هادي قبيسي – خاص الناشر |
بَنَت المقاومة في لبنان، طوال أربعين عاماً مرت على تجربتها، قدرات متنوعة: عسكرياً في البداية، ثم سياسياً واجتماعياً وإعلامياً وثقافياً، لكنها لم تدخل في المجال الاقتصادي، حيث إن لبنان محكوم بثقافة اقتصادية تقوم على تدمير الانتاج، وبالتالي لا تنسجم هذه البنية مع الاستقلالية والاعتمادية، كما أن هذه التبعية مرتبطة بشكل عضوي بتقاطع مصالح طائفي وفئوي تغذي استمرارية الاستتباع للخارج، وتمنع قيام اقتصاد حقيقي صناعي زراعي.
تشكل المكاسب الاقتصادية الثمرة الأساسية لتجمع المصالح الداخلي، كما تشكل غاية الفاسدين القصوى، وبالتالي الحرم الخاص بهم، والذي يعتبر المس به مساً بوجودهم القائم على الفساد، فيما كانت للمقاومة أولويات وجودية أخرى، وضرورات مختلفة كلياً، ومضافاً إلى كل ذلك ثقافة خاصة مبنية في سياق تاريخي وأيديولوجي متميز بشكل كبير.
ثقافة المقاومة وفقاً لتجربتها لأربعة عقود واجهت فيها تحديات متعددة ومتتالية ومتنوعة، كانت ولا تزال تقوم على أساس البدء من الصفر من حيث الإمكانات، القرار الحر، التطوير الدائم، وتحقيق غاية التحرر والاستقلال وبناء المقدرة الذاتية، في حين أن النظام اللبناني قائم من ناحية عملية على أساس السير نحو الإفلاس الذاتي، وبالتالي ثقافتان نقيضتان لا يمكن الجمع بينهما، وبالنتيجة لا يمكن التعايش بينهما. فكيف يمكن الجمع بين الحريرية السياسية التي تقوم على أساس تحقيق الربح من دون عمل، وتحصيل الأموال من خلال لعبة القروض الداخلية واليوروبوند والتلاعب المالي، وبين ثقافة المقاومة التي قامت على أساس العمل الجاد والإيمان بأن تحقيق المكاسب لا يمكن إلا بدفع الأثمان وبذل الجهود الطويلة الأمد؟
أمام هذا الواقع المتناقض، ثمة خياران بشكل أساسي. الخيار الأول في حال عدم التعايش هو أن يتم تطويع أحد الطرفين للآخر، وهذا غير ممكن، لا النظام يستطيع تغيير ثقافة المقاومة نتيجة اثباتها لجدواها وضرورة الالتزام بها كمقدمة لأي إنجاز حقيقي، ولا المقاومة تستطيع تغيير ثقافة النظام، لأن تجمع المصالح اعتاد على المكسب السهل من خلال الخداع وعدم الانشغال ودون مخاطرة. الخيار الآخر هو التساكن الذي يتضمن السعي البطيء لتغيير كل منهما للآخر.
حاول رفيق الحريري بكل قدراته أن يستدرج المقاومة إلى ثقافة النظام، من خلال الحوار السلس وتقديم المغريات، لكنها رفضت بذكاء ومرونة. بعد ذلك بعقدين، وبعد أن انخرطت داخل الدولة مدفوعة بالضرورات الأمنية بعد الانسحاب السوري، حاولت المقاومة استدراج النظام إلى الإصلاح دون الوصول إلى الصدام المباشر، والنظام رفض بذكاء ومرونة، وأحياناً بفجاجة، نتيجة انسجام دعوة المقاومة مع المزاج الشعبي العام العابر للطوائف، وما يشكله ذلك من خطر على مصالح التجمع الفاسد. بالتأكيد كان للولايات المتحدة الحظ الكبير في لعب دور الانتهازي المستغل للتحولات والفوضى والغضب الشعبي لتحويله نحو أعدائها، المقاومة وحلفائها تحديداً، دون أن تنجح في جني ثمار مجدية حتى الآن.
عملياً نعيش الآن حالة مساكنة غير مرضية للطرفين، أهل النظام خائفين من قدرات المقاومة، وحقهم أن يخافوا نتيجة حجم النهب والفساد والضعف وانعدام المسؤولية الذي عاملوا به اللبنانيين وأهل المقاومة خصوصاً، ومن ناحية أخرى هم خائفون تحديداً من جدية المقاومة وقدراتها في مجال إدارة الأزمات، والتي كانت محل تعليق دولي أيام مشروع وعد بعد حرب تموز، وقدراتها التنظيمية على التعامل مع المشكلات المختلفة، وكذلك خائفون من جدية حلفائها في تقديم المساعدات الحقيقية الضرورية، مقابل الخذلان العميق الغربي والخليجي. من ناحية أخرى نلاحظ أن المقاومة تنظر إلى آثار الفساد والخراب، وإلى بنية الفاسدين كيف تتفكك وتتعفن ببطء، منتظرة جلاء الغبار وسقوط الجثة التي لا تزال مستندة إلى بعض الخيوط ليس إلا.
لم يمر الفساد والفاسدون بحالة من الضعف تشبه ما هو قائم الآن، منذ انتهاء الحرب الأهلية، ومع ذلك لم تقدم المقاومة على سبعة أيار اقتصادي حتى الآن، رغم كل الاتهامات لها بأنها تستخدم سلاحها في الداخل، ربما هي تفضل أن ينهار هيكل الفاسدين بتمامه أمامها دون أن تلوث يدها في صدام داخلي. الصدام الداخلي سيعطي الفاسدين مشروعية طائفية، سيصبحون مدافعين عن أهلهم الذين كانوا ينهبونهم طوال اربعين عاماً، وسيعطيهم مبرر دعم وتسليح خارجي كريم وسخي بطبيعة الحال، وهو سيشكل عملياً انقاذاً لما تبقى من جسدهم المتفسخ والمتعفن.
صحيح أن الفاسدين الآن يمعنون في النهب ويساهمون في محاولات كيان الاحتلال لإخضاع المقاومة، أو توريطها في حرب داخلية يستفيدون منها على دماء أبناء طوائفهم، ويعاد تعويمهم دولياً بفعل دور دموي، لكن يبدو أنهم يخافون كذلك من أن يتركهم الغرب واليهود يقاتلون وحدهم كما فعلوا مع داعش والنصرة.
في المراحل الأخيرة من عمر نظام الطائف، وفي المراحل الأخيرة من موت النظام الفاسد، لا يزال الفاسدون يمارسون نفس السلوكيات، وهذا أفضل، لربما تتقلص شعبيتهم داخل بيئاتهم الواهمة أكثر فأكثر، وتسقط أوراق التوت الأخيرة. لبنان بانتظار ثقافة العمل الجاد والسعي لنيل المكاسب، يحتاج أكثر من أي وقت مضى للخلاص من فرص الربح من خلال الخداع.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.