لم يتوقف شلال الدم في غزة، وكأن السماء تأبى إلاّ أن تستدعي جُلّ أبناء العزة لتعلو بهم إلى فردوس هو الأعلى تارة، وتارة أخرى تنذر ذاك الوضيع في الأدنى بعذاب مهين، عذاب أقسمت السماء بخالقها أن يُنزله بعدوّها بالتزامن مع استمراره بالتطاول عليها وتدنيسها بضرباته وقنابله الفسفورية وسُحب غاراته ونيرانه؛ التي شع منها ضوء زاد ظلمة الليل ظلامًا، وحجب الشمس نهارًا وإن أشرقت فكيف سنبصر وبأي عين، والقلب يشتعل قهرًا وحزنًا، والروح تحتضر شيئًا فشيئًا بارتقاء كل شهيد وبكل صرخة ألم من الصابرين في غزة حيث تجد شابًا يحمل شقيقه الأصغر بعدما لفظ آخر أنفاسه وهو ينتظر دوره في الحصول على كفن، ورجل نثر وردًا على نعش رضيعه الذي لم يحتمل جراحًا اغتالت طفولته وأقرانه.
وتحت الأنقاض كانت الطفلة جنان تسعى إلى النجاة وتنادي لحين وصول طواقم الإنقاذ، ودعاء بجانبها تحاول التواصل مع غيداء لتخبرها بأن فوقها حجارة ولا تعلم إذا كان من حولها على قيد الحياة أم ارتقوا، وأخذ صوتها يعلو ليأتي أحد كي ينقذ شقيقتها الصغرى، فهي لم تكن تشعر بشيء سواها.
أما بيسان فقد شعرت باقتراب نيلها للشهادة فقررت أن تودع العالم بتلك الكلمات قبل صعودها إلى الله “عمري 19 سنة، طالبة طب بشري، ولدت في غزة حبيبتي، وسأموت فيها، عندي أحلام لم أحققها بعد، وطريق طويل لم أكمله، ولديّ عائلة حنونة أحبها وتحبني، بعد ثوانٍ، دقائق، ساعات لن أكُون معكم، تذكروا اسمي وأسماء الشهداء وانقشوا صورنا في ذاكرتكم، نحن أهل غزة كنا أشرف خلق الله على الأرض، ومن خذلنا بلا شرف، وأنا وعائلتي وأهل مدينتي من استشهد منّا ومن لم يستشهد بعد؛ جميعنا خصماؤكم أمام الله يوم القيامة”.
تزامنًا مع ذلك كان مشهد يُدمي القلب أبطاله شهداء وأطباء بذلوا قصارى جهدهم في إسعاف الجرحى، بعد أن دمر القصف مشفاهم ليجلبوا ما تبقى لهم من معدات طبية وأجهزة أسسوا بها غرفة عمليات بين الركام!
وفي الشفاء المشفى الآخر الذي أصبح ملجأ للناجين سار عز الدين طالب الطب بعدما تفاجأ بأنه على قيد الحياة بين أروقتها لينقل واقعها بتلك الكلمات “مستشفى الشفاء أصبح أرضية للفلسطينيين المهجرين قسرًا جراء العدوان الصهيوني الذي دمر منازلهم. أستطيع أن أداوي الجروح وأن أوقف النزيف لكن لا أستطيع أن أشفي برودة أجساد هؤلاء الأطفال. أراهم يرتجفون وهم نائمون ليس لديهم ما يتغطون به…”.
وبعد وقت ضئيل يا ليته لم يمضِ اقترف العدو مجازر جديدة أباد بها أحياء ومناطق بأكملها حتى بات بها الناجون وهم جرحى يبحثون عن أحبتهم تحت الردم، وإن كانوا قد ارتقوا لبارئهم فتكفيهم نظرة وداع أخيرة، كذلك الفتى الذي ودع بالدموع والده، وبجانبه رجل فقد أبناءه الثلاثة وأخذ يستجدي الله أن يعثر على أحدهم حيًا، قبل أن يلتحق بالجموع التي انقطع رجاؤها إلاّ من ربنا والمقاومة ليدعو معهم “يا الله يا الله انصر جندك يا الله”.
الدعاء ذاته ردده الفتى جمال حين عاد ولم يجِد أسرته ليصف ببراءة الحياة بأنها “ممزعة” ويكمل “أشلاء بالشارع وتحت الردم أنا شفتهم بعيني، كنت طالع لما رجعت لقيتهم كل أفراد عائلتي مستشهدين”.
وعلى بعد خطوات وقفت تلك السيدة التي نفد صبرها وأخذت تُعيد على مسامعنا ما قاله مظفر النواب منذ عقود، وكأنه خطّ هذا الشعر ليليق بوجعها الذي تجاوز من غزة الحدود العربية وهي تلعن حكامها “حسبنا الله ونعم الوكيل على الحكام العرب، لا أستثني أحدًا منهم، القدس عروس عروبتكم فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ووقفتم تسترقون السمع إلى صرخات بكارتها، أبناء الفعلة لست خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم، تهتز دكة غسل الموتى أما أنتم لا تهتز لكم قصبة”…
أكملي يا أمنا أكملي، قد صدقتِ القول، فإنهم حكام كالرجس من عمل الشيطان ابتلانا الله بهم، فمن أين تريدوننا أن نبدأ؟ من السعودية التي دنس ولي عهدها طهارتها بخيانته مع أعدائنا، أم الإمارات التي فجرت فجرًا جعل المومس تتنازل عن لقبها وتُقدمه لها حين تجاوزت كل حدود الله في التطبيع مع الصهاينة والسقوط الذي آخره كان إدانتها لمعركة طوفان الأقصى التي قادها مقاومون نعلهم يشرفهم وأجدادهم والأردن أيضًا التي أباحت حتى سماءها لطائرات أميركية لترسل السلاح للصهيوني، والتي ما زال نظامها لحد اللحظة يقوم بدوره الوظيفي بحماية أطول خط حدودي مع العدو ويمنع شعبه من الاقتراب بضعة كيلو مترات من الحدود ومن نقطة التماس مع سفارة الصهاينة ليفلت عليهم قوات أمنه فيمطرونهم بقنابل الغاز والهراوات، كما كل الأنظمة العميلة الاستبدادية التي تصادر حتى أفواه شعبها الرافض لممارستها أردأ أنواع الرذيلة مع كيان الصهيوني سرًا وعلنًا. وكي لا ننسى علينا ذكر ما تبقى من أنظمة عربية ساقطة تدعم إرهاب العدو الصهيوني والأميركي، على الملأ ودون خجل كالخليج بأكمله، والسودان، والمغرب، ومصر التي وصف رئيسها المقاومة بـ”الإرهاب”، ألا لعنة الله عليه هو وكل المطبعين الخونة الذين يشاركون العدو بقتلنا.
ورغم تخاذل العربان والحزن والعجز الذي يتملكنا نحن أبناء من هُجروا قسرًا تحت نيران العدو ذاته ومجازره منذ نحو قرن ولم نستطع العودة لفلسطين ولا حتى الموت على حدودها الذي يمنعنا جيش يقول إنه عربي من تخطيه قبل جند المحتل، رغم ذلك ما زال لدينا بصيص أمل بفضل الأبطال الأبرار الذين يسطرون الانتصارات رغم عدم تكافؤ القوة بين المقاومة في غزة، وترسانة الاحتلال الصهيوني الإرهابية وحلفائه، إلاّ أنه لا يستطع مواجهة رجال الله الذين يذيقونه الويلات في غزة وعلى كافة الجبهات المشتعلة من حوله بفضل المقاومة ومحورها اللذين يهزان أركان العدو من غزة والضفة واليمن وجنوب لبنان والعراق وسورية، فالحمد لله على نعمة المحور.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.