جنى عباس – خاص الناشر |
“مضطر لمغادرة هذا العالم”، “حاولت بكل ما في وسعي”، “لا ألوم أحدًا”، “كل ما في الأمر أنني لم أعد أستطيع تحمل كل هذا الكم من الألم داخلي”، “أنا آسف كتير”، “بعتذر”، “سامحوني”.. كانت هذه عبارات مستسلم لرحلة الحياة، زاهد بما بقي من ألمها.
بهذه البساطة التعبيرية غادر الشاب الفلسطيني الغزّاوي محمد النجار أناقته الشعرية، متخليًا عن تعقيدات البحور والأوزان، دوّن آخر منشوراته على “فيسبوك”، وطلّق عالمه..
ليس النجّار إلا واحدًا من شباب كثر، التف حول أحلامهم عشب سامّ، فضيّق الأمل وخنق الروح، وأبعد لون السماء وقرّب ظِل الخَراب. يرى البعض في الانتحار شجاعة في الهروب، ويراه آخرون جريمة وضعفًا، ولكن، بمعزل عن التوصيف الذي لن ينقذ ضحيّة، لماذا ينتحر البؤساء؟ لماذا أكتب هذا النص؟
ربما أكتبه كواحد ممن اختبروا شعورًا مماثلًا بالرغبة الجامحة للفرار من الألم، كتفريغ نفسي، أو كدعوة للناس الى التعرف على هذا العالم، ليس تشجيعًا، انما تحذيرًا. وربما يكون نصًا فارغًا من المضمون، لكنه عزيزي القارئ، لن يكون بأي حال أكثر ضررًا على خلايا دماغك من عشرات النصوص التي تمر على شاشة هاتفك يوميًا.
بالفطرة البشرية، يتشبث الإنسان بأسباب الحياة، ويتفلّت من كل الخيوط التي يدرك أنها ربما تكون طريقه الى الفناء. يسري هذا القانون الفطري على أولئك المحظوظين في الحياة، الأغنياء والعلماء والأصحّاء وأصحاب الشأن، كما يسري تمامًا على نقيضهم من الأميين أو الجهلاء والمرضى وغيرهم.. التمسك بالحياة قانون عام يسري حتى على سائر المخلوقات كالحيوانات، لكنه حصرًا، لا يسري على المصابين بالاكتئاب.
ليس الاكتئاب الذي نتحدث عنه هو ما تمر به من لحظات ضعف أو ملل، أو تعسّر في الحال، أو أزمة ضائقة، أو موت عزيز أو فقدان حبيب. الاكتئاب هنا هو طيف الموت يلاحقك، هو ظِل اللا مكان، اللا هدف، اللا رؤية. أكثر من خيبة وأقسى من ألم فراق.. هو بعد الندم وأشد من حرقة الحنين.. الاكتئاب يا قارئي العزيز يعني أن لا تشعر بالطعم، لا ترى اللون، لا تشم الرائحة.
بماذا يشعر المكثئب إذًا؟
يستثقل هذا الكائن البائس استيقاظه من النوم. يستصعب استنشاق الهواء في كثير من الأحيان. يشعر بالأسى لحاله. يهاب الناس، والقادم من الزمن. يقتله احساسه بالذنب حيال نفسه ومحيطه. لا يقوى على الثقة بالذات. يستصعب صوغ الهدف. فاقد الطموح.
لماذا وصل الى هذا الحال؟
يصعب على المريض تحديد السبب، لكنها غالبًا صدمات وخيبات كانت أكبر من قدرته على الاستيعاب.
كيف يتصرف هذا الصنف من الناس؟
قد لا تظهر على المكتئب أعراض. ليست الصورة النمطية للاكتئاب دقيقة. قد يكون المصاب بهذا المرض أكثر الناس تهريجًا، وأكثرهم استغراقًا في النوم. وربما أكثر انكبابًا على العمل خارج السياق الطبيعي. فالبائس يهرب يا سادة.. يظل يهرب ويهرب، من نوم الى عمل، الى طبيب ودواء، الى ضحكة بصوت عالٍ، ونكتة سمِجَة، وصورة أنيقة بابتسامة صفراء، إلى أن..
لماذا ما زلتَ تقرأ هذا النص؟
ربما أكون قد أضعت وقتك. لكنني أردت أن قول ببساطة، ارحموا هؤلاء، توقفوا عن تنميط الأمراض النفسية، ارفعوا الحظر الاجتماعي عن العلاج النفسي، وتوقفوا عن رهاب الطبيب النفسي، فضحايا الاكتئاب هم المنتحرون المستسلمون الهاربون الفارّون، الزاهدون بكل شيء لأجل لحظة أمان وسلام. فإذا عزمت على أن تكون عنصرًا محاربًا لظاهرة الانتحار، تعرّف على أحد أهم أسبابه، وغادر التنميط، وشجّع على العلاج، قبل أن تدين الضحية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.