قبل أن يجفّ حبر تفاهم بكين، الذي فتح باب التقارب بين السعودية وإيران من زاوية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، رغم ما تركته القطيعة من آثار سلبية على المنطقة بأكملها، من العراق وسوريا واليمن إلى لبنان وأبعد من ذلك، حتى بدأ الحديث عن انفراجات كبرى تطال معظم ملفات المنطقة، بما فيها لبنان الغارق بأزمة تحوّلت كارثية وضربت بنية النظام المهتزّ أصلًا، وأغرقت السلطة في مستقنع تعجز عن الخروج منه أو التعاطي معه سوى بالهروب ومزيد من الفشل.
هذا الفشل تُرجم على شكل فراغ في سدّة الرئاسة الأولى، وعجز عن تشكيل حكومة، وانقسام في المجلس النيابي المكبّل أصلًا بخارطة توازنات معقّدة زادت الطين بلّة. فحتى حلفاء الأمس غادروا مقاعد التفاهم وانخرطوا في معركة المصالح الحزبية والشخصية، وسقط الوطن كله في معركة صراع المشاريع الدولية التي تفوق حجمه مرات، في ظل اشتباك عالمي وجبهة دولية مستعرة وإقليم تعمل بعض الأنظمة فيه على إعادة تموضعها وترتيب علاقاتها بما يتناسب مع العالم الجديد المتعدد الأقطاب على أنقاض أحادية القطب الغربي الأميركي وغرقه في أزمة بدأت داخل الولايات المتحدة، ولن تنتهي بفشل الحرب مع روسيا على الأراضي الأوكرانية، وهي الحرب التي حفّزت نتائجها الصين للدخول مباشرة إلى منطقة الشرق الأوسط، في وقت تعيش فيه دول أوروبا الغربية، حليفة أميركا، أزمة وقود وركود، وتعاني حصارًا فرضته أميركا لمعاقبة روسيا، فكان الثمن داخل أوروبا انهيارات وقلق.
وفي لبنان، بعد جو من التفاؤل والتوقعات بقرب الخروج من عنق زجاجة الأزمة باتجاه الحل من بوابة انتخاب سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية والدعوة إلى حوار داخلي، بالتزامن مع حركة دولية فرنسية سعودية تلت اجتماع باريس، ثم دعوة فرنجية لزيارة فرنسا، بعد اتصال هاتفي بحث الملف اللبناني بين الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي. فدعوة فرنجية لم تكن متوقعة أو مرضية للأطراف المسيحية الثلاثة، التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وحزب الكتائب، ما حدا بهم لرفع الصوت عاليًا ومواجهة الدعوة بحملة تشويش لم تكن فيها حسابات حقل التسوية الدولية مطابقة لحقل بيدر طموحات “المعارضة المسيحية المتناقضة” والتي توجهت مباشرة لرأس الكنيسة طالبين عدم تكرار “خطأ الطائف” وتغطية استكمال “الانقلاب”.
يرى هؤلاء أن الظروف اليوم مختلفة، وتدويل الأزمة اللبنانية يعيد للمسيحيين دورهم الطبيعي في النظام بعدما أُفرغ من مضمونه بموجب اتفاق الطائف، فصاروا يخشون تقويض دورهم كليًا وتحويله صوريًا بعد تسوية بكين أو فيينا.
وفي هذا الإطار، تنوي الكتل الثلاث، مع بعض المستقلين من النواب، تقديم استقالات جماعية من المجلس النيابي خلال الأسبوعين المقبلين، بعد خلوة الصلاة في بكركي. وقد يتجاوز عدد النواب المستقيلين 46 نائبًا، وبذلك تكون الاستقالة بمثابة الشعرة التي قضمت ظهر البعير، وأنهت عمل المجلس النيابي كهيئة ناخبة يمكنها انتخاب رئيس جمهورية، بعد استقالة أكثر من ثلث أعضاء مجلس النواب.
وبذلك، يكون لبنان دخل عصر الوصاية الدولية من جديد، بانتظار قرار دولي تعمل عليه أميركا بشكل مباشر، وهذا كان مطلب البطريرك الدائم لفرض رعاية أممية ووصاية خارجية بهدف إعادة تكوين السلطة في لبنان بعد انهيار السلطة الحالية وفراغها، وهذا ليس خدمة مجانية أو شعور بالمسؤولية تجاه الشعب، بل لحفظ مصالح غربية إقليمية عربية أمام شرق أوسط جديد بخارطة سياسية ترسمها نتائج الجبهة الملتهبة على الأراضي الأوكرانية وما تقرره طاولة فيينا بعد اتفاق بكين واتجاه الأنظار إلى نتائج الانتخابات الأميركية، في وقت دخلت منطقة الحقول المنتجة للطاقة في البحر المتوسط خانة الاستثمارات في مجال الغاز، حيث الشركات الغربية لها حصة الأسد، فيما تحظى روسيا بموقع على شواطئ سوريا، ضمن المياه الدافئة لروسيا العظمى.
أمام ما تقدّم، يبقى لبنان الحلقة الأضعف، حيث سلطة الحكم مياومة، وقراره خارج الحدود، عند أميركا التي تعمل لفرض توقيع اتفاق صندوق النقد الدولي، ورهن لبنان لسياستها من بوابة الوصاية الدولية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.