شخصيات هامشية على شاشة المشهد العام

23

حسن فرحات – خاص الناشر |

في كل أزمة سياسية أو موسم اصطفاف، تظهر إلى السطح شخصية هامشية كانت غائبة عن النقاش داخل محيطها الطبيعي. لا حضور يُعتدّ به في طائفتها، ولا رأي مُتداوَل بين نُخبها، ولا رصيد معرفي يتيح لها حمل خطاب مركّب. ومع ذلك، تُدفَع فجأة إلى الواجهة بمالٍ ملوَّن وعلاقاتٍ مُحكَمة، فتلوّح بمنبرٍ جديد وتتصرف كأنها تملك مفاتيح الحل والربط، وتوزّع شهادات وطنية على الآخرين.

في هذه المقالة نقدم قراءة تحليلية نقدية لهذه الظاهرة وشخصيتها النموذجية: كيف تُصنَع؟ بأي نفسية تعمل؟ وأي علامات تكشف قناعها؟

اقتصاد الاعتراف
الانتقال من «الهامش» إلى «الميكروفون» لا يحدث صدفة. هناك دائمًا “اقتصاد اعتراف” يديره لاعبون يريدون صوتًا داخليًا يخدم سرديتهم. فالاعتراف هنا لا يولد من تراكُم خبرة أو ثقة اجتماعية، وإنما يأتي من الخارج على شكل تفويض إعلامي مع تمويل. إذ إنّ المال يشتري مساحة، والمساحة تمنح وهم التأثير، فيُعاد تقديم الشخصية كـ«مرجع بديل» داخل بيئتها، ولو لم تُمنح يومًا تفويضًا اجتماعيًا أو معرفيًا حقيقيًا.

في هذا السوق، تُستورد الشخصيات الهشة لسبب محدّد: سهولة التوجيه، وسرعة الامتثال، وضعف الثقة بالنفس، وحب الظهور، والطمع بالمال السريع. فاللاعب الخارجي لا يحتاج إلى مفكر مستقل أو قيادي ذي قاعدة؛ إذ كل ما يحتاج إليه هو واجهة قابلة للقولبة. هنا يتبدّل دور المنبر: فالمنبر لا يعكس صاحبَه، وإنما يخلقه من فراغ. وهكذا يُستبدل الوزن الحقيقي بـ«مظهر صوتي» مرتفع؛ لأن التمويل يرفع الصوت، لكنه لا يرفع القيمة.

من عقدة اللامرئية إلى اتكاء على «أب» راعٍ
هذه الشخصية تعيش تاريخًا من اللامرئية داخل جماعتها؛ لم تُستدعَ لاستشارة، ولم تُختبر في ساحات الجدال الحقيقي. فتتكوّن لديها حاجة حادّة للاعتراف، فتبحث شعوريًا وفي بعض الأحيان لا شعوريًا عن راعٍ يقدّم شرعية مُستعارة. وفي لحظة الرعاية تتشكل علاقة تشبه صورة «الأب–الابن»: الأب يمنح المال والمنبر والغطاء، والابن يقدّم الولاء والخطاب والخدمة.

هذه العلاقة تُنتج نوعًا من النرجسية الهشّة. فتبدو في الخارج على شكل ثقة وجرأة وجُمَل تقريرية، وفي الداخل قلق دائم من انكشاف الفراغ؛ لذلك تحتاج الشخصية إلى جرعات متتالية من الظهور والتصفيق المصطنع. وعند أي انقطاع في التمويل أو المنبر يهدد «صورة الذات»، يلجأ صاحبها إلى مزيد من الحِدّة الخطابية لتعويض التراجع؛ لأنه يعرف تمامًا أنّ الميكروفون يضخّم الصدى، لكنه لا يصنع النبرة.

القناع اللغوي وألعاب الإيحاء
الخطاب الذي يخرج من هذه الشخصية يملك معجمًا ثابتًا بحيث يمكن رصده:
أ‌- لغة تقريرية يقينية: تُطرح الآراء كحقائق ناجزة بلا مسار استدلال؛ لأن الهدف ليس الإقناع بالحجّة، بل فرض الإيقاع على السامع.

ب‌- مِسطرة الوطنية: تُصنَع «اختبارات» زائفة للانتماء، فيُمنَح بعضٌ صكوك الولاء ويُنزَع عن آخرين. فتتحوّل الوطنية إلى أداة فرز تخدم الجهة الراعية.

ت‌. التجريح بدل التفكيك: تُستَبدَل القراءة التحليلية للخصوم بمفردات تشكيكية تُسقِط الضعف الداخلي على الآخر. هنا يشتغل الإسقاط كآلية دفاع: اتهام الآخرين بما يعتمل في الداخل.

ث‌- الاستعراض المعرفي السطحي: يُقتبس عنوان كتاب أو اسم مصطلح خارج سياقه لتوليد هالة «مثقف». فالقراءة الفعلية غائبة، والاقتطاع يوظَّف كديكور لغوي.

في هذا الخطاب لا يَظهر أي منهج أو قابلية للمراجعة، وإنما أداء متكرر يطلب التصفيق. وعندما يتعرّض لنقد مُحكَم، يلجأ إلى تشتيت الموضوع أو إلى تسييل الاتهامات العامة، لأن التفصيل يُعرّي القشرة.

كيف يعمل «المال–الإعلام–الحضور»؟
تقوم شبكة الرعاية بإدارة ثلاثية بسيطة:
تمويل لتأمين ظهور، منصة لتوفير تكرار، شبكات لتضخيم الرسائل.

فالتكرار يلعب دور «البديل المؤقت عن المصداقية»؛ لأنّ الرسالة التي تتكرر عبر قنوات عدة تكتسب وزنًا نفسيًا لدى جزء من الجمهور، حتى بلا مضمون قويم. هنا يعمل «أثر الحقيقة الوهمية»: التكرار يمنح الانطباع باليقين.

فالشبكة لا تشتري فقط مساحات؛ وإنما تشتري كذلك صمتًا حول الأسئلة المحرِجة. فلا هو يُسأل عن مصدر المال، ولا يُسأل عن تضارب المصالح، ولا يُسأل عن تاريخ المواقف. وبذلك يُصنَع حزام حماية يمنع النقد الحقيقي من الاقتراب؛ إذ من المعلوم أنه عندما يكثر الصدى تقلّ الشفافية في الغالب.

التناقضات التي تفضح صاحبها
ويمكن تشخيص ظاهرة «الصوت المُصنَّع» عبر علامات متكررة:
أ – تبديل سريع للمواقف بحسب مصلحة الجهة الراعية، مع خطاب يزعم الثبات.
ب – زهد في التفاصيل عند الحديث عن ملفات معقدة، مقابل وفرة في النعوت.
ت – تهرّب دوري من المناظرات الجادّة مع أصحاب الاختصاص.
ث – تضخيم الذات («نحن نمثل»، «نحن نقرر») رغم غياب تخويل اجتماعي داخل البيئة الأصلية.
ج – انقطاع التأثير فور انطفاء المنبر، ما يؤكد غياب الجذور الحقيقية.

هذه العلامات تكشف الفجوة بين الصورة والأصل: صورة مُصمّمة بعناية، وأصل ضعيف لا يصمد في اختبار المعايير المهنية أو الأخلاقية.

ما الذي ينبغي فعله مجتمعيًا وإعلاميًا؟
أ‌- كشف التمويل أولًا: الشفافية تمتحن الشرعية. فأي شخصية تقتحم النقاش العام بميزانية واضحة ومنابر مفتوحة مطالَبة بإعلان مصادر الدعم وآلياته. «من أين لك هذا؟» سؤال مهني لا هجومي.
ب‌- فَكّ الارتباط بين الصوت والمنبر: المنبر لا يمنح حصانة معرفية. المنصات الرشيدة تُخضع ضيوفها لمعايير متساوية: أسئلة دقيقة، مصادر موثّقة، ومحاسبة على التناقضات.
ت‌- تغليب المواجهة بالحجة لا بالمنع: المقاطعة قد تمنح الضحية الوهمية ما تحتاجه من دراما. فالأجدى هو العرض على طاولة اختبار: أرقام، وقائع، مسارات استدلال. الفراغ لا يصمد أمام التفاصيل.
ث- بناء ذاكرة نقدية عامة: أرشفة المواقف والتصريحات والروابط التمويلية في قواعد يسهل الرجوع إليها. الذاكرة العامة تُفقد «البوق» أهم سلاح لديه: التلاعب بقِصَر ذاكرة الجمهور.
ج‌- تحصين الجمهور بسلوكيات إعلامية: طلب المصدر عند كل ادعاء، التمييز بين المعلومة والرأي، ومراقبة المفردات التي تحجب الفكرة خلف شتائم أنيقة.

لماذا ينجح «البوق» أحيانًا؟
النجاح النسبي لهذه الظاهرة له أسباب مفهومة:
أ‌- تعب جماهيري من التعقيد يدفع نحو الصوت العالي.
ب- استقطاب سياسي يبحث عن أي مُسوّغ داخلي،
ت- فجوة ثقة مع بعض النخب تدفع الناس لتجريب البدائل مهما كانت هشّة.

فوق هذا، تعمل المنصات على استثارة غريزة القبيلة: خطاب يُشعرك بأنك مُستهدَف وأن هذا الصوت «يحميك». ومع خوف عام من المستقبل، تُباع البساطة الخطابية بسرعة.

ومع ذلك، يظل هذا النجاح تكتيكيًا وقصير العمر. فعند أول اختبار يُلزم بالمسؤولية -ملف مُعقّد، أزمة تتطلب خبرة، مساءلة وجهًا لوجه- تظهر الفوارق بين صاحب مشروع وصاحب منبر مستعار. هنا ينكشف فرق النوع: مشروع قابل للمحاسبة والتقويم، مقابل أداء يتغذى من الظهور ويذبل عند حساب النتائج.

إنّ تفكيك هذا الادعاء يبدأ بسؤال بسيط: من منحك التفويض؟ والإجابة تكشف كل شيء. التفويض في المجتمعات يُبنى من تجربة معيشة، وشبكة ثقة، وتراكم إنجاز، وقدرة على تحمّل تبعات القرار. أما التفويض المموَّل فموسمي ومشروط بخيوط الراعي. ما يقطعه الراعي يُطفئ الصوت. فالوطنية ليست ميكروفونًا، بل هي سجلّ من الفعل والمسؤولية.

وعلى أي حال، يمكن للمال أن يشتري منبرًا، ويمكن للإعلام أن يصنع حضورًا، ويمكن للصياغة أن تمنح جُملًا براقة. لكن الصدى يظل صدى. الصوت الأصيل يُسمَع داخل بيئته قبل خارجها، يُمتحَن في التفاصيل قبل العناوين، يُحاسَب في النتائج قبل الأضواء. وعندما يهدأ الضجيج، لا يبقى إلا ما كان له جذرٌ ومعيار.

لهذا، فالمعركة الحقيقية مع «الأبواق» ليست مع الأفراد بأسمائهم، بل مع نظام صناعة الصوت المأجور: كشف تمويله، تفكيك لغته، إحراج منطقه، وتجفيف منصاته بمعايير مهنية لا تُحابِي. وعندها يصبح المشهد أوضح: من يملك مشروعًا يتقدم بالحجة والعمل، ومن يملك منبرًا مستعارًا يتراجع فور انقطاع التيار الذي يُضيئه؛ لأن القاعدة معروفة وثابتة: ضبط المعايير، يُسقط الأصوات المُصنَّعة تلقائيًا.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.