حيث لا يجرؤ إلا المجرمون

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أحد عشر عامًا من السجن الانفرادي لم تكن كافية للتغيير، ولو بنسبة طفيفة، بعقلية الحكيم؛ فالحكيم -الذي كان معروفًا بإنجازاته في غرف العمليات، وهنا أتمنى على العاملين في الحقل الطبي، ونقابة الاطباء بشكل خاص، عدم فهم كلامي بشكل خاطئ وليس لدي نية لتوجيه اي اهانة او ادانة للعمل الطبي، فالحكيم الذي نتحدث عنه هنا، هو حكيم فريد من نوعه، وغرف العمليات التي برع فيها، هي ايضًا من نوع آخر- اشتهر خاصةً في غرف عمليات ادارة حروب العصابات بكل ما تعنيه كلمة عصابات من معنى وتحمله من تنوع. لقد نفذ عمليات تسجل في كتب التاريخ، وكانت عملياته من الانجح والأبرع، وفي مقدمها عمليات الاغتيال بدم بارد ومن دون تردد.

لقد برع الحكيم في اغتيال المنافسين وتصفية المعارضين. انه الحكيم الناجح في العمليات الجراحية التي تبدأ باستئصال كل من يعارض وصفاته النوعية، ولا تنتهي عند اخصاع مرضاه للعلاج الكيميائي، وجلسات المرة الواحدة، داخل براميل الاسيد الحارقة، والنتائج معروفة، اعداد قياسية من الارواح البريئة، من كل الفئات العمرية والجنسية والعرقية، دون تمييز بين فئة وأخرى، حكيم عابر للطوائف والاديان والاحزاب، لم يسلم من ادواته الحادة مرتاد لمسجد او عابد في كنيسة، حتى انه تخطى الحدود الجغرافية ولم يتقاعس عن انتزاع ارواح عابري السبيل. انه الحكيم الذي برع في محاربة الغرباء، خصوصًا أولئك القادمين من مسافات الكيلو متر صفر، انه بطل الحروب الخاسرة دومًا، بطل المعارك الفاشلة ابدًا، بطل الرهانات الخاطئة عبر الزمن. انه الحكيم المؤمن بالوحدانية، ولعله تجاوز بوحدانيته اشد منظري المذهب الوهابي، ففي ذروة صعوده المهني اطلق نظرية التوحيد “المسيحية”، وحدة البندقية المسيحية، وحدة الصف المسيحي، وحدة الحزب المسيحي، وحدة المجتمع المسيحي، وحدة العمل السياسي المسيحي، وحدة الدم المسيحي، والنتيجة كانت دائمًا واحدة، وحدة الكوارث المسيحية.

انه حكيم الشعارات الكبيرة التي ما ان تخرج من معمل افكاره الهلامية، حتى تدخل في سلة المهملات والقاذورات، “حالات” حتمًا، بالفعل وحتمًا في مزبلة التاريخ، حيث لا يجرؤ الاخرون، بكل تأكيد، من يجرؤ على تفجير كنيسة؟ من يجرؤ على قتل اب وام واطفالهما؟ من يجرؤ على قتل راهب في صلاته؟ من يجرؤ على وضع كائن حي في برميل الاسيد؟ انه الحكيم القائد العسكري العنيد، صاحب الانجازات الباهرة، معارك الجبل صفر، معارك زحلة صفر، امن المجتمع المسيحي صفر، حرب توحيد البندقية صفر.

لكن لنكن منصفين ونعترف بأن هذا الرجل عنيد ولا يغير في مبادئه ولا في شخصيته، حتى السجن خضع لعناده ولم يغير فيه قيد انملة، والاهم من كل ذلك، محافظته على الاسلوب والاداء، والعقلية الميليشياوية، بارع في الاصرار على النهج، ويا له من نهج، فها هو، وبعد ان خرج من القفص الحديدي، اعاد ويعيد احياء ما دفن من تاريخه وتاريخ حزبه وتاريخ لبنان الاسود. لقد تمكن وبقدرة قادر من الظهور من جديد، وبحلته القديمة التي يتقنها وبحرفية عالية مع محازبيه زعران الشوارع، ليعيد طباعة خطاب الكراهية والعنصرية، وليقرع طبول حروب الداخل وانعاش مقاومته اللبنانية للشعب والجيش وابناء الجلدة الواحدة.

لقد اعاد الى الحياة صور بطولات حرب الالغاء والاقصاء، ومعارك تحرير المناطق من ابنائها، وعادت مشاهد مواجهة دبابات وعساكر الوطن دفاعًا عن الدويلة المثالية التي يحكمها ويتحكم بمصيرها قهر المليشيات، وتدير اقتصادها صناديق الخوات، دويلة اصغر من ان تبلع واكبر من ان تقسم، تحدها من الشرق جبال قرى لبنان المتصرفية ومن الغرب الاوتوستراد البحري وساحة الشهداء ومن الجنوب عين الرمانة واوتوستراد البقاع ومن الشمال حاجز البربارة.

انه بالفعل زعيم حكيم صريح مع ذاته، فهو مصداق المثل القائل من شب على شيء شاب عليه. مشكلة هذا الشخص، وبنفس الوقت ميزته اللافتة، هو انه لا يتعلم من الماضي الفاشل ولا يتعلم من السقوط المتكرر، لدرجة استطاعت معها قردة مختبرات بحث علم الاجتماع السياسي، التفوق عليه، حينما امتنعت من الجلدة الثالثة عن تناول الموز. ولم يقف هذا التفوق على القردة وحسب، بل حتى حمار جدي الابيض تمكن من تجاوزه بعد ان حفظ طريق البيدر من المرة الثانية ولم ينل سوى خيزرانتين.

على الرغم من هذه الصورة المأسوية فإن هذا الحكيم وزمرته استطاعوا، ولو عن غير قصد ونية صافية، ان يتحولوا، وبفضل شعارهم الهوليودي “حيث لا يجرؤ الآخرون”، الى مسخرة، ويرسموا الابتسامة على وجوه الاطفال من متابعي الرسوم الكرتونية، من غرندايزر وصولا الى باور رنجرز، وحتى الكبار متابعو افلام رامبو الاكشنية اخذوا نصيبهم من جرعات الفكاهة والضحك، أضف الى ذلك سلسلة لا تنتهي من العنتريات لمن يسمون انفسهم بالقوات، قوات! وعلى مين؟

وبالعودة الى الحديث عن العقلية الميليشياوية، فليس غريبًا على هذا الحكيم وحزبه، الذي يقوم ويعوم على ذهنية الاعتزال والاقصاء والقتل، هذا الاصرار على استحضار لغة ومفردات الماضي ومصطلحات قطاع الطرق وزعران الحواجز الطيارة، والترويج للبطولات والملاحم القتالية في شوارع البلدات وزواريب الحارات، وخلق العداء والاصرار على استعداء اكثر من فريق من اللبنانيين واستعمال كليشيهات الحرب الاهلية، اعرف عدوك، لكن هذه المرة عدوك ايراني، والمحتل اتى من بلاد فارس، فاللبناني الاخر بضاعة مستوردة وتقليد عن الاصلي، اما هو وجماعته فإنهم ماركة مسجلة لبنانية اصيلة جذورها في مصر وسوريا وارمينيا وبلاد الواق واق.

لقد فات على هذا الفذ، ومن يلف لفه، أن التاريخ قد يعيد نفسه ببعض اشكاله، لكنه لا يسترجع الاموات ولا يعيد الظروف التي كانت الى ما كانت عليه، وكما يقول المثل “زمن الاول تحول”، فهذه المرة لن تسلم الجرة، واللعب بالنار سوف يحرق اصابع ووجوه الذين يفكرون بإشعال فتيلها. هذه المرة الحليف السند اصبح مذعورًا يتلطى خلف الجدران، وهذه المرة لن يُسمح لك ان ترسم خطوط تماس دويلتك التي خبر ممارساتها المقربون قبل الابعدين، ونبشرك بأنها سوف تقبر في مهدها، ولن تجد منبرًا تقف عليه لتعلن عن استراتيجيتك المستعارة من ابطال تاريخ لم يتسنّ لك ان تختبر وتذوق طعم انتصاراتهم وانت الذي هُزمت حيث لا يهزم الاخرون. في هذه المعركة، لو وقعت، لن يكون العدو خلفك والبحر امامك، هذه المرة سوف يكون “العدو” خلفك وفوقك وحولك وسوف يكون الموت النهائي والحتمي والمجتمعي امامك.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد