محمد علي – خاص الناشر |
لعقود من الزّمن، قامت الحملة لعلمنة توجّه وحتى شخص المرجع الدّينيّ الكبير السيّد علي السّيستانيّ وفقهاء الحوزة في النّجف الأشرف بالتّلاعب بالرّأي العامّ من خلال نشر مفاهيم كاذبة مثل أسطورة “التّنافس التّاريخيّ” بين حوزتي قم المقدّسة والنّجف الأشرف،[1] أو فكرة وجود خطّ شيعيّ صامت لا يتدخّل بالسّياسة، التزم به جلّ الفقهاء تاريخيًّا رغم خروج بعضهم طمعًا بالسّلطة عن طريق العسكرة والحزبيّة وما شابه..
غير خفيّ أنّ الهدف من مثل هذه الشّبهات إنّما هو بثّ التّفرقة بين أهل المذهب والمسلمين كافّة، وزعزعة الأمن في البلاد الإسلاميّة لا سيّما المناطق الشّيعيّة منها، وإضعاف العلاقات بين العراق والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، كما إبعاد الشّعب العراقيّ وسائر الشّيعة خارج إيران عن محاولة تقليد الثّورة الإسلاميّة وتجربة الإيرانيّين. أي أنّ الغرب لا يريد لعالم دين أن “يحدّد معايير مستقبل العراق”،[2] فهو يتوقّع أنّ مثل السيّد السّيستانيّ لو كان بيده تحقيق مناه، “لكان يوجد فعلًا جمهوريّة إسلاميّة في العراق اليوم”.[3] لذا يدعم الغرب بالمقابل المعمّمين الذين يمكن اعتبارهم “معتدلين نسبيًّا” في تصدّيهم للمناصب العامّة..[4]
ويتطلّب ذلك سرديّة خاصّة بالتّشيّع تسمح لأهل الطّائفة أن يتّبعوا نماذج أقرب للقيم الغربيّة بدلًا عن نموذج قيادة الفقيه وتحكيم الإسلام في الحياة. إنّ العراق، بتعبيرهم وهم يستهزئون، “لا يبدو مكانًا قابلًا لنشوء ديمقراطيّة جيفرسونيّة فيه”.[5] بل المطلوب شيء يشبه المؤسّسة الدّينيّة المسيحيّة، بحيث يمكن النّظر إلى السيّد السّيستانيّ على أنّه “أقرب شيء لدى المسلمين إلى الأسقف”.[6] ينبغي للحوزة أن تجلس جانبًا إذا ما “اشتهرت” الفصائل التي استجابت لفتوى الجهاد التي أصدرها السيّد السّيستانيّ لقتال التّكفيريّين في سنة 2014 إلى حدّ يمكّنها من جعل العراق “يشبه حال لبنان اليوم”.[7] ربّما يرونه من الضّروريّ أن توصّف معاناة المرجعيّة الدّينيّة للشّيعة – بعد سياسات النّظام البعثيّ القمعيّة واللّمسات الأخيرة للاحتلال الأميركيّ الغاصب – أنّها فرع ميول الحوزة في النّجف الأشرف إلى “سنّة الصّمت أو الاعتدال”؛[8] بخلاف نظريّة ولاية الفقيه غير التّقليديّة – بزعمهم – التي ترى أنّ “الدّول المتسلّطة على الشّيعة ينبغي أن يقودها علماء الدّين وفق الشّرع الإسلاميّ”..[9]
يصرّ “الخبراء” على أنّ سنّة “الصّمت” هذه بمثابة “نمط من التّشيّع”،[10] وأنّها الطّريقة “التّقليديّة” التي لطالما صانتهم من “التّدخّل في القضايا السّياسيّة على مستوى الدّولة”،[11] وأنّ السيّد السّيستانيّ قد تبنّى هذا المنهج من “مرشده” السيّد أبو القاسم الخوئيّ..[12] مع أنّ السيّد الخوئيّ يرى للفقيه الجهاد الابتدائيّ في عصر الغيبة، مِن باب الحِسبة كما يؤكّد في منهاج الصّالحين، ومَن يرى ولاية الفقيه على الجهاد يرى له الولاية على شؤون المجتمع من باب أولى كما ذكر الفقهاء..
الوصف الذي يفضّلون استعماله في بياناتهم هو أنّه “محترز” عن التّصدّي لتلك القضايا،[13] كأنّ عدالة الفقيه متوقّفة على بقائه في الهامش، وكأنّ النّزاهة والتّقوى هي التي تقتضي القعود عن المناصب التي هم – بدورهم – منكبّون عليها طوال التّاريخ، يقتلون لحفظها المفكّرين وينهبون لتثبيتها الشّعوب، في حين أنّ تلك المناصب من أهمّ وسائل إقامة العدالة ونشر الفضيلة وحفظ مصالح الإسلام والمسلمين لو كانت بيد أهلها. لكنّهم يقومون بقلب المفاهيم رأسًا على عقب..
كيف لا، وهم يصرّحون بأنّ هناك “عقيدة جديدة”،[14] أو كما أطلقوا عليها أيضًا، “تشيّع جديد علمانيّ” ناشئ.[15] وبتعبيرهم: هو تشيّع “يخاصم الإسلام السّياسيّ” ويطالب “بالدّيمقراطيّة العلمانيّة”..[16]
ويقود السيّد السّيستانيّ ما يرونه التزامًا بـ “التّعايش والعدالة الاجتماعيّة، بدلًا من السّيادة (supremacism) والتّطرّف”؛[17] وهي كلمة حقّ يراد بها الطّعن بالوليّ الفقيه في الجمهوريّة الإسلاميّة الذي يطلق عليه في اللّغة الإنجليزيّة “Supreme Leader”. بل أحد هؤلاء “الخبراء” كتب مقالًا بعنوان “السّيستانيّ ضدّ الخامنئيّ” وصف فيه هذه المنافسة الخياليّة بأنّها “انقسام”،[18] ما يناسب مطامع الذين يقفون وراء هذه السّرديّة..
كما رأى “خبير” آخر أنّ المرجعين الأبرزين – أي السيّد القائد والسيّد السّيستانيّ – “يتصارعان من أجل تحديد الهويّة الوطنيّة للعراق”،[19] وهي أُكذوبة تتجاهل بالكامل قاعدة بديهيّة هي أنّ سيادة الوطن وحدوده ومصالحه لا يمكن أن تقدّم على مصالح الإسلام، لذا سعى ولاة الأمر الشّرعيّين منذ القدم إلى الجمع بين الغايتين قدر الإمكان. نعم، يذكر هؤلاء الكتّاب أنّ “السّلطة الدّينيّة” للسيّد السّيستانيّ “تفوق السّلطة الدّينيّة للمرشد الأعلى في إيران”،[20] وأنّ “مقامه الدّينيّ يعلو المقام الدّينيّ للأخير”.[21] وبديهيّ أنّ التّركيز على أمثال هذه الإشارات هو السّبيل الوحيد إلى جذب الرّأي العامّ إلى نمط الصّمت الخمول الذي يتمّ تسويقه كما بيَّنّا..
ومن المؤسف أنّ نرى هذه السّرديّة تتضمّن جملة من الأوصاف التي تفوح بالاستهزاء بالفقهاء والاستماتة في تمييع صورتهم والعياذ بالله من أجل إقناع النّاس بعدم أهليّتهم وكفاءتهم لقيادة الأُمّة وإرشادها وتحديد مصالحها. نجدهم يصفون السيّد السّيستانيّ بأنّه “متضعضع”،[22] وأنّه “رجل عجوز”،[23] وأنّه “يستحي من الكاميرات”،[24] وغيرها من العبائر التي تستبطن الاستخفاف بمراجعنا وتستهدف توهينهم وتصغيرهم في أعيُن النّاس بشكل عامّ والمؤمنين بشكل خاصّ. بل في بعض الموارد يذكرون هذه الأوصاف مع بعضها البعض للتّلميح، كما ذكر بعضهم أنّ السيّد السّيستانيّ كان “بعمر 85، نحيف، نادرًا ما يُرى بين النّاس، وذهب ذات يوم إلى لندن من أجل تلقّي العلاج”.[25] طبعًا كتب هذا الكلام منذ سنوات، وعمر السيّد دام ظلّه الآن 93 عامًا، لكنّ المقصود أنّ جميع هذه التّوصيفات تدلّ على الأغراض العلمانيّة لكثير من الذين يروّجون لفكرة أنّ “تراث الفقهاء ونظرتهم وسياستهم ليست ضدّ القيم الغربيّة”، وأنّ “كلمة “آية الله” لا تشبه دائمًا الرّسوم الموجودة في عقول الغربيّين”.[26] أفهل تشبه تلك الرّسوم في حالات أُخرى..؟!
كما أنّ هذه المحاولات والجهود البائسة ليست جديدة. في عام 1985، كان الشّغل الشّاغل للغربيّين الشيخ المنتظريّ الذي كان من المتوقّع أن يخلف الإمام الخمينيّ في قيادة الجمهوريّة الإٍسلاميّة. وبنفس الأسلوب، ذكروا أنّه “لا يشبه” الأخير، وفي حين أنّ الإمام الخمينيّ كان لديه “شخصيّة عابسة” و “أسلوب صارم”، كان الشيخ “مشهورًا بحديثه المتواضع وبصدقه.[27] اليوم، يصفون السيّد السّيستانيّ بأنّ “لحيته كالثّلج”،[28] كما وصفوا لحية الشيخ المنتظريّ بأنّها رماديّة “كالفضّة”، وهكذا..[29]
ختامًا نقول: لا شكّ أنّ فقهاء الشّيعة بين قائل بولاية الفقيه على أساس النصّ بحيث يكون للفقيه ما للمعصوم إلّا ما خرج بالدّليل، وهو القول بالولاية المطلقة؛ وقائل بها على أساس الحسبة، بحيث يكون الفقيه هو القدر المتيقّن من بين المؤمنين الذين يجوز لهم التّصدّي للمناصب التي يُقطع بعدم رضا الشّارع بتركها وتضييعها. وليس هناك من الفقهاء من ينكر رئاسة الفقيه في الأُمور العامّة، التي منها حفظ نظام الأُمّة والدّفاع وإجراء الأحكام الشّرعيّة وغير ذلك..
أمّا ما يذكره “الخبراء” في الغرب حول المرجعيّة والمذهب فهو يقع في إطار علمنة التّشيّع، وهي الخطوة الأُولى في مشروع تنصير (Christianization) المذهب وإبعاده عن القضايا المصيريّة، وخرق حدوده الشّرعيّة والثّقافيّة من أجل تمرير الغزو الثّقافيّ الممهّد للاحتلال العسكريّ ومن ثمّ الاستيلاء على المسلمين وبلادهم..
[1] مقال نُشر في New York Times في عام 2015 بعنوان:
“In Bid to Counter Iran, Ayatollah in Iraq May End Up Emulating It”
[2] مقال نُشر في Washington Post في عام 2003 بعنوان:
“How Cleric Trumped U.S. Plan for Iraq”
[3] مقال نُشر في New York Times في عام 2004 بعنوان:
“Q&A: Grand Ayatollah Ali al-Sistani”
[4] مقال نشره Carnegie Endowment for International Peace في عام 2008 بعنوان:
“Iraq’s Shiite Islamists On the Threshold of Power”
[5] مقال نشره Council on Foreign Relations في عام 2006 بعنوان:
“The Emerging Shia Crescent Symposium: Is Shia Power Cause for Concern”
[6] مقال نُشر في Newsweek في عام 2021 بعنوان:
“The Pope Met a Different Kind of Ayatollah—As a Shiite Muslim I am Hopeful”
[7] مقال نشرته جامعة Missouri State University في عام 2015 بعنوان:
“Iran as a Strategic Threat to the U.S. in the Middle East and Its Impact on U.S. Policy in the Region”
[8] مقال نشره Council on Foreign Relations في عام 2005 بعنوان:
“IRAQ: Grand Ayatollah Ali al-Sistani”
[9] المصدر نفسه
[10] مقال نشره Center for Strategic & International Studies في عام 2008 بعنوان:
“Quietism and the U.S. Position in Iraq”
[11] المصدر نفسه
[12] المصدر نفسه
[13] راجع المقالات التّالية:
- The Pope Met a Different Kind of Ayatollah—As a Shiite Muslim I am Hopeful – Newsweek (2021)
- In Bid to Counter Iran, Ayatollah in Iraq May End Up Emulating It – The New York Times (2015)
- Shia cleric challenges Bush plan for Iraq – The Guardian (2003)
[14] مقال نُشر في Al-Monitor في عام 2019 بعنوان:
“Secular Shiism on rise in Shiite Crescent”
[15] المصدر نفسه
[16] المصدر نفسه
[17] مقال نُشر في Newsweek في عام 2021 بعنوان:
“The Pope Met a Different Kind of Ayatollah—As a Shiite Muslim I am Hopeful”
[18] راجع المقالات التّالية:
- Schism among Shiites on clerical rule – The Seattle Times (2009)
- Sistani versus Khamenei on Iraq’s Hashd al-Sha’abi – The London School of Economics & Political Science (2020)
[19] مقال نُشر في The Guardian في عام 2016 بعنوان:
“Shia leaders in two countries struggle for control over Iraqi state”
[20] مقال نُشر في New York Times في عام 2015 بعنوان:
“In Bid to Counter Iran, Ayatollah in Iraq May End Up Emulating It”
[21] مقال نُشر في New York Review في عام 2015 بعنوان:
“Iraq: The Clerics and the Militias”
[22] مقال نُشر في Washington Post في عام 2003 بعنوان:
“How Cleric Trumped U.S. Plan for Iraq”
[23] مقال نُشر في New York Times في عام 2015 بعنوان:
“In Bid to Counter Iran, Ayatollah in Iraq May End Up Emulating It”
[24] مقال نُشر في Newsweek في عام 2021 بعنوان:
“The Pope Met a Different Kind of Ayatollah—As a Shiite Muslim I am Hopeful”
[25] مقال نُشر في New York Times في عام 2015 بعنوان:
“In Bid to Counter Iran, Ayatollah in Iraq May End Up Emulating It”
[26] مقال نُشر في Newsweek في عام 2021 بعنوان:
“The Pope Met a Different Kind of Ayatollah—As a Shiite Muslim I am Hopeful”
[27] مقال نُشر في New York Times في عام 1985 بعنوان:
“Iran’s Future: Different Sort of Ayatollah”
ومن اللّافت أنّ هناك تشابه فادح بين عنوان هذا المقال وعنوان المقال الموجود في المصدر السّابق
Iran’s Future: Different Sort of Ayatollah – The New York Times (1985). Ironically, the articles are even titled similarly.
[28] مقال نُشر في Washington Post في عام 2013 بعنوان:
“How Cleric Trumped U.S. Plan for Iraq”
[29] مقال نُشر في New York Times في عام 1985 بعنوان:
“Iran’s Future: Different Sort of Ayatollah”
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.