تحدد الموعد الرسمي للانتخابات الرئاسية والتشريعية في تركيا، ومعه أسفر المشهد العام عن انقسام عند فالق يفصل الرؤية إلى شكل النظام السياسي، الذي قد تقلب هويته نتائج استحقاق دستوري هو الأكثر أهمية لرسم معالم المرحلة المقبلة والاتجاهات الاستراتيجية المتوقعة للدولة. ففي 2023 انفتحت شهية الطامحين إلى تبوؤ سدة أعلى منصب في الجمهورية، ليرتفع العدد إلى 9 مرشحين حتى اللحظة، مسجلًا رقمًا قياسيًا في تركيا ما بعد حكم العسكر، يعكس تعدد التحالفات الداعمة والأحزاب (36 حزبًا ستشارك في الانتخابات).
على رأس المرشحين للمنصب الرئيس التركي رجب طيب #اردوغان (تحالف الشعب)، يقابله أقوى رموز المعارضة كمال كليتشدار أوغلو (تحالف الأمة أو طاولة الستة)، والقيادي السابق في حزب “الحركة القومية” سنان أوغان (تحالف “أتا” المؤلف من أحزاب يمينية شعبوية معادية للاجئين)، ورئيس حزب “البلد” محرم إنجه مدعومًا من حزبه فقط (مرشح 2018 عن حزب الشعب الجمهوري قبل خلافه لاحقًا مع كيلتيشدار أوغلو، وحاز على 26% من الأصوات مقابل 53% لأردوغان)، ورئيس حزب “التجديد” أوزتورك يلماظ (منشق عن حزب الشعب الجمهوري)، ورئيس حزب “الوطن اليساري” دوغو برينتشيك، والرئيس السابق لحزب “الشباب” جيم أوزان، ورئيس حزب “الوحيد” أحمد أوزال (“تحالف تركيا” المكون من 7 أحزاب صغيرة وهو نجل الرئيس الراحل تورغوت أوزال)، والقيادي السابق في حزب “اليسار الديمقراطي” سردار صاواش (أعلن أنه مرشح مستقل).
لكن كثرة المرشحين وتعدد التحالفات والأحزاب، لا تخفي أن التنافس الأبرز هو بين معسكرين اثنين، لا ثالث لهما: تحالف الشعب (بقيادة حزب العدالة والتنمية) الحاكم ومرشحه اردوغان، وتحالف الأمة (بقيادة حزب الشعب الجمهوري) المعارض ومرشحه كيلتيشدار أوغلو، وهو تنافس لا يبتعد عن أن يكون صراعًا على شكل تركيا ونظامها السياسي، فالمعسكران دخلا في معركة استقطاب حادة، وفق آليات الديمقراطية التركية، عنوانها آلية الحكم القادمة بين إبقاء على نظام رئاسي كما يريد تحالف الشعب، أو تحول لنظام برلماني معزز كما اتفق قادة طاولة الستة (تحالف الأمة)، بل إن تصريحات الطرفين استخدمت أدبيات سياسية تكاد تفرز الميدان الانتخابي بين رايتين، تحدد الهوية الوطنية، الأولى تلامس خطابًا إسلاميًا ـ قوميًا يرفع لواءه حزب العدالة والتنمية، يقابله خطاب علماني – يساري بقيادة حزب الشعب الجمهوري.
أولى علامات الاستقطاب يقدمها تحالف الشعب (المؤلف من أحزاب العدالة والتنمية والحركة القومية، ولاحقًا الوحدة الكبرى) عبر ضم حزب “الرفاه من جديد” الإسلامي الهوية (برئاسة فاتح أربكان نجل القائد الإسلامي التاريخي الراحل نجم الدين أربكان)، ربما لسحب البساط من الوجوه الإسلامية لدى “طاولة الستة” (رئيس حزب “السعادة” تمل كاراملا أوغلو ورئيس حزب “المستقبل” أحمد داود أوغلو)، وكذلك العمل على الاستفادة من دعم حزب “الهدى” الإسلامي الكردي (الذراع السياسي لحزب الله الكردي في #تركيا ) لإيجاد توازن كردي إسلامي مقابل “حزب الشعوب الديمقراطي” اليساري الهوية وأبرز ممثلي المكون الكردي على “طاولة” المعارضة (سجل الأخير نسبة 16% في 2018). كما أن العمل على تعزيز “العصب القومي” في البلاد لا يغيب عن التحالف الحاكم (وركنه الثاني الحركة القومية بقيادة دولت بهتشلي الذي حاز حزبه على 11 % في الانتخابات الماضية)، وتجلياته واضحة من الدعم السياسي والأمني للدول الواقعة في فلك “العالم التركي” إلى تطوير الصناعات الحربية وصولًا إلى النزعة الاستقلالية دوليًا وخطاب التحدي للعواصم الكبرى، على اعتبار أن تركيا دولة تسعى إلى “مكان تحت الشمس” بين الأمم القوية.
في المقابل، يعول “تحالف الأمة” على هوية مناقضة، أفصحت عنها بنود الاتفاق على “طاولة الستة” (الاثنين 30 كانون الثاني/يناير 2023)، وهي في الداخل تبدأ من تحويل نظام الحكم الرئاسي إلى برلماني معزز، وما يعنيه من انقلاب على الاستفتاء الدستوري عام 2017، ولا تنتهي عند المطالبة بحريات سياسية واجتماعية أوسع (بالمفهوم الليبرالي الغربي)، وفي الخارج تسعى “الطاولة” إلى التوجه نحو الغرب و”إصلاح العلاقات” معه، عبر العودة إلى التفاوض مع الاتحاد الأوروبي (جُمّدت في 20 شباط/ فبراير 2019)، والدفع بالتحالف (البارد) مع #الولايات_المتحدة ليكون على أساس “الثقة المتبادلة”، وإعادة تركيا إلى مشروع تصنيع مقاتلات “إف-35″، في تغيير واضح لسياسات اردوغان القائمة على الاستفادة من التوازنات الدولية، كما أن اتفاق “الستة” ترك الموقف مبهمًا من التهديد الأمني لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية في شمال سوريا، ربما للاستفادة انتخابيًا من الصورة التي تُقدم عن التحالف الحاكم بوصفه عدوًا للمكون الكردي.
ويمكن القول إن المعسكر الثاني استطاع أن يقدم نفسه “جبهة موحدة” لدخول المعترك الانتخابي، متجاوزًا أزمة هددت بانفراط عقد “الطاولة” المعارضة، التي يجمع تحالفها، على ما يبدو، خصومة #اردوغان أكثر من أي شيء آخر، وقد بعث صمود هذا التحالف برسالة واضحة إلى منافسه، وهو ما بدا جليًا في مفاوضات حزب العدالة والتنمية مع أحزاب صغيرة ذات هامش متواضع قد ترفع (مجتمعة) من نسب التفوق الانتخابي منعًا لانزلاق أوراق المقترعين الأتراك نحو المعسكر الآخر.
غير أن تكتيكات التحالف الانتخابي ليست وحدها كافية، فحزب العدالة والتنمية يعلم أن وقع الزلزال المدمر، سيزيد من محاسبة الناخبين لأدائه في الحكم خلال السنوات الماضية، ولعلها من المرات النادرة التي يُسمع فيها قائد الحزب، ورئيس البلاد، أردوغان (يوم الأحد 12 آذار/مارس 2023) يطلب “الصفح” من أهالي هاتاي مركز المأساة، بل إن “من واجبنا أن نطلب منكم أن تسامحونا على التقصير في الأيام الأولى للزلزال”، لكن السياسي المخضرم يدري، في الوقت نفسه، أنه الأكثر قدرة على جذب أصوات المتضررين من “كارثة القرن” ومحيطهم عبر إطلاقه وعودًا، بعضها نُفذ (منح 10 آلاف ليرة تركية في المرحلة الأولى لكل عائلة متضررة، وتصفير ديون المتوفين)، ومشاريع لإعادة إعمار الشقق السكنية والمنازل الريفية (بواقع 650 ألف وحدة في عموم المناطق المتضررة خلال عام)، وتعويض خسارات المزارعين والمنتجين المتضررين من الزلزال.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.