زهران ممداني: تحوّل في المشهد السياسي الأميركي بين هوية الأقليات والموقف من فلسطين
المقدمة
شهدت السياسة الأميركية في السنوات الأخيرة تحوّلات لافتة في طبيعة المرشحين الذين يتقدّمون للمناصب العامة، سواء من حيث الخلفية الاجتماعية أو من حيث الخطاب السياسي. من بين هذه الشخصيات يبرز اسم زهران ممداني، السياسي المسلم الأميركي من أصول آسيوية–أفريقية، الذي تصدّر المشهد السياسي في نيويورك بصفته مرشحاً تقدّمياً جريئاً، وواحداً من أكثر الأصوات وضوحاً في دعم حقوق الشعب الفلسطيني وانتقاد سياسات الاحتلال الإسرائيلي.
إنّ ترشّح ممداني وفوزه في الانتخابات التمهيدية لمنصب عمدة مدينة نيويورك لا يمثل مجرد حدث انتخابي، بل تحوّلاً ثقافياً وسياسياً عميقاً في الولايات المتحدة. فهو يحمل دلالات تتجاوز المدينة إلى طبيعة التحوّل داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، وعلاقة السياسة الأميركية بالقضايا العالمية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
يهدف هذا المقال إلى دراسة شخصية زهران ممداني ضمن سياقين: التحوّل الاجتماعي والسياسي داخل الولايات المتحدة وإعادة تعريف العلاقة بين الهوية والالتزام السياسي في القضايا الدولية.
أولاً: الخلفية الشخصية والهوية المركّبة
ولد زهران ممداني عام 1991 في أوغندا لعائلة هندية الأصل هاجرت من جنوب آسيا. يحمل والده جذوراً من مدينة حيدر آباد في الهند، بينما تنحدر والدته من أسرة نشطة في مجالات التعليم والعمل الاجتماعي.
انتقل ممداني إلى نيويورك وهو في السابعة من عمره، حيث نشأ في حي كوينز متعدد الأعراق والثقافات.
يحمل ممداني ثلاث هويات متداخلة: هوية دينية: فهو مسلم يؤمن بأن الدين عنصر للعدالة الاجتماعية وليس مجرد انتماء روحي، وهوية عرقية: فهو آسيوي–أفريقي، تمثّل نموذج المهاجر الحديث المتعدد الانتماءات، وهوية سياسية–مدنية: فهو أميركي تقدّمي يسعى إلى توسيع مفهوم المواطنة لتشمل التنوّع العرقي والديني.
تمنحه هذه الهويات الثلاث بعداً خاصاً في المشهد الأميركي، إذ يمثل فئة من الشباب الذين يجمعون بين الأصالة الثقافية والانفتاح العالمي، ويرون في السياسة وسيلة لإعادة صياغة معنى “الانتماء الأميركي”.
ثانياً: المسار الأكاديمي والسياسي
تخرّج زهران ممداني من جامعة نيويورك (NYU)، حيث درس العلوم السياسية والعلاقات الدولية. عمل في بداياته في العمل الاجتماعي المجتمعي، ثم اتجه نحو النشاط السياسي ضمن الجناح التقدّمي في الحزب الديمقراطي، متأثّراً بتجارب مثل بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو كورتيز.
في عام 2020، فاز بمقعد في الجمعية التشريعية لولاية نيويورك، ليصبح من أوائل المسلمين الذين يشغلون هذا المنصب. هناك، ركّز على قضايا الإسكان، النقل العام، والعدالة الاقتصادية. وفي عام 2025، أعلن ترشّحه لمنصب عمدة مدينة نيويورك، وفاز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، متقدّماً على أسماء بارزة من الجناح الوسطي في الحزب.
ثالثاً: برنامجه السياسي والاجتماعي
برنامج ممداني يحمل بصمات المدرسة الاشتراكية الديمقراطية في الولايات المتحدة، التي تركّز على إعادة توزيع الثروة والعدالة الطبقية. من أبرز ملامح برنامجه:
سياسات الإسكان:
يدعو إلى تجميد الإيجارات في المدينة، وزيادة الاستثمار في الإسكان العام، ومحاربة طرد الأسر محدودة الدخل.
يرى أن “الحق في السكن” هو امتداد طبيعي لـ “الحق في الكرامة”.
العدالة الاقتصادية:
يقترح فرض ضرائب تصاعدية على الشركات الكبرى والمضاربين العقاريين، لتأمين تمويل مستدام للخدمات العامة.
النقل العام:
يريد جعل المواصلات العامة مجانية أو منخفضة التكلفة بشدة، معتبرًا أن النقل ليس خدمة تجارية بل حق اجتماعي.
التنوع والتمثيل:
يسعى لإعادة بناء علاقة المؤسسات مع المجتمعات المهاجرة والمسلمة، ويدعو إلى إدماج الأقليات في صُنع القرار.
السياسة الخارجية الرمزية:
رغم أن البلديات ليست صاحبة قرار في السياسة الخارجية، فإن ممداني يرى أنّ الموقف من فلسطين أو غيرها “يعبّر عن ضمير المدينة”، لأن العدالة لا تتجزّأ.
رابعاً: موقفه من القضية الفلسطينية
يُعتبر ممداني أحد أكثر السياسيين الأميركيين وضوحاً في دعم القضية الفلسطينية. وصف الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2024 بأنها “إبادة جماعية منهجية”، وطالب بوقف فوري للمساعدات الأميركية لإسرائيل حتى التزامها بالقانون الدولي.
يرى ممداني أن الدفاع عن فلسطين لا يتناقض مع كونه أميركياً، بل هو امتداد لمبدأ العدالة ذاته الذي يتبنّاه داخلياً. في مقابلة مع قناة الجزيرة قال: “حين نطالب بالعدالة للعمال في نيويورك، لا يمكن أن نتجاهل العدالة للشعب الفلسطيني في غزة.”
وقد تسببت هذه المواقف في هجوم من اللوبي الصهيوني والإعلام المحافظ، الذي اتهمه بمعاداة السامية، لكنه في المقابل حصل على دعم شعبي واسع من الجاليات العربية والمسلمة والتقدّميين الأميركيين، الذين اعتبروه صوتاً شجاعاً في زمن الصمت السياسي.
تُعدّ مواقفه امتداداً لتحوّل داخل الحزب الديمقراطي، حيث أصبح الجيل الشاب أكثر انتقاداً لإسرائيل مقارنة بالأجيال السابقة.
خامساً: المعنى السياسي والاجتماعي لفوزه التمهيدي
يمثل فوز ممداني في انتخابات الحزب الديمقراطي لنيويورك تحوّلاً نوعياً في ثلاث مستويات:
التمثيل الرمزي:
لأول مرة يصل مرشح مسلم من أصول آسيوية–أفريقية إلى هذه المرحلة المتقدمة في سباق بلدية نيويورك، أكبر مدن الولايات المتحدة.
تحوّل في خطاب الحزب الديمقراطي:
يؤكد فوزه أنّ التيار التقدّمي (Progressive Wing) لم يعد هامشياً، بل أصبح قادراً على تحدي التيار الوسطي المدعوم من الشركات واللوبيات التقليدية.
كسر التابوهات السياسية:
حملته أعادت فتح النقاش حول علاقة السياسة الأميركية بإسرائيل، بعد عقود من “التحريم السياسي” لأي انتقاد علني لها.
سادساً: التحديات أمام ممداني
رغم الشعبية المتزايدة، يواجه ممداني عدداً من التحديات الجوهرية:
التحالفات الاقتصادية والسياسية المضادة:
فالنخبة الاقتصادية في نيويورك، التي تستفيد من النظام النيوليبرالي الحالي، تعتبر برنامجه تهديداً مباشراً لمصالحها.
اللوبيات الصهيونية والإعلام المحافظ:
حملات التشويه تتّهمه بالتطرّف ومعاداة السامية، مستهدفة خلفيته الدينية وموقفه من فلسطين.
صعوبة الإدارة التنفيذية:
نيويورك مدينة معقدة من الناحية الإدارية والمالية، وإدارة هذه المنظومة تتطلب توازناً بين الأيديولوجيا والبراغماتية.
الرهان على تحالف الأقليات:
نجاحه يعتمد على مدى قدرته على توحيد الأقليات العرقية والدينية خلف مشروع مدني جامع، لا يقوم على الهوية فقط بل على العدالة العامة.
سابعاً: زهران ممداني والهوية الأميركية الجديدة
يمثل ممداني نموذجاً لما يمكن تسميته “الجيل الثالث من المهاجرين السياسيين” في أميركا:
جيل لا يعتذر عن انتمائه، ولا يسعى إلى الذوبان في النموذج الأبيض البروتستانتي التقليدي، بل يشارك في إعادة تعريف الأميركية كهوية منفتحة متعددة الألوان.
تجربته تشبه في بعض الجوانب تجارب سابقة مثل:
إلهان عمر (النائبة الصومالية الأصل).
رشيدة طليب (النائبة الفلسطينية الأصل).
باراك أوباما في مراحل مبكرة من حياته السياسية، عندما مثّل أول “وجه ملوّن” في مسار البيت الأبيض.
غير أنّ ممداني يتميّز عن هؤلاء بجرأته في كسر المحظورات الأخلاقية والسياسية المحيطة بإسرائيل، وبمحاولة ربط النضال المحلي بالعالمي.
ثامناً: الدلالات الفكرية والسياسية لتجربته
تتجاوز تجربة ممداني بعدها الانتخابي، لتفتح الباب أمام تساؤلات فلسفية–سياسية عميقة حول معنى العدالة والمواطنة في عصر العولمة:
العدالة العابرة للحدود:
موقفه من فلسطين يعيد تعريف السياسة المحلية بوصفها جزءاً من نسيج العدالة الكونية.
الهوية كقيمة تحرّرية:
لم تعد الهوية مجرد أصل عرقي، بل أداة مقاومة للنظام الطبقي والعنصري في آنٍ واحد.
السياسة كضمير أخلاقي:
بخلاف السياسيين البراغماتيين، يصرّ ممداني على أن السياسة ليست موازنة مصالح فقط، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الإنسان أينما كان.
تاسعاً: التفاعل الشعبي والإعلامي
أحدث ترشّح ممداني زخماً إعلامياً واسعاً. فقد انقسمت التغطيات بين الإعلام التقدّمي (The Nation, Democracy Now, الجزيرة، ميدل إيست آي) الذي احتفى به كبداية لحقبة سياسية جديدة، والإعلام المحافظ (Fox News, New York Post) الذي صوّره كخطر على “قيم المدينة” واتهمه بإثارة الانقسامات.
في استطلاعات الرأي، حظي بدعم قوي من الشباب دون الثلاثين، والطبقة العاملة متعددة الأعراق، والجالية المسلمة والعربية.
عاشراً: التأثير المستقبلي المحتمل
إن فوز ممداني سيترك أثرًا بعيد المدى في السياسة الأميركية.
يمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية:
إعادة تعريف حدود الممكن السياسي:
ممداني يثبت أنّ المرشحين ذوي المواقف الجذرية يمكنهم خوض معارك كبرى وتحقيق نتائج ملموسة.
تحفيز الأقليات للمشاركة السياسية:
وجوده على الساحة يمنح المهاجرين والمسلمين شعوراً بالتمثيل والانتماء.
تأثير على السياسة الخارجية الأميركية:
مواقفه قد تُسهم في كسر الهيمنة المطلقة للرواية الإسرائيلية داخل الحزب الديمقراطي.
تجديد في الخطاب المدني:
قد يُعيد مفهوم “مدينة نيويورك” بوصفها مساحة للعدالة والمواطنة العالمية، لا مجرد مركز مالي.
الخاتمة
يمثل زهران ممداني أكثر من مجرد مرشح سياسي؛ إنه رمز لتحوّل حضاري في بنية الوعي الأميركي. يجسّد التقاء ثلاث قيم هي العدالة الاجتماعية، والتنوّع الثقافي والتضامن الإنساني.
في زمن تتزايد فيه الانقسامات، يعيد ممداني التذكير بأن السياسة يمكن أن تكون مساحة للضمير، لا مجرد لعبة مصالح.
سواء فاز أم لم يفز، فإن أثره سيظلّ قائماً في خطاب الشباب الأميركي، وفي تحوّل الحزب الديمقراطي نحو أفق أكثر إنسانية وعدالة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.