الاضطربات النفسية التي يعيشها الشعب اللبناني ليست مجرد “نق” أو فقط لنشر الطاقة السلبية في المحيط، بل إنها أزمة حقيقية خُلقت من رحم الضغوطات تزامنًا مع وباء كورونا والانهيار الاقتصادي. يبدو أن الأسلوب الساخر من الأوضاع ليس نافعًا هذه المرة ويبدو أن الأمور أصبحت تتراكم فتفوق قدرة اللبنانيين على الاستيعاب. الحجر الصحي الذي عاشه اللبنانيون خلال الفترة الماضية كان دافعًا أساسيًا لخلق حالة توتر شبه دائمة فطال الأخير جميع فئات المجتمع من دون استثناء.
“أزمة عالكل”
حين تجول بين الناس لتسمع قصصهم أو لتحكي عن معاناتك أو حزنك، وهي فقط طريقة “لفشة الخلق” ليس أكثر، لن تسمع جوابًا مريحًا ولن تسمع سوى كلمة “واللّه أنا متلك”، “الأزمة مش بس عليك، الأزمة عالكل”، ” شو هالعيشة”، ” شوف حواليك، واللّه الناس مهمومة..”. نعم! الناس مهمومة، قضايا الناس من فقر وأمراض وموت وكآبة ستشعرك أنك تعيش في كابوس جماعي، وهذا هو الأمر الذي يجعلك مهمومًا وحزينًا “من دون ولا ضربة”، أي إن حالة اليأس الجماعية ستبث فيك الطاقة السلبية من دون مراجعة همومك الشخصية حتى. تبلغ الأزمة ذروتها مع الأطفال وكبار السن الذين يتحملون أعباء ثقيلة جراء دخولهم في دوامة الانهيار الكبير.
الوحدة قاتلة
الوحدة التي يعيشها اللبنانيون اليوم ليست مجرد عزلة تعزز السلوك العدواني والشعور بالخوف وحسب، بل هي خليط للتراكمات والضغوطات النفسية والاجتماعية التي تؤدي لزعزعة الأمن الاجتماعي الكلي، أي وبشكل دقيق وحدة اليوم أصبحت روتينًا يوميًّا لا قدرة للمواطن على كسره أو التغلب عليه. “أنا ما بروح لمطرح هياني قاعدة بالبيت، أصلًا لوين بدي روح؟ عمطعم حط معاشي حق أكل؟ أصلًا حتى لو ظهرت ما في جو فرح بالبلد” (أم علي، 35 سنة). انتزاع لهفة التعلق بالوطن واستمرار الدورة الحياتية سيكلفنا الكثير وأولى الخسائر سيكون أمننا الاجتماعي لأن الأجيال القادمة لا تملك طموحًا لتبني به ما هدمه “حراس الهيكل” وستكون شريعة الغاب هي الحاكم الرسمي في بلد أصبح تحت تصرف “اللي بيسوا واللي ما بيسوا”.
الأمن الاجتماعي
عادة نسمع أن الحاجة أم الاختراع، فماذا لو أصبحت الحاجة أم الإجرام؟ هذا التصور ليس بعيدًا عن الواقع اللبناني حيث يلجأ بعد الأشخاص لأخذ الخردة الموجودة في الطرقات لكسب بعض المال بعد أن أصبح الدولار يحلق بعيدًا عن الليرة اللبنانية، كما يلجأ البعض لسرقة غالونات البنزين المخبأة أصلًا بطريقة غير شرعية في المحلات والمستودعات لأنهم لا يستطيعون تأمين البنزين بسعر مرتفع.
كريم، شاب يبلغ من العمر 16 عامًا، قرر أن يعمل في الصيف كي يساعد أهله وكي لا يبقى جالسًا طوال الوقت في المنزل. قرر كريم أن يأخذ المال لقاء انتظاره في صفوف البنزين لساعات بدل أصحاب السيارات أنفسهم. وعند الحديث معه قال ضاحكًا: “ايه طيب شو بدي أعمل! لا محلات الأكل ماشية منيح ولا معي موتوسيكل إشتغل عليه! ببقى بالبيت مكتئب أحسن؟ لأ هياني بستغل الفرصة وبنطر وباخد مصاري..”. والأمثلة كثيرة وكارثية، لأن الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر لن يستطيعوا تحمل أعباء الانهيار، فالتوتر اليومي والقلق من أجل تأمين رغيف الخبز أو من أجل تأمين الدواء لن يدوم طويلًا من دون ردة فعل، فهل سيقع اللوم على الفقير عند سرقة الصيدليات؟ أو عند رفع السلاح بوجه الطبيب؟ ربما هي الحاجة التي دفعت الكثيرين للخروج عن السيطرة فأصبحت حاجتهم لإخراج ضغطهم النفسي كارثية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.