوحدة الإسلامية حتى نستطيع التغلغل في المسلمين.
أراد القائمون على التبشير أن يكون للإحسان والتعليم مقام كبير في الخطط التي توضع لأعمال التبشير، ولكن على أن تكون وسائل فقط لا غاية في نفسها.
إن المبشرين يريدون إفساد خاصيّة الانتماء للمشرق العربي، وللأمة الإسلامية، وكل من يأبى الخضوع لسلطة الغرب السياسية والاقتصادية.
سُخرّت لذلك إمكانات وقدرات هائلة على أيدي الإرساليات الأميركية والمبشرين الأميركيين في هذا المركز المهم من الشرق. وإن أول رؤساء للجامعة الأميركية في بيروت سيرس هملن ودانيال بلس وميلر باتريك كانوا ضباط ارتباط بين الغرب والشرق، ونفر آخرون منهم معلمون كبار وأطباء يشترط فيهم الصبر والأناة.
“ويأتي المبشر تحت علم الصليب، يحلم بالماضي وينظر إلى المستقبل، وهو يصغي إلى الريح التي تصفر من بعيد، من شواطئ رومية، ومن شواطئ فرنسا، وليس من أحد يستطيع أن يمنع تلك الريح من أن تعيد على آذاننا قولها وصرخة أسلافنا (الصليبيين) من قبل: إن الله يريدها”. هذا قول قاله الأب شانتور رأس الكلية اليسوعية في بيروت زمنًا طويلًا أيام الانتداب، وظل في منصبه سنين طوالًا بعد ذلك. لقد كان الأب شانتور ذا نفوذ ضخم وفرّه له المستعمرون، وتستجدي أمامه الحكام، وقلما صعد أحد منهم كرسيًا إلا إذا كان الأب شانتور يراه أهلًا لتنفيذ سياسة الانتداب.
ظنّ البعض أنّ المبشرين يأتون إلى الشرق لنشر الدين على أنّه هدفهم الأسمى، والحق أنّ نشر الدين أمر ثانوي جدًا في جميع الحركات التبشيرية. إن الكثرة المطلقة من الذين يمولون تلك الحملات لا صلة بين أهدافهم الحقيقية وبين الدين الذي يزعمون أنّهم قد جاؤوا لأجله.
إنّنا إذا تأملنا العالم الغربي وجدناه عالمًا ماديًا. إنّ أميركا التي تعبد الحديد والذهب والبترول -كما يقول أمين الريحاني- قد غطت نصف الأرض بمبشرين يزعمون أنّهم يدعون إلى حياة روحية وسلام ديني. وبينما نرى فرنسا دولة علمانيّة في بلادها نجدها الدولة التي تحمي (رجال الدين) في الخارج. إن اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميميون في مستعمراتها، وكذلك إيطاليا التي ناصبت الكنيسة العداء، وحجزت البابا في الفاتيكان، كانت تبني جميع سياساتها الاستعمارية على جهود الرهبان والمبشرين. وكثيرًا ما كان كبار الرجال العسكريون من الإنكليز خاصّة يحضون حكوماتهم على بث المبشرين في العالم؛ فلقد نصح الجنرال هايغ الحكومة البريطانية أن ترسل مبشريها إلى شبه جزيرة العرب. إنه ستار التبشير لإشباع الأطماع والسيطرة.
إن الدين كان الوسيلة، أما السياسة فكانت الهدف الحقيقي. والسياسة هنا معناها استعباد الغرب للشرق.
إنها ليست معركة دين بل هي معركة في سبيل السيطرة الاقتصادية والسياسية. وما دعوى الدين الإبراهيمي اليوم إلاّ حلقة تبشيرية جديدة في سلة النظم الغربية السلطوية تمتد لتنال ما عجزت عنه بالأمس. وما التطبيع مع المخفر الصهيوني إلاّ إغارة جديدة على شعوب العالم الإسلامي والمشرق العربي لصد اندفاعته المنبعثة من روحيّته وتجذره في أرضه ودينه ومعتقده.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.