لقد تعثرت مؤخرا بعض أقوى الشركات وأكثرها ربحا وتوسُّعا في التاريخ الإنساني، والمرتبطة شكليا على الأقل بالابتكارات المتنوعة، إذ إنها تفشل فشلا ذريعا في خلق المستقبل الذي طالما صوَّرته في دعايتها، أو حتى الحفاظ على العوالم التي استطاعت خلقها بالفعل. وبعد وصولها إلى ذلك الحجم الهائل، فإنها لم تعد قادرة أو راغبة في إدارة المجتمعات الرقمية التي بنتها.
عام 2020 انهال علينا خليط من مشروعات الواقع الافتراضي والمُعزَّز، ومفاهيم “الميتافيرس” التي قدمتها الشركات لكي تحاول الخروج من عنق الزجاجة ، في حين بدأ آخرون في القفز من المركب برُمِّته .
تُعَدُّ تويتر المثال الأوضح على ورطة شركات التقنية الذي اشتراها الملياردير ايلون ماسك بمبلغ خيالي واليت حولها من اهم منصة اعلانية الى افشلها بعد ان رفض المعلنون الاستمرار في الدفع على منصة مضطربة وبعيدة عن الاستقرار، ناهيك عن الشكاوى المقدمة ضده بعناوين شتى .
في غضون ذلك، يبدو جليا أن مارك زوكربيرغ، المدير التنفيذي لشركة ميتا، قد خاب أمله إلى حد أنه قرر محاولة اختراع واقع جديد الميتافرس، وجرنا جميعا إلى هناك. مع ذلك، فإن الصخب المصاحب للحدث حقَّق بالفعل ما أرادته الشركة وما صُمِّم من أجله .
بمرور الأيام، يتجلَّى أن طموحات “ميتافيرس” الخاصة بشركة فيسبوك ضربٌ من الخيال، ومحاولة من المدير التنفيذي المُحاصَر للهرب إلى عالم افتراضي ثلاثي الأبعاد يمكن أن يُغادر إليه تاركا وراءه مأساة النسخة المُمِلة ثنائية الأبعاد المُمثَّلة في موقع فيسبوك. لقد خسرت الشركة مئات المليارات من الدولارات من قيمتها العام الماضي، وسرَّحت أكثر من 11 ألف موظف أو ما يعادل 13% من طاقمها في تشرين الثاني الماضي.
في أيلول الماضي، حينما عقدت “أبل” فعالية إطلاق نسخة آيفون السنوية، لم يُفاجأ كثيرون عندما وجدوا أن أحدث إصدارات الآيفون تشابهت إلى حد التطابق تقريبا مع الإصدارات السابقة. وقبل ذلك بأسابيع ظهرت تقارير تفيد بأن وزارة العدل الأميركية تنظر في رفع دعوى قضائية شاملة لمكافحة الاحتكار ضد عملاق التكنولوجيا “أبل” على خلفية ممارسات مُخِلَّة بقواعد المنافسة. ومع استقرار أرقام المبيعات الهائلة للآيفون، وتحوُّل أعمال الشركة بعيدا عن حيويتها السابقة (لم تُطلق الشركة منتجا جديدا من نوعه منذ إطلاقها سماعات “إيربود” عام 2016)؛ بدأت أبل في الاعتماد على الإعلانات.
مثلها مثل أبل، شهد المنتج الأساسي لشركة غوغل استقرار عائداته منذ فترة، حتى باتت تصرفات الشركة أشبه بكيان احتكاري يبتلع شركات العالم، وأبعد عن نموذج شركة الابتكارات التقنية الذي تدّعيه. فقد استخدمت الشركة نفوذها لضمان سيطرتها على سوق الإعلانات الرقمية، وراحت إلى ما هو أبعد: السعي وراء الأرباح الهائلة عن طريق متجرها الخاص “غوغل بلاي”، ومن خلال توسيع خدماتها السحابية. والنتيجة أن غوغل أيضا تواجه تحرُّكات قضائية من وزارة العدل لمكافحة الاحتكار، ولا عجب في ذلك بالنظر لامتلاكها المنتجات الأكثر هيمنة عالميا: محرك البحث غوغل، ومتصفح الويب “كروم”، ونظام تشغيل الهواتف المحمولة “أندرويد”. إن سعي غوغل نحو مصادر جديدة للعائدات أفضى بها إلى حيث انتهى الكثير من عمالقة التكنولوجيا الذين كانوا مثاليين يوما ما: إلى وزارة الحرب الأميركية. ففي كانون الأول الماضي، أعلن البنتاغون تمديد عقد مع غوغل بقيمة 9 مليارات دولار للمساعدة في إنشاء “سحابة تكتيكية” بالتعاون مع “أوراكِل” و”أمازون” و”مايكروسوفت”.
لنأخذ في حسباننا أن أمازون تحصد جلَّ أرباحها من خدمات الأعمال السحابية التي تقدمها شركة “خدمات أمازون ويب” (AWS). ورغم حجم أمازون الهائل وبصمتها في التجارة الإلكترونية، فإن هامش أرباحها في تجارة التجزئة ضئيل، إذ سجَّلت الشركة خسارة في الربع الأخير من السنة الماضية. وتوسَّعت أمازون بضراوة على خلفية أرباح خدمات “AWS”، وانخفاض الأسعار للمستهلكين، بالإضافة إلى ما يرقى لكونه استغلالا مُمنهجا للعمالة. أما الآن، ومع انتفاض عُمَّالها بأعداد متزايدة في شتى أنحاء الولايات المتحدة وسعيهم لتنظيم صفوفهم نقابيا، فإن المعادلة التي اعتمدت عليها الشركة في خطر.
لا تقتصر الأزمة على شركات التكنولوجيا العملاقة، بل على النموذج الذي انبثقت عنه، وتُسنَد فيه ملايين الدولارات إلى أحد الحالمين كي يبتكر مستقبلا جديدا دون إشراف على ما يُنفِّذه على الأرض، حتى يصل إلى حائط صد في النهاية.
إن عمالقة التكنولوجيا، في الحقيقة، لم يستندوا في بناء نموذج الأعمال الخاص بهم إلى إتاحة المستقبل المنتظر من ادوات تكنولوجية يستفيد منها العالم يشكل محسوس ، وبدلا من ذلك، فإن طموحات الشركات لطالما ركَّزت على أن تصبح الأكبر: أن تضُمَّ أكبر عدد من المستخدمين، وتبيع أكبر عدد من الأجهزة، وتجعل أكبر عدد من الناس أَسْرى حدائقهم وعالمهم الاجتماعي المعزول
ثمَّة مفارقة صاحبت نهاية العام الماضي هي أن أحدث اتجاه في هذا القطاع الصاخب هو الصور والنصوص المولَّدة آليا بواسطة الذكاء الاصطناعي. إن أدوات مثل “دال-إي” (DALL-E) و”تشات جي بي تي” (Chat GPT)، التي ابتكرتها شركة “أوبن إيه آي” (Open AI)، تستخدم شبكات عصبية ضخمة لتجميع مُخرجات تبدو جديدة من كميات ضخمة من البيانات القديمة التي مُحِيَت من الإنترنت وباتت تحت تصرُّف شركات التكنولوجيا العملاقة، وهي صور ومقالات ومنشورات أُعِدَّت لتغذية الجيل القادم من منصات الإنترنت الاحتكارية.
اذا عمالقة التكنولوجيا وصلوا الى حائط مصدود ، لم يحققوا ما كان يحلمون به ولن يستحوذوا على رضا الناس طويلا ، في المقابل ان شركة مثل open ai فتحت المجال لعالم ونسق جديدين يمكنهما ان يطيحا بستاتيكو عمالقة التكنولوجيا التي تعيش ركودا عقيم وغير مسبوق .
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.