أعلن “معهد عكيفوت” الإسرائيلي عن خطوة جديدة حققها ضمن النشاط الذي يبذله نحو كشف المزيد من الملفات الرسمية المتعلقة بمذبحة كفر قاسم (1956). وقد نشر على موقعه قرار محكمة الاستئناف العسكرية، الذي جاء في ختام مداولات طويلة بناء على طلب الباحث في المعهد، المؤرخ آدم راز، بفتح المواد والشهادات من محاكمة كفر قاسم التي ما زالت مغلقة حتى يومنا هذا. وكانت المحكمة قد أصدرت قراراً قبل ذلك بحوالي شهرين، وقعه الرئيس السابق لمحكمة الاستئناف العسكرية، الميجر جنرال (احتياط) دورون فيليس، وقضى بأن مئات صفحات بروتوكول محاكمة كفر قاسم التي تم التكتم عليها وحظرت السلطات نشرها حتى الآن، ستُفتح أمام الجمهور. ولكنه استثنى منها في الوقت نفسه، الصور الميدانية من موقع المذبحة، والخطة المعروفة باسم “الخلد”، وهي خطة سياسية لطرد سكان المثلث إلى الأردن، ويُرجّح أنها كانت في خلفية المذبحة. أي أنه لن يتم الكشف عن هذه التفاصيل حتى الآن، حتى بعد أكثر من 65 عاماً من المذبحة.
للتذكير، مذبحة كفر قاسم ارتكبها عناصر في قوات الأمن الإسرائيلية وراح ضحيتها 49 شهيدة وشهيدا من البلدة. كان ذلك في مساء 29 تشرين الأول 1956، بالتزامن مع مساء اليوم الذي شنّت فيه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوان الثلاثي ضد جمهورية مصر العربية، إذ صدرت أوامر بحظر التجول على قرى في المثلث هي: كفر قاسم، كفر برا، جلجولية، الطيرة، الطيبة، قلنسوة، بير السكة وإبثان، وذلك ابتداء من الساعة 17:00 مساء وحتى الساعة 6:00 من صباح اليوم التالي. وكان من المستحيل لمن مكث من أهالي القرى المذكورة خارجها، منذ صباح ذلك اليوم، أن يعرف بصدور قرار حظر التجول، الذي اعتاد الجيش إبلاغ مخاتير القرى به ليعلنوه للسكان.
أما “خطة الخلد”، فكان هدفها وفقا للمؤرخ راز طرد العرب من المثلث. وسبق أن صرّح بأنه تابع “رائحة المخطط السري” عن طريق محامين شاركوا في محاكمة المذبحة ومقابلات مع “أبطال القضية” حيث اكتشف حكايات مثل إعلان بإخلاء المكان وصل إلى شيوخ القرية وإعطائهم خيار عبور الحدود خلال فترة محددة بثلاث ساعات. كذلك عثر على شهادة مكتوبة للجنرال أبراهام تمير، مهندس الخطة بطلب من رئيس الحكومة آنذاك دافيد بن غوريون. وتذكر شهادة تمير أن الخطط حاولت تقليد ما فعله الأميركيون باليابانيين في الحرب العالمية الثانية، كسجنهم في معسكرات اعتقال بدعوى أنهم سيشكلون طابورا خامسا. أما إذا اندلعت الحرب، فإن كل من لم يهرب إلى الأردن سيتم إجلاؤهم إلى معسكرات اعتقال مع فتح الطريق إلى الأردن أمامهم باستمرار إذا اختاروا ذلك. ونقل عن الحاكم العسكري القول إن “القضية هي كيفية تحفيز العرب لمغادرة البلاد”.
على الرغم من محاولات تصوير الجريمة بمصطلحات الخطأ والخلل، والتي لا تزال سائدة اليوم في معجم إسرائيل الرسمي، فإن تسلسل الأحداث التي يتم الاعتراف بها بالتدريج، يكشف أن ما جرى في كفر قاسم هو جريمة ارتُكبت وفقاً لأوامر عسكرية واضحة، وضمن تدرّج التراتبية العسكرية المعمول بها. فالضابط برتبة مقدم، يسسخار شدمي، الذي كان قائد اللواء العسكري في المنطقة، استدعى، في ذلك اليوم، الضابط شموئيل مالينكي- قائد سرايا ما يسمى حرس الحدود، وأصدر إليه تعليمات بفرض منع التجول بصرامة على القرى المذكورة، ليس بواسطة تنفيذ اعتقالات لمن لا يلتزم به، بل بواسطة إطلاق النار. أما عمّن يعودون إلى القرية من دون أن يعرفوا بقرار منع التجول، فقد ردّ شدمي بوحشية باردة: “الله يرحمه”، كما تبيّن بروتوكولات المحكمة.
مسموح نشر وثائق لكن ممنوع نشر القرار عن ذلك!
ضمن التطورات الجديدة كما يفيد “عكيفوت”، وهو منظمة غير ربحيّة تنشط من أجل كشف وثائق تمنع السلطات الإسرائيلية نشرها، على الرغم من انقضاء الوقت المحدد لحجبها وفقاً لقانون الأرشيفات، صدر قرار الرئيس المنتهية ولايته لمحكمة الاستئناف العسكرية بفتح مئات الصفحات في ختام مسار قانوني استمر حوالي أربع سنوات ونصف السنة. ففي العام 2018، عقدت المحكمة عدداً من جلسات الاستماع التي طالبت بفتح وثائق محجوبة أمام الجمهور، وهي محاضر الجلسات والأدلة المقدمة خلف الأبواب المغلقة، ومنذ ذلك الحين تم تأجيل القرار، حتى أسابيع قليلة مضت.
لكن حتى هذا أيضاً لم يسمح في تلك المرحلة بممارسة المواطنين لحقهم في الاطلاع عما سُمح بعد صدور القرار، ووصل العبث ذروة جديدة حين قامت المحكمة العسكرية نفسها التي سمحت بنشر الوثائق، بإصدار أمر تقييدي شامل على جميع التحركات المتعلقة بإصدار القرار، بما في ذلك حقيقة أن القرار قد صدر ومضمونه. أي أن المحكمة سعت إلى منع الجمهور من معرفة أنه بات بوسعه ممارسة حقه القانوني في الاطلاع على ما سُمح بنشره من وثائق! ويبدو أن هذا ما كان ليجتاز حتى امتحان الهيئات القضائية الإسرائيلية العليا، فعادت مؤسسة القضاء العسكري لتتراجع، حيث تم إلغاء أمر التقييد وسُمح بقراءة القرار الذي يسمح بالاطلاع على بعض المواد المطلوبة.
يشير قرار المحكمة الأخير في سطوره الأولى إلى أن “قضية كفر قاسم” لا تزال إحدى القضايا “القاسية التي زعزعت الدولة وأثارت عاصفة شعبية كبرى”. وهي التي جاء في أعقابها مفهوم “الراية السوداء” التي ترفرف فوق بعض الأوامر العسكرية التي يمنع تنفيذها. وذلك في إشارة إلى قرار القاضي مناحيم هليفي حين رفض ادعاء مجرمي مذبحة كفر قاسم بأنهم لم يقوموا سوى بتنفيذ أوامر. حيث كتب القاضي في قراره بأن هنالك أوامر يُحظر تنفيذها لأن مجرد تنفيذها هو جريمة جنائية بحد ذاته. وعرّفها بكونها “الأوامر غير القانونية بشكل لا يقبل الشك ولا التأويل… وتلك التي تفقأ العين وتجعل القلب ينتفض ما لم تكن العين عمياء ولم يكن القلب بليدا أو مفسوداً”.
التسويغ اللافت من المحكمة لمنع نشر صور المذبحة…
قدّم قرار المحكمة مواقف الطرفين، المؤرّخ والنيابة، وأشار كالمتوقع إلى أن مبدأ التداول العلني للمحاكمات “ليس مطلقاً” مستخدماً الذرائع الأمنية المعهودة. واللافت أن المحكمة لا تعترف مباشرة بوجود خطة اسمها “خطة الخلد” بل تقول إن مواقف الجهات المختلفة ومنها مقدّم الطلب ووزارة الخارجية تشمل معلومات عن خطة عسكرية سرية عُرفت باسم “الخلد”. مع ذلك تعلن أنه بعد فحص مختلف المعايير قررت الإبقاء على سريّة كل ما يتعلّق بتلك الخطة.
أما الأدهى في القرار فهو التسويغات والتبريرات لعدم السماح بنشر صور من المذبحة. فقد كتبت أن دافع عدم النشر هو “احترام كرامة الموتى”! من المثير معرفة عدد الذين سيأخذون هذا الكلام على محمل الجدّ أم على سبيل الفكاهة السوداء أو الكلبيّة المتبلّدة الاستعلائيّة التي تكاد تقترب من التمثيل الاستعاري البغيض بجثامين الضحايا!
وفقاً لتقرير في جريدة “هآرتس”، الذي خصها المعهد بالكشف كما يمكن الاستنتاج، ففي نهاية مداولات قانونية استمرت خمس سنوات، المحكمة العسكرية للاستئنافات اتخذت قرارها بشأن طلب المؤرخ راز كشف وثائق تاريخية متعلقة بمذبحة كفر قاسم في 1956. ولكن بسبب منع النشر المذكور فانه لم يكن ممكناً نشر ما هو القرار رغم حقيقة أنه تم اتخاذه، أي أنه لم يكن من الممكن معرفة متى وأي الوثائق من هذه القضية سيتم كشفها للجمهور. المسؤول السابق عن “أرشيف الدولة”، د. يعقوب لزوبيك، قال للصحيفة إن “مستوى الغباء في هذا القرار كبير جدا، الى درجة أنه لا توجد حاجة إلى رد إضافي”.
نقلت الصحيفة عن المؤرخ ادم راز الذي يعمل الآن في “عكيفوت”، أنه في العام 2017 كان يعمل على تأليف كتاب عن المذبحة وقد طلب الكشف للجمهور عن وثائق تاريخية تمت كتابتها خلال المحاكمة العسكرية التي جرت في نهاية الخمسينيات ضد الجنود الذين ارتكبوها. المادة التي طلب راز الحصول عليها شملت نحو 600 صفحة من محاضر ووثائق قُدمت كأدلة في تلك المحاكمة التاريخية. جميع المداولات منذ ذلك الحين جرت خلف أبوب السريّة، وكما هو متوقّع عارضت الدولة الطلب بذريعة وجود مخاوف من أن كشف محاضر الجلسات “سيمس بأمن الدولة وعلاقاتها الخارجية أو حتى بخصوصية وأمن أشخاص ذوي صلة”!
وجوه كثيرة ستعلوها الدهشة حين يُكشف كل شيء!
اطلع المسؤول السابق عن ارشيف الدولة لزوبيك على المواد السرية بحكم منصبه وقدم للمحكمة وجهة نظر مكتوبة. وصرّح: “أنا رأيت المادة. لا يمكنني إعلان ما يوجد فيها، لكن يمكنني القول إن الموقف الذي بحسبه وثائق من عشرات السنين يمكنها المس بعلاقات الدولية الخارجية أو النظام العام هو موقف خاطئ كليا”.
تمت إدانة ثمانية جنود بالمشاركة في المذبحة وأرسلوا الى السجن. ولكن تم تخفيف عقوبتهم لاحقاً، وتم إطلاق سراح جميعهم بدون قضاء معظم فترة السجن. بل إن بعضهم أشغل فيما بعد وظائف رسمية في الدولة، وواصل العمل في سلك الجيش ونال ترقية بعد أخرى في الرّتب والمواقع، مثل قائد المنطقة شدمي. هذا حوكم في محاكمة منفردة برّأته من تهمة القتل وأدانته ببند محدود ضئيل هو “تجاوز الصلاحيات”.
المؤرخ راز قال: “من الواضح بعد عقود أن عدم الكشف عن الوثائق لا يرتبط بمسائل أمنية أو سياسة خارجية، بل يرتبط بحقيقة أن الدولة تريد منع نشر معلومات ستحرجها وتظهرها بصورة سلبية”. وعن منع نشر قرار المحكمة ثم العودة عنه سريعاً تساءل: “ما الذي تغير وجعل الدولة تلغي معارضتها النشر؟ لا شيء. ليس لأنه فجأة تمت إزالة تهديد أمني ما. بل لأن هذا جزء من جينات مؤسسة الدولة، القاضي بعدم نشر مواد”. أما المحامي شلومي زخاريا، ممثل راز، فقال إن “سلوك جزء من الجهات الرسمية كان مقلقاً، وهناك وجوه كثيرة ستعلوها الدهشة والاستغراب حين سيتم الكشف عن كل شيء”.
من جهته، أعلن “معهد عكيفوت” أنه سيواصل النضال من أجل فتح جميع المواد من محاكمة كفر قاسم. ويقوم حالياً بتحميل آلاف الصفحات على منصة المكتبة الرقمية الخاصة التي أنشأها بالتوثيق المفتوح في قضية مذبحة كفر قاسم. وهي تشمل محاضر جلسات المحكمة العسكرية، والشهادات المقدمة في تحقيقات الشرطة العسكرية وأمام لجان التحقيق المختلفة، الأدلة التي جرى تقديمها إلى المحكمة ومحاضر الاجتماعات الحكومية المتعلّقة بالمذبحة، والعديد من الوثائق الأخرى ذات الصلة. ومثلما في قضايا سابقة، فهو يشكك في محاولة سلطات الدولة الربط ما بين نشر توثيق يعود عمره إلى عشرات السنين وبين مزاعم وجود تهديدات أمنية وإضرار بعلاقات دبلوماسية راهنة. ويؤكد أن كشف الوثائق التاريخية أمر إجباري لتمكين مجموعات مختلفة في المجتمع من التعرف على ماضيها الموثق. ويرى أن معرفة هذا الماضي ضرورية لتطبيق حقوق مدنية ودفع سيرورات عادلة داخل المجتمع، وهي مصلحة عامة هامة لا تقل عن تلك المصالح التي يتم استخدامها لتبرير مواصلة التستر على ممارسات إجرام تم ارتكابها من قبل مؤسسات الدولة أو مؤسسات سبقتها وصارت جزءا منها بعد 1948.
مدار سنتر
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.