ظاهرة “الترند” في العصر الرقمى: مقاربة سوسيولوجية
تشهد المجتمعات المعاصرة تحولات جذرية بفعل الثورة الرقمية وما أفرزته من أنماط جديدة للتواصل والإنتاج والتلقي. إذ لم يعد الفضاء الافتراضي مجرد امتداد للواقع الاجتماعي، بل فضاء موازي يعيد تشكيل القيم والاتجاهات والأولويات. ومن أبرز الظواهر التي برزت في هذا السياق ما يُعرف بـ “الترند” Trend، أي الموضوعات أو القضايا أو الأحداث التي تحظى بزخم غير مسبوق في التداول خلال فترة زمنية قصيرة، لتصبح محدداً أساسياً للنقاش العام وصانعة لاتجاهات الرأي الجمعي.
لم يعد مفهوم “الترند” مقتصراً على مجرد مؤشر رقمي لقياس التفاعل في منصات التواصل الاجتماعي، بل تحوّل إلى ظاهرة ثقافية واجتماعية ذات أبعاد متشابكة، ووسيلة للتأثير في الرأي العام، بل وميدان لتشكيل الهوية الفردية والجماعية. تتضاعف أهمية دراسة هذه الظاهرة بالنظر إلى تأثيرها المباشر في أنماط التفكير والسلوك، حيث صارت “الترندات” تختزل النقاشات العامة في موجات قصيرة الأمد، يتلاشى أثرها سريعاً لتفسح المجال أمام موجة أخرى. ومع الصعود والاختفاء تُثار تساؤلات تتعلق بكيفية صناعة “الترند”، وهل قوته تتوقف على الشخصيات التي يتناولها؟، ثم هل هناك معايير مستقبلية تتعلق بأخلاقياته؟
إذا كانت هذه الظاهرة قد باتت جزءًا من الحياة اليومية عالميًا، فإنها اكتسبت خصوصية في السياق المصري من خلال أمثلة متعددة، لعل أبرزها ما عُرف إعلاميًا وشعبيًا بقصة “فتاة الشيبسي”. هذه القصة تكشف الكثير عن ديناميكيات صناعة “الترند” في مصر، وعن آلياته وأبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية. إذ تعيد الخوارزميات تشكيل أولويات النقاش، ويتحول الحدث العابر إلى قضية رأي عام، مما يدل على قوة الفضاء الرقمي في فرض أجندته على المجال العام.
وفي ظل هذه التحولات، بات من الضروري تقديم قراءة سوسيولوجية تسعى إلى تفكيك الظاهرة من جوانبها النظرية والعملية، وانعكاساتها على المجتمعات، خصوصًا في السياق المصري، لا سيما وأنها تحمل دلالات عميقة تتعلق بآليات إنتاج المعنى، وإعادة تشكيل العلاقة بين المتلقي والمحتوى في الإعلام. ومن ثم يبرز التحدى أمام المجتمعات والدول في كيفية إدارة هذه الظاهرة بما يحقق التوازن بين حرية التعبير ومتطلبات الأمن المجتمعي.
ظاهرة ” الترند”: المفهوم والأبعاد
يعد “الترند” ظاهرة تتجاوز كونها مجرد وسم شائع على منصة اجتماعية؛ فهي مرآة لتحولات عميقة في الثقافة والمجتمع. فهو يعكس قوة التكنولوجيا في إعادة تشكيل المجال العام لكنه في الوقت ذاته يكشف عن مخاطر السطحية، والتضليل، وثقافة القطيع.
لغويًا، يرتبط مصطلح “الترند” Trend بالاتجاه السائد أو الميل العام. أما إجرائيًا، فيشير في البيئة الرقمية إلى أكثر الموضوعات رواجًا وتداولًا على منصات التواصل الاجتماعي خلال فترة زمنية قصيرة، سواء عبر وسم (Hashtag) أو فيديو أو صورة أو حتى جملة عابرة.
لا يُعد “الترند” مفهومًا أحادي الدلالة؛ فهو يجمع بين معانٍ تقنية تتعلق بخوارزميات المنصات، وأبعاد اجتماعية ترتبط بكيفية تشكّل الرأي العام. فمن الناحية التقنية، يُقصد بـ”الترند” الموضوعات الأكثر تداولًا في فترة زمنية محدودة، حيث تُصنّفها الخوارزميات بناءً على حجم التفاعل وسرعته ونطاقه الجغرافي. أما من الناحية الاجتماعية، فـ”الترند” هو لحظة جماعية ينخرط فيها الأفراد بشكل متزامن، عبر التفاعل أو المشاركة أو حتى المعارضة، بما يمنحه طابعًا احتفائيًا أو صراعيًا في آنٍ واحد. بينما في السياق الإعلامي، يُنظر إلى “الترند” بوصفه مزيجًا من تفاعل المستخدمين وتدخل الخوارزميات التي تضخّم بعض المحتويات وتهمّش أخرى، وهو ما يجعل “الترند” ظاهرة مركّبة، تجمع بين البعد التلقائي المرتبط بالجمهور والبعد المصطنع الذي تفرضه المنصات أو الجهات المنظمة.
في الأدبيات الغربية، يُربط “الترند” عادة بمفهوم “اقتصاد الانتباه”، حيث تتنافس المنصات الرقمية على جذب انتباه الأفراد عبر تضخيم موضوعات معينة. أما في الأدبيات العربية، فقد بدأ الاهتمام بـ”الترند” من زاويتين: الأولى إعلامية تعتبره مؤشرًا لقياس اتجاهات الرأي العام، والثانية نقدية ترى فيه آليه لتسطيح النقاش العام وحصره في قضايا ثانوية أو مفتعلة. وبالتالي فإن “الترند” هو نقطة التقاء بين منطق الخوارزميات ومنطق الجماعة، حيث يلتقى “ما تريد المنصة دفعه” مع “ما يريد الناس التعبير عنه”.
ويمكن قراءة ظاهرة “الترند” في ضوء عدد من المداخل النظرية الآتية:
- نظرية انتشار الابتكارات (Diffusion of Innovations – Rogers, 1962): تفسر هذه النظرية كيف تنتشر فكرة أو ممارسة أو منتج داخل المجتمع عبر قنوات اتصال معينة، وفي فترة زمنية محددة. ويمكن النظر إلى “الترند” كابتكار رمزي ينتشر بسرعة استثنائية بفعل خصائصه: حداثة الفكرة، جاذبية الشكل، وقابلية التقليد.
- الفضاء العام (Public Sphere – Habermas, 1989): يرى هابرماس أن الفضاء العام هو مجال للنقاش العقلاني الحر، لكن مع التحول الرقمي تحوّل هذا الفضاء إلى بيئة يغلب عليها الطابع الفوري والسطحي. فـ”الترند” يمثل تشويهًا للفضاء العام، إذ يختزل النقاش في موجة قصيرة العمر، يغيب عنها العمق والحجج.
- العدوى الاجتماعية (Social Contagion – Tarde, 1901): طرح غابرييل تارد فكرة انتقال الأفكار والسلوكيات عبر “العدوى”، وهو ما يتجلى في “الترند” حين يتبنى الأفراد سلوكًا رقميًا معينًا (إعادة نشر، تعليق، مشاركة) لمجرد أنه شائع، دون تفكير نقدي.
- اقتصاد الانتباه (Attention Economy – Davenport & Beck, 2001): في ظل وفرة المعلومات، يصبح الانتباه موردًا نادرًا، وتتنافس المؤسسات والأفراد على الظفر به. “الترند” هو الأداة المركزية في هذا الاقتصاد، حيث يُباع ويُشترى الاهتمام عبر الترويج المدفوع، والإعلانات، أو حتى الحملات السياسية.
هذه الأطر تضع الترند في قلب النقاش حول العلاقة بين التقنية والثقافة، وتمنحنا أدوات لفهم آلياته وآثاره بما يعكس ديناميكية جديدة في توجيه الانتباه العام.
آليات صناعة “الترند”
تمثل صناعة “الترند” عملية معقدة تتداخل فيها أبعاد تقنية واقتصادية وسياسية واجتماعية، إذ لم يعد “الترند” نتاجًا عفويًا لإرادة الجمهور فحسب، بل صار انعكاسًا لتوازنات دقيقة بين الخوارزميات، واستراتيجيات المنصات الرقمية، والمصالح الاقتصادية والسياسية.
1- الخوارزميات: أول هذه الآليات يتمثل في الخوارزميات، وهي الأنظمة الحسابية التي تدير عملية ترتيب المحتوى وإبرازه. فالمنصات الكبرى مثل “X” و”فيسبوك” و”تيك توك” لا تعرض للمستخدمين كل ما يُنشر، بل تختار وفق معايير معقدة تستند إلى التفاعل، والزمان، والمكان، وملامح السلوك الرقمي لكل فرد. هذه الخوارزميات تمتلك قدرة على توجيه الانتباه الجمعي، بحيث تجعل من بعض الموضوعات قضايا كبرى بينما تدفع بغيرها إلى الهامش.
2- الاقتصاد الرقمى: والذى يقوم على ما يُعرف بـ”اقتصاد الانتباه”. ففي عالم تتزايد فيه وفرة المعلومات، يصبح انتباه المستخدمين هو المورد الأكثر ندرة، ومن ثم تتحول القدرة على صناعة “الترند” إلى سلعة عالية القيمة. فالمؤثرون، والشركات، وحتى المؤسسات الإعلامية، يستثمرون في “ترندات “مدفوعة بغرض الحصول على أكبر قدر ممكن من التفاعل الذي يُترجم لاحقًا إلى أرباح مالية أو نفوذ اجتماعي.
3- التوظيف السياسى: تدرك الحكومات، والأحزاب، والجماعات المنظمة أن “الترند” يمكن أن يكون أداة لتشكيل الرأي العام، ويبرز هنا ما يُعرف بـ “اللجان الإلكترونية” (Astroturfing) التي تُستخدم لإطلاق وسوم وتكرارها بشكل مكثف حتى تتحول إلى “ترند”.
4- الرأسمال الاجتماعى والرمزى: يرتبط “الترند” بآلية اجتماعية رمزية تتمثل في الرأسمال الاجتماعي والرمزي. فالأفراد الذين ينجحون في إشعال “ترند” ما يكتسبون مكانة معنوية وسط دوائرهم الافتراضية، وهو ما يمنحهم شرعية قد تتجاوز العالم الرقمي إلى الواقع، لتتحول إلى نفوذ اقتصادي أو سياسي.
التأثيرات الإيجابية والسلبية للتريند
مما لا شك فيه أن “الترند” يمكن أن يكون له تأثير إيجابي وسلبي متعدد الأوجه؛ حيث يمكن لبعض “الترندات” الإسهام في تطور المجتمع ورفع مستوى التوعية، في حين يمكن لأخرى أن تسبب فوضى أو اضطرابات اجتماعية. ومن ثم، فإن “الترند” هو جزء من حياتنا اليومية، وفهم أنواعه وتأثيراته يساعدنا على التفاعل معه والتكيف مع التغيرات المحيطة بنا.
من التأثيرات الإيجابية أن “الترند” قد يسهم في خلق بيئة اجتماعية مبتكرة وحديثة من خلال تطوير المهارات والثقافة، أيضًا تمكين الأفراد، حيث يتيح للمستخدم العادي أن يكون جزءًا من صناعة النقاش العام، وهو ما يتجاوز مركزية الإعلام التقليدي، هذا إلى جانب سرعة الوصول للمعلومة في حالات الكوارث الطبيعية أو الأزمات الإنسانية، ومن ثم يسهم “الترند” في إيصال الأخبار بسرعة، بل وأحيانًا في إنقاذ الأرواح. فضلاً عن قدرة “الترند” على إبراز القضايا المهمشة مثل حملات الدفاع عن حقوق المرأة أو قضايا البيئة.
رغم ما يوفره “الترند” من فرص، فإنه يكشف في المقابل عن جملة من التحديات والمخاطر؛ أول هذه المخاطر هو سطحية المحتوى؛ فـ”الترند” يقوم على معايير السرعة والجاذبية البصرية واللفظية، وهو ما يعزز منطق الموجز والمثير على حساب العمق والتحليل. وبذلك تتحول القضايا المعقدة إلى شعارات مختزلة تفتقر إلى السياق والمعنى. وثانيها ثقافة القطيع، حيث ينساق الأفراد وراء ما هو شائع لمجرد أنه يحظى بالانتشار، بغض النظر عن قيمته أو صدقه. وهذا ما يعبر عنه علماء النفس الاجتماعي بـ”تأثير العربة” (Bandwagon Effect)، الذي يضعف من استقلالية التفكير الفردي.
أيضًا يمثل التضليل وانتشار الأخبار المغلوطة ثالث المخاطر؛ فسرعة الانتشار وقدرة الوسوم على التحول إلى موجة عامة تجعل من السهل ترويج الشائعات أو المعلومات المضللة، الأمر الذي قد يهدد السلم الاجتماعي ويقوّض الثقة. كما قد يؤدي “الترند” إلى تآكل المعنى بسبب سرعة تداوله، وتصبح القضايا مجرد “موجات عابرة” سرعان ما يطويها النسيان، مما يُفقدها عمقها الإنساني والسياسي.
ولا تقل خطورة الآثار النفسية، حيث يؤدي الانغماس في متابعة “الترند” إلى الخوف من أن يفوتك شيء (FOMO)، وإلى ضغوط نفسية متزايدة نتيجة المقارنة المستمرة بالآخرين. وقد أظهرت دراسات حديثة أن المراهقين والشباب هم الفئة الأكثر تأثرًا بهذه الضغوط، مما يزيد من حدة القلق والاكتئاب لديهم لمجرد البقاء خارج دائرة الضوء.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن “الترند” يسهم في ظهور ما يمكن تسميته بـ”القبائل الرقمية”؛ وهي جماعات مؤقتة تتشكل حول قضية معينة أو وسم محدد. هذه القبائل تعكس تماسكًا لحظيًا، لكنها سرعان ما تتفكك بانطفاء الزخم الرقمي، مما يعكس هشاشة الروابط الاجتماعية في الفضاء الرقمي مقارنة بالمجتمع الواقعي.
وبالتالي لا يمكن فهم ظاهرة “الترند” بمعزل عن أثرها النفسي والاجتماعي في الأفراد والجماعات. فمن منظور علم النفس الاجتماعي، يمثل “الترند” تجسيدًا معاصرًا لما يُعرف بـ”ديناميات الجماعة”، حيث يتحدد السلوك الفردي إلى حد كبير وفق ما هو شائع ومقبول داخل الجماعة الرقمية. هذا ما يُفسَّر من خلال نظرية “دوامة الصمت” (Spiral of Silence) التي تفيد بأن الأفراد يميلون إلى مسايرة الرأي الغالب خشية العزلة أو التهميش.
بشكلٍ عام، يمكن القول إن “الترند” له تأثير كبير على منصات التواصل الاجتماعي، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا. ويجب على المستخدمين أن يكونوا حذرين ومسئولين عن المحتوى الذي يشاركونه والأفكار التي يروجون لها.
“الترند” والأمن المجتمعي
يتجاوز أثر “الترند” حدوده الرقمية ليصل إلى الأمن المجتمعى. إذ يمكن أن يتحول من وسيلة للتعبير الحر إلى أداة لإثارة الفوضى والتوتر الاجتماعي، فبسبب سرعته وانتشاره قد يؤدى إلى تضخيم بعض القضايا، وتأجيج التوترات الطائفية أو السياسية، كما أن نشر الشائعات عبر “الترند” يمكن أن يُقوِّض الثقة في المؤسسات الرسمية. وفى بعض الحالات يصبح “الترند” أداة للتعبئة غير المنضبطة التي قد تترجم إلى احتجاجات أو سلوكيات غير قانونية.
وتظهر الدراسات أن “الترند” يلامس حاجات أساسية لدى الإنسان، مثل الرغبة في الانتماء والشعور بالمشاركة في حدث جماعي. إلا أن هذا الانتماء اللحظي قد يكون هشًا، لأنه قائم على التفاعل الرقمي أكثر من العلاقات الواقعية. كما أن المشاركة في “الترند” قد تتحول إلى وسيلة لإشباع حاجات نرجسية، مثل السعي وراء اللايكات وإعادة التغريد، ما يجعل الفرد أسيرًا لمنطق المنصة أكثر من كونه فاعلاً حرًا. وعلى المستوى الاجتماعي، يؤدي “الترند” إلى إعادة إنتاج التراتبية بين “المؤثرين” و”المتابعين”، ما يعكس أشكالاً جديدة من اللامساواة الرمزية.
من يراقب نفسه وسط عاصفة “الترند” يلاحظ أن هويته الذاتية بدأت بالتلاشي، حيث أصبحت تتشكل حسب ما هو رائج في الملبس والمأكل وكل جوانب الحياة اليومية. إن “الترند” ليس إلا مرآة للقلق الجماعي؛ القلق من الغياب والنسيان، فكل إنسان يسعى دائمًا إلى المركزية ويخشى أن يكون في الهامش لا يراه أحد ولا يتحدث عنه أحد. ومن يعجز عن تحقيق نجاحات ملموسة في مجاله سيجد العالم الرقمي في استقباله، حيث سيجلب له أنظار الجميع بأقل مجهود، وسيصبح حديث الساعة. ولا يهمه نوع تلك الأنظار؛ معجبة أو مستهجنة، ما دامت أنها تنظر إليه وتجلب له عدد مرات إعجاب أكثر، لا تحقق فقط شهرته بل أموالًا قد تغير من حياته.
إن قوة “الترند”، أو استمراره، تعتمد بشكل أساسي على الشخص أو المصدر الناشر للمحتوى. كما أنه لا توجد معايير واضحة وقاطعة لتنظيم المشهد على منصات التواصل الاجتماعي وتحديد كيفية السيطرة على الآثار السلبية لصعود أي “ترند”. هناك ما يسمى التماهي الاجتماعي، وهو أن يسعى الشخص إلى التماثل في التوجهات والسلوك والأفكار مع المعتاد اجتماعيًا. ومن هنا تأتي قوة “الترند”، إذ يتبناه المشاهير أو المؤثرون، ثم يتبعهم الراغبون في التماثل أو التشابه مع السائد اجتماعيًا، وبالتالي، مع زيادة عدد المُقلدين تزداد قوة “الترند” وينمو تأثيره.
البدائل الممكنة
تعد ظاهرة “الترند” من الموضوعات التى أثارت الجدل فى الأوساط المجتمعية، كونها أثرت بشكل كبير فى سلوكيات الشباب ما بين التقليد تارة والنقد تارة أخرى، فقد برزت العديد من الإشكاليات حول أهداف هذه “الترندات” ومدى تأثيرها على البنية الثقافية، وقد أدى المحتوى الرائج إلى حدوث فجوة فكرية بين الشباب وزيادة حدة الخلاف بينهم، وضعف الروابط الاجتماعية والعزلة الاجتماعية، كما أنها أثرت بشكل كبير فى مكونات الثقافة وعلى رأسها اللغة العربية، حيث أن “الترند” المشاهد يساعد على استبدال اللغة العربية الفصحى باللهجة العامية، كما أن “الترند” أصبح أمرًا واقعيًا يتم صناعته فقط لتحقيق عدد أكبر من المشاهدات، دون النظر إلى المحتوى وهو ما يؤدى بدوره أحيانًا إلى حدوث الأزمات وخلق الأكاذيب وترويج الشائعات، على نحو يؤثر بشكل كبير على تغيير اتجاهات الجمهور وإعادة تشكيلها.
إن المقاربة السوسيولوجية لـ”الترند” تفرض علينا النظر إليه كجزء من بنية أوسع هي بنية الإعلام الرقمي والفضاء العام. وبالتالي، فإن التعامل مع الظاهرة لا ينبغي أن يقتصر على رفضها أو الاحتفاء بها، بل على تطوير وعي نقدي بها. وهنا يبرز عدد من البدائل الممكنة:
1- تعزيز التربية الإعلامية الرقمية: من خلال إدماج مفاهيم التفكير النقدي ومهارات التحقق من الأخبار في المناهج التعليمية، حتى يصبح الجيل الجديد قادرًا على التفاعل الواعي مع “الترند” بدلاً من الانسياق وراءه.
تشجيع الإعلام المهني على التوازن: عبر استثمار “الترند” كمدخل لطرح نقاشات أعمق، بدلاً من الاكتفاء بإعادة تدويره. ويمكن للمؤسسات الإعلامية أن تلعب دور “المُفسِّر” لا مجرد “الناقل”.
2- تطوير منصات بديلة: تقوم على نماذج خوارزمية أكثر شفافية، تعطي الأولوية للمحتوى ذي القيمة الاجتماعية والمعرفية، بدلاً من الاقتصار على المحتوى الأكثر إثارة.
3- المسئولية المجتمعية للأفراد: إذ يتحول المستخدم من “مستهلك للمحتوى” إلى “مشارك مسئول” يوازن بين حرية التعبير وبين احترام الخصوصية والكرامة الإنسانية.
4- إعادة الاعتبار للفضاء العام الواقعي: فالاعتماد المفرط على “الترند” يهدد أحيانًا الحوار المباشر في المجال العام التقليدي. ومن ثم فإن تعزيز قنوات المشاركة الواقعية (النقابات، الجمعيات، الفضاءات الثقافية) يحد من هيمنة “الترند” كأداة وحيدة للتأثير.
من خلال هذه البدائل، يمكن مقاربة “الترند” لا كظاهرة سلبية بالكامل، بل كفرصة تحتاج إلى إدارة رشيدة، تحولها من “أداة للتلاعب والانفعال” إلى “أداة للوعي والمشاركة”.
وبهذا المعنى، فإن مستقبل الظاهرة لن يُحسم بخوارزميات المنصات وحدها، بل بقدرة المجتمعات على تطوير ثقافة رقمية ناضجة قادرة على استيعاب التحولات دون أن تفقد المعنى أو تستسلم للسطحية والتضليل. من هنا، تكمن المسئولية في بناء وعي نقدي يتجاوز الانبهار باللحظة، ويعيد الاعتبار للمعنى والعمق.
ختامًا، تُظهر ظاهرة “الترند” في العصر الرقمي تعقيدًا بالغًا، فهي ليست مجرد انعكاس لتقنية جديدة، بل تجسيد لتحولات عميقة في الوعي الجمعي والمجال العام. فمن ناحية، أتاحت هذه الظاهرة فرصًا غير مسبوقة للمشاركة المجتمعية، ولإبراز قضايا كانت مهمشة، وتشكيل العقل الجمعى، ومن ناحية أخرى طرحت مخاطر كبيرة تتعلق بالتضليل والتنمر وتسطيح النقاش العام. والمقاربة السوسيولوجية تكشف لنا أن “الترند” هو ساحة صراع رمزي بين الأفراد والجماعات والدول والمنصات، وأن فهمه يتطلب إدراك هذه الأبعاد المتشابكة. وعليه، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في إيقاف “الترند”، بل في كيفية تطوير ثقافة نقدية وأخلاقية قادرة على التعامل معه بوعي ومسئولية، بما يحفظ حرية التعبير ويصون في الوقت نفسه التماسك الاجتماعي.
د. إيمان مرعي – مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.