تمرُّ الذكرى الثالثة والأربعون للحرب الأهلية اللبنانية دون أن تؤخذ منها العِبرَة أو يتّعظ البعضُ ممن أشعل نارها، وكان ما كان من نتائجها المدمرة على مستوى الوطن بأكمله تحت شعاراتٍ وأهدافٍ وأحلامٍ واهية ما زلنا نعيش تداعياته حتى يومنا الحاضر انقسامات وخلافات لا تنتهي.
تلك الحرب التي انطلقت شرارتها في الثالث عشر من نيسان من العام 1975م بإطلاق النار على بوسطة تقلُّ مجموعة من الأخوة الفلسطينيين كانت تمر عبر أحد شوارع عين الرمانة في المتن الجنوبي والذين كانوا عائدين إلى مخيم تل الزعتر من احتفال للثورة الفلسطينية في مخيم صبرا أدَّت إلى مقتل 27 شخصًا من ركابها الثلاثين ترافقت مع مجموعة من الأحداث وتبادل لإطلاق النار في حوادث متفرقة جرت في عين الرمانة وفقًا لرواية حزب الكتائب اللبنانية في حينها، حيث جاءت هذه الجريمة النكراء والمروعة التي نفذتها مجموعة من مسلحي الحزب تحت زعم أنَّ زعيمهم وقتها “بيار الجميِّل” قد تعرّض لمحاولة اغتيال صباحًا أدّت إلى مقتل مرافقه جوزيف بو عاصي وآخرين ووجهت أصابع الاتهام إلى منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات (أبو عمار)، وانفلت الوضع الأمني بعدها وجرت اشتباكات وهجومات واقتحامات مناطقية متبادلة بين حزب الكتائب وحلفائه من جهة والمقاومة الفلسطينية وحلفائها في الحركة الوطنية اللبنانية من جهة ثانية.
المقدمات الأساسية للحرب
في العودة إلى أجواء الحرب الأهلية في العام 1975 تباينت الآراء والمواقف حول أسباب اندلاعها والتي وضعها البعض نتيجة ذروة الاحتقان السياسي الداخلي بين مؤيد للمقاومة الفلسطينية ومعاديٍ لها، وتعددت الأسباب المباشرة وغير المباشرة ما بين داخلي وإقليمي ودولي، منها ما هو مرتبط برئاسة الجمهورية في وقتها واتفاق القاهرة الذي نظَّم الوجود الفلسطيني في لبنان بعد أحداث أيلول الأسود العام 1970 في الأردن وخروج منظمة التحرير الفلسطينية منها إلى لبنان مضافًا إليها أحداث العام 1973م والمعارك التي اندلعت بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية والهجومات المتبادلة على المخيمات وثكنات الجيش (هجوم من مخيم تل الزعتر على ثكنة الجيش في الفياضية ومحاولة اقتحامها والسيطرة عليها وإغارة الطيران الحربي اللبناني على مواقع للفلسطينيين في مخيم برج البراجنة) وأيضًا المتغيِّرات التي طرأت على السياسة الأميركية في المنطقة بحلول هنري كيسنجر وزيرًا لخارجية أميركا والمعروف عنه يهوديته وقربه ودعمه للصهيونية والكيان الغاصب في فلسطين وتطلعاته الشخصية لإنهاء الثورة الفلسطينية وآمال الشعب الفلسطيني في الهوية والعودة مترافقًا مع مطامع البعض من الرجعية العربية في لبنان.
من المقدمات الأساسية لاندلاع الحرب الأهلية هو شعور اليمين الانعزالي وتحديدًا الفريق الماروني آنذاك بفائضٍ من القوة والاستعلاء على شركائه في الوطن على إثر هزيمة العام 1967م وتراجع المدِّ الناصري والعروبي في لبنان وانكفاء الأحزاب التي تدور في فلكه، واعتقاد ذاك اليمين أنَّ الفرصة سانحة للانقضاض على الصيغة القائمة للشراكة في الوطن وتغيير معادلات القوة والتوازن فيه. وبدأت عمليات التسليح تجري على قدمٍ وساق في شهوة غير مسبوقة لا تتوقف لدى الأحزاب اليمينية بتحريضٍ غربي وتمويلٍ أمريكي تحديدًا دُفِع ثمنًا لذاك السلاح الفتنوي، وظهرت مجموعات قتالية منظّمة ومدربة تحت مسميات مختلفة مثال “الصخرة” و” الــ P.G.” و”المغاوير” و”النمور” وآخرين غيرهم، وتصاعدت حدة التصريحات المعادية للوجود الفلسطيني في لبنان وضرورة ضبط العمل الفدائي فيه، وظهرت أدبيات واستخدمت تعبيرات مثل “فتح لاند في العرقوب” والسلاح الفلسطيني المنفلت في المخيمات وخارجها. وأرشيف الصحف اللبنانية في تلك المرحلة زاخرٌ بتلك المواقف العنصرية والعدائية من زعماء الأحزاب اليمينية في الجبهة اللبنانية وآبائها وقسيسيها. وفي المقابل كانت القوى القومية والتقدمية واليسارية تتحرك داعمة لحقِّ المقاومين الفلسطينيين في عملهم ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وجرت التظاهرات المؤيدة لتلك المقاومة والتي قمعت بقسوة وعنف من قبل الأمن اللبناني المتحكَّم به آنذاك من أذرع ذاك اليمين في الأجهزة الأمنية والجيش اللبناني، وسقط في تلك التظاهرات قتلى وجرحى وأدّت إلى نشوء أزمة سياسية وحكومية في البلاد استكملت بقطع الطرقات وخطف لبعض الفلسطينيين في محاكاة للحرب الأهلية مترافقة مع عمليات تخريبية وتفجيرات طالت أكثر من مؤسسة إعلامية ومراكز دينية وحزبية كانت ورائها أصابع مخابراتية عربية رجعية مضافًا إليها عمليات اغتيال استهدفت عددًا من قيادات المقاومة الفلسطينية نفذتها فرق من الكومندوس الإسرائيلي ما بين فردان والفاكهاني والأوزاعي والدورة وصيدا في استباحة للسيادة اللبنانية ولشوارع العاصمة بيروت.
بوسطة عين الرمانة
في هذه الأجواء المتراكمة احتقانًا وتوترًا تأتي حادثة بوسطة عين الرمانة كالقشة التي قصمت ظهر البعير لتشتعل الطرقات رصاصًا وقذائف وجثث قتلى وجرحى في المستشفيات وحرائق ونهب للممتلكات، ولتنقسم العاصمة إلى شطرين شرقي وغربي ارتفعت فيها السواتر الترابية والمتاريس الرملية على خطوط التماس ولتدخل البلاد في أتون حربٍ طائفية مورس فيها الخطف والقتل على الهوية محدِثةً انقساما عموديًا بين مكونات الشعب اللبناني والذي ما زال يعيش تداعياتها حتى يومنا الحاضر، حيث سريعًا وعند أي استحقاق أو تشنِّجٍ في المواقف السياسية تستحضر أدبيات تلك المرحلة الماضية وشعاراتها ولكن في قالبٍ جديدٍ متطور، ميدانه خنادق وجبهات الإعلام بكل أشكاله وقنواته وشاشاته وصحفه ومواقعه الإلكترونية. أمّا مرابض منصَّات التواصل الاجتماعي فتستخدم لإطلاق كل أنواع الأسلحة المحرَّمة وطنيًا وأخلاقيًا وإنسانيًّا، وليطلَّ علينا بعض ممن ما زالوا في تلك الحفر الآسنة على جانبي الجبهة يتقيؤون أحقادهم الطائفية وأمراضهم النفسية وبغضهم للآخر مغلَّفةً بمواقفٍ وأهدافٍ وغايات سياسية هزيلة وواهية. وبتنا نسمع نوعًا جديدًا ومحدّثًا لشعارات التثوير والاستنهاض وشد العصب الطائفي والمناطقي للجمهور الغوغائي ومن مختلف الجهات وعلى طرفي النقيض، شعارات لا تنتهي ولن تنتهي قبل أن تعيد الحفر والنبش في مقابر ذاك الجرح العميق والدامي في ذاكرة الشعب اللبناني.
لقد أوقِظ الشياطين من سُباتهم وأبدعوا في صياغة تلك الشعارات، أنزلوا القديم منها من فوق الرفوف بعد كان قد علاها الغبار والصدأ، وأعيد تنميقها وتلوينها لتكون متلائمةً مع الحقبة الجديدة من الفتنة والانقسام والشرذمة، وتصدَّرت التصاريح النارية والتغريدات الممجوجة والمقالات المسمومة بلغةٍ فوقيَّة عنصريَّة طائفيَّة ومذهبيَّة تُظهِر دفائن نفوس وعقول ذاك المثقل بهزائم الماضي وخيباته، فكان لبناننا ولبنانكم، لا نشبههم ولا يشبهوننا، الاحتلال الإيراني وكانتون الضاحية والآخر في الوطن والرسوم المشطوبة التي فوق كل اعتبار وغيرها من الشعارات الفارغة والتافهة، واستكملت المعزوفة إيَّاها ما بين قوة لبنان في ضعفه وحياده عن قضايا الأمة وفلسطين والصراع بوجه العدو الصهيوني المغتصب للحقوق والأرض والمقدسات.
هل من مُعتبِر؟
تتعالى الأصوات عند كل مفصلٍ وحدث تكون فيه المقاومة طرفًا في ردع العدو الصهيوني ومنعه من الهيمنة والعلو والاستفراد ومحاولات قضم الحقوق والعدوان، وتنبري الأقلام والألسن وشاشات الإعلام المأجور والمرتهن للبترودولار لتهاجم وتخوِّن وتُضخُّ الأكاذيب والأضاليل في عقول الناس والجمهور وآخرها ما ظهر من بيانات وتعليقات على حادثة إطلاق الصواريخ من سهل “بلدة القليلة” الجنوبية والتي على ما يبدو أصابت منهم وجعًا ومقتلًا أكثر ما أوجعت العدو الإسرائيلي، فكانت مقولة “حماس لاند” في استذكار أدبيات العدو القديمة وفي مواكبة حماسية لتحريض إعلامه على لبنان ومقاومته، وسيناريوهات وفبركات وتحليلات لما جرى كنَّا قد شهدنا على شاكلتها الكثير في الأيام والشهور والسنوات الماضية.
إنَّ هذا اليمين الانعزالي القديم والعفِن وبنسخته المحدَّثة من صبية السياسة ومراهقيها لم يتَّعظ ولم يتعلّم الدرس مما جرى خلال الحرب الأهلية الأليمة والتي كانت من نتائجها هزائم وويلات جرت على المسيحيين قبل المسلمين تهجيرًا وقتلًا وتشريدًا وهدمًا وحرقًا للقرى والبلدات، وفي هذا المجال لائحة الهزائم تطول بسبب تلك الرهانات الخاطئة والتي على ما يبدو أن البعض يعمل على تجديدها في قراءة سيئة وخاطئة وتحليل أسوأ لواقع متغيِّرات المنطقة والعالم. لم يأخذوا العبرة من ذكرى تلك الحرب الفتنة والتي أسقطت من أيديهم أوراق قوة في السلطة والحكم ومنظومة إدارة الدولة لمصلحة المناصفة والشراكة الوطنية المتوازنة، وأنَّ رهاناتهم على أي حربٍ قادمة لا سمح الله ستُخرِج القلَّة الباقية منهم في الوطن نحو المنافي ودول الشتات. في 13 نيسان 2023م: هل من مُعتبِر؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.