تأسست الحركة الصهيونية في حواضن فكرية علمانية، سواء بسبب التكوين الفكري لآبائها المؤسسين، أو لأنها أرادت الحصول على صك القبول لدى المجتمع الدولي وقواه الكبرى، ولكن، لم تستطع الصهيونية الحفاظ على طابعها العلماني، في مرحلة النضوج، وخلال عمليات الانتقال من الطور الفكري إلى السياسات العملية على أرض فلسطين.
هوية حسب الطلب.. علمانية أمام المجتمع الدولي ودينية لليهود
فبهدف التعايش ومقاومة خطر «الانقراض»، كانت الصهيونية تُبدِّل جلودها بين العلمانية والدين، وفقًا للظرف التاريخي والطرف الذي تتعامل معه، فكانت تُصدِّر الوجه العلماني أمام حكومات الدول الغربية وساحات الرأي العام، ثم ترتدي القبعة الدينية حينما تحاول إقناع يهود العالم بقضيتها وأهميتها ووجوب دعمها.
ففي 14 مايو (أيار) 1948 حين جرى الإعلان عن تأسيس إسرائيل، لم تتبنَ إسرائيل رسميًا مصطلح «الدولة العلمانية»، ولكنها في الوقت نفسه لم تُشرْ إلى أنها «دولة دينية»، فقد حاولت «وثيقة الاستقلال» أن تقف على مسافة متساوية بين الاتجاهين؛ إذ حددت إسرائيل على أنها «دولة يهودية»، ولكنها أيضًا «دولة ديموقراطية» بالمفهوم الغربي العلماني، ونصت الوثيقة على:
«ستكون دولة إسرائيل مستندة إلى دعائم الحرية والعدل والسلام، تحافظ على المساواة التامة في الحقوق اجتماعيًا وسياسيًا بين جميع رعاياها دون التمييز من ناحية الدين، والعرق، والجنس، تؤمِّن حرية العبادة والضمير، واللغة، والتربية، والتعليم، والثقافة، تحافظ على الأماكن المقدسة لكل الديانات، تكون مخلصة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة».
أي أن إعلان الاستقلال جرت صياغته وفقًا للمبادئ السياسية العلمانية التي كان يتبناها المجتمع الدولي حينذاك، على الأقل على مستوى خطابات زعمائه السياسيين في تلك المرحلة وقرارات المنظمات الدولية التابعة له.
ويؤكد على هذا المعنى الكاتب البريطاني «إريك سيلفر» في مقاله المنشور في دورية «Political Quarterly»، في فبراير (شباط) 1990، تحت عنوان «الدين والعلمانية في إسرائيل المعاصرة»، إذ ذكر أن إعلان الاستقلال الإسرائيلي لم يقدم سوى تنازلات قليلة للدين، موضِّحًا أن الإعلان كان تذكيرًا واضحًا بالرؤية العلمانية للآباء المؤسسين للصهيونية، موضحًا أن لجنة صياغة الإعلان كانت أكثر دراية بالثورات الأمريكية والفرنسية من تعقيدات التلمود.
ورغم أن إعلان ما أسمته الحركة بـ«الاستقلال» قد حدّد تاريخ الأول من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1948، موعدًا نهائيًا لوضع الدستور، إلا أن إشكالية «هوية الدولة» (دينية أم علمانية)، والتي كان على الدستور حسمها، حالت دون وضعه، واستمر الجدل الفكري والأكاديمي حول هوية إسرائيل (دينية/علمانية) حتى يومنا هذا، ومن المرشح أن يستمر لفترات زمنية طويلة.
الدين والصهيونية.. من رفض «الدولة» إلى التسليم بها
أكدت الحركة الصهيونية انتسابها إلى أفكار العلمانية السياسية، بما يشمل ذلك الليبرالية والديمقراطية، ولكنها في الجوهر تبنّت «الأساطير الدينية» محركًا أساسيًا لها، واستندت إليها باعتبارها مبررًا مركزيًا في ادعاءاتها حول أرض فلسطين، وأداة لتعبئة يهود العالم.
تلخّصت أهمية الدين ووظيفته في الحركة الصهيونية في قدرته على إثبات أحقية اليهود في أرض فلسطين التاريخية، التي أطلقت عليها «أرض الميعاد»، وذلك لمنح الدولة الجديدة (إسرائيل) المشروعية الدولية بين يهود العالم.
وفي مراحل ما بعد التأسيس تضخّم دور الدين في المشروع الصهيوني وفي إسرائيل نفسها، ودخلت إسرائيل في مسار تدين متصاعد، ولا سيما بعد حرب عام 1967، على حساب قيم الديمقراطية الغربية، وعلى النقيض منها في معظم الأحيان.
ولكن كيف كانت العلاقة بين اليهود المتدينين والصهيونية في هذا التزاوج بين الدين والصهيونية؟ عندما ظهرت الصهيونية السياسية في أوروبا، تبين أن هناك معارضة شديدة لها في أوساط المتدينين اليهود، وهي المعارضة التي قامت على ثلاثة أسس:
رأى المتدينون أن محاولات الصهيونية لتوحيد يهود العالم تحت لواء أمة واحدة، يُفقِدهم التميز الذي تحدثت عنه الديانة اليهودية وتعاليم التوراة. فالصهيونية – من وجهة نظرهم – تُحوِّل اليهود إلى أمة مثل باقي الأمم، وتشجعهم على التخلي عن الواجبات الدينية.
اعتبر المتدينون أن الصهيونية حركة كاذبة تحاول تعجيل النهاية بوسائل دنيوية، فالخلاص في اليهودية سيأتي في آخر الزمان على يد «الماشيح المُخلِّص» الذي سيجمع اليهود من الشتات، أي أنه عملية سماوية لا أرضية.
اعتبر بعض المتدينين، خاصةً في مرحلة ما قبل تأسيس «الدولة»، أن الصهيونية ما هي إلا «سراب وأوهام» ومشروع غير واقعي، قائم فقط على حسن نوايا الأمم ومساعدتها لليهود.
لكن المتدينين تعاملوا مع إسرائيل، بعد عام 1948، باعتبارها أمرًا واقعًا، ونشأ ما يُعرف بـ«الستاتيكو» (أي الوضع القائم)، إذ جرى تنظيم علاقة مؤسسات الدولة (العلمانية) مع المؤسسات الدينية اليهودية، والتزم كل منهما بعدم التدخل في نمط الحياة الشخصية للأفراد. ومع مرور الزمن، برز في صفوف المتدينين اتجاهان متقاطعان:
أولًا: اتجاه رغب في الانفصال على المستوى الاجتماعي، بحيث يكون لكل طرف ضواحٍ وتجمعات سكنية ومؤسسات تعليمية وأنشطة ثقافية خاصة به.
ثانيًا: اتجاه آخر حاول الحصول على دور قيادي على المستوى السياسي العام، وذلك من أجل التأثير في المجتمع العلماني، وزرع القيم الدينية به.
تحولات علاقة المتدينين بإسرائيل: الوقوع في حب الدولة
يعد اندلاع حرب 1967 نقطة التحول المركزية في موقف الدين والمتدينين تجاه الصهيونية وإسرائيل، فبعد احتلال ما تبقى من فلسطين خلال هذه الحرب، بالإضافة إلى أراضي سيناء المصرية، والجولان السورية، طرأ تحول على مواقف معظم الأحزاب الدينية بكافة تصنيفاتها، ونظروا إلى هذه الحرب على أنها معجزة وإشارة ربانية، بل اعتبرها البعض «بداية الخلاص».
ولفهم هذا الموقف يجب التمييز بين مفهومي «دولة إسرائيل» و«أرض إسرائيل»؛ لأنه حتى عام 1967 قامت «دولة إسرائيل» على جزء من «أرض إسرائيل»، وتحديدًا الجزء الذي لا يحتل مكانة دينية مهمة في التقاليد اليهودية، لكن بعد حرب 1967، زال الفارق عمليًا بين مفهومي الدولة والأرض، وأصبح هناك تطابق بين «أرض إسرائيل» (كمفهوم ديني) و«دولة إسرائيل» (كمفهوم سياسي علماني).
وانعكس ذلك الموقف في آراء الحاخام تسفي يهودا كوك، الأب الروحي لحركة «جوش إيمونيم»، وهي واحدة من أهم الحركات الدينية في إسرائيل، حين قال:
«الصهيونية هي استجابة لنداء الرب، بل هي الإرادة الإلهية نفسها، وقد تجسدت على شكل حركة علمانية، والعلمانيون الصهيونيون ينفذون إرادة الله من دون أن يدركوا ذلك في وعيهم الذاتي. إن الصهيونيين وإن أرادوا مشروعًا علمانيًا قوميًا، فإنهم أدوات في يد الله يصنع بهم الخلاص لشعبه. إن الشعب اليهودي لا ينتظر الخلاص وإنما ينفذ هذه العملية في دولته، وعندما نسأل إذا كانت الأمة تمر بمرحلة الخلاص فإن الإجابة لا تحتمل تفسيرين: الشعب اليهودي موجود الآن في خضم عملية الخلاص».
وقد اعتبر الأكاديمي الإسرائيلي آفي شيلون أن نتائج حرب 1967 كانت العامل الأهم في تحفيز عملية العودة إلى الدين وتسريعها في إسرائيل ذلك لأن احتلال المناطق التي اعُتبرت جزءًا من أرض إسرائيل التوراتية، أثار لدى قطاعات معينة من الجمهور اليهودي، عاطفة ومشاعر دينية متجددة.
وهناك مرحلة أخرى كانت حاسمة في صعود التيار الديني في إسرائيل، وهي صعود حزب الليكود إلى سدة الحكم عام 1977، بعد عقود من هيمنة حزب العمل الذي فرض سيطرة شبه مطلقة على الحياة السياسية في إسرائيل منذ عام 1948.
ويمكن القول إن فكر «مناحم بيجن» (أول رئيس وزراء إسرائيلي من حزب الليكود 1977) وتراثه والإرث السياسي لحكوماته (1977-1983)، هي أمور ساهمت بشكل كبير في توطيد الصلة بين الدين والقومية والدولة، فهو من أبرم معاهدة السلام مع مصر عام 1979، وقصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، وشن حرب لبنان الأولى عام 1982.
وفي عهد بيجن، انخرطت الأحزاب الدينية المتطرفة للمرة الأولى في الائتلافات الحكومي بعد غيابها منذ الخمسينيات؛ كذلك أوجد بيجن سابقة حين أسند وزارة التعليم لحزب المتدينين الوطنيين (حزب المفدال)، وهو الأمر الذي استمر لعقود بعد ذلك، ومنح المتدينين القدرة على توجيه نظام التعليم الإسرائيلي بتعاليمهم وأفكارهم، وكذلك عارض بيجن بث البرامج التلفزيونية خلال يوم السبت، والذي تخصصه الديانة اليهودية للراحة والعبادة.
كما دشّن بيجن نمط سلوك جديد، إذ كان أول رئيس حكومة يذهب بعد انتخابه للصلاة في «حائط البراق» (والذي يُطلق عليه اليهود حائط المبكي)، ومنذ ذلك الحين لم يجرؤ أي رئيس حكومة على خرق هذه العادة. كذلك ظهر بيجن وهو يُقبِّل أيدي كبار الحاخامات، ناهيك عن تطعيم خطاباته بشكلٍ دائم بمواد من المصادر الدينية.
الصدام الطويل.. انطلاق الصراع الديني العلماني
هل حدث صعود موازٍ للدين داخل المجتمع إلى جانب الصعود الرسمي للدين على مستوى الدولة وأيديولوجيتها الرئيسة (الصهيونية)؟ أو بمعنى آخر: هل كان صعود الدين في الدولة مدعوم بقاعدة اجتماعية واسعة؟
ليس هناك حوادث تاريخية كبرى أو مفصلية قد تمنحنا إجابة واضحة على هذا التساؤل، ولكن ذهبت العديد من التحليلات إلى أن صعود الدين حدث بمعزل عن المجتمع، إن لم يكن دون إرادته، وبوصاية من الدولة، إذ استخدمت الدولة إيديولوجيا «الصهيونية الدينية» أداةً لحشد مجتمعها العلماني بشكل مستمر، تحت ذرائع «التهديدات الوجودية لإسرائيل».
ولإدراك أبعاد المشهد، يمكن القول إن اليهود في إسرائيل يجري تقسيمهم إلى أربع فئات، حاول «مركز بيو للأبحاث» – عام 2015 – رصد حجمهم داخل الأراضي المحتلة:
اليهود العلمانيون (يشغلون نسبة 40% من السكان).
اليهود التقليديون (يشغلون نسبة 23% من السكان).
اليهود المتدينون (يشغلون نسبة 10% من السكان).
اليهود الأرثوذكس المتشددون (الحريديم) (يشغلون نسبة 8% من السكان).
ونتيجة ميل الحريديم والمتدينين إلى الالتزام الصارم بالقانون والعادات اليهودية الدينية، وسعيهم إلى فرض هذه القوانين على سائر عناصر المجتمع الإسرائيلي، وجعْل قواعد الدين اليهودي القانون الرسمي للدولة، كثيرًا ما تحدث توترات سياسية واجتماعية بين المتدينين والعلمانيين، ويشمل ذلك سعي المتدينين إلى إيقاف الأنشطة العامة يوم السبت، وإغلاق السينمات، والفصل القسري بين الجنسين في وسائل النقل العامة.
ويمكن رصد تعاظم قوة المتدينين في الدولة منذ مرحلة بيجن، في فترة الثمانينات. ففي الشارع بدأ المتدينون المتشددون في استخدام العنف لفرض معتقداتهم على الجميع، وفي النصف الثاني من التسعينات كان المتدينون قد بلغوا من القوة ما يُمكّنهم من شن ما يُشبه «حرب شوارع»، تمثلت في الإغلاقات المتكررة للشوارع (ولاسيما شارع بار-إيلان) أيام السبت والأعياد الدينية، وأكثر من ذلك، فإنهم حاولوا ممارسة نفوذهم وفرض تعاليمهم على مدينة تل أبيب «العلمانية».
المتدينون في المؤسسة العسكرية.. تحت لواء «جيش الله»
من المفارقات أن الخدمة العسكرية والانخراط في الجيش كان أحد مجالات النزاع بين المتدينين والعلمانيين مع قيام إسرائيل عام 1948؛ ففي ظل فرض الخدمة العسكرية على كل مواطن يهودي يبلغ 18 عامًا من عمره، أعرض المتدينون عن الخدمة العسكرية مُتحجِّجين بالرغبة في التفرغ للدراسة والتعبّد.
وجري التوصل إلى اتفاق حينذاك بين القيادات الدينية ورئيس الوزراء ديفيد بن جوريون، يجري بموجبه إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الجيش. ولكن الاتفاق لم يُنهِ حالة الشد والجذب بين الطرفين، خاصةً مع تزايد أعداد المتدينين العازفين عن الخدمة العسكرية بذريعة التفرغ لدراسة التوراة.
وعقب حرب 1967 طرأ تحول فكري في أوساط الصهيونية المتدينة؛ إذ تغيرت نظرة المتدينين للجيش بسبب استيلاء إسرائيل على حائط البُراق، وغيره من الأماكن المقدسة الواردة في التوراة، فجميع الأماكن الدينية المذكورة في التوراة تقع ضمن الأراضي التي احتُلت عام 1967.
حينئذ بدأ التيار المتدين يُطلق على الجيش اسم «جيش الله»؛ مما أسهم في تعزيز التوجه نحو خدمة المتدينين في الجيش، لتشهد سبعينات القرن العشرين زيادة مُطّردة في أعداد الضباط المتدينين، ناهيك عن تأسيس أكاديميات عسكرية مُخصصة فقط للمتدينين.
وزادت أعداد المتدينين داخل الجيش وصولًا إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، والذي شهد طفرة كبيرة، بعد اندلاع انتفاضة الأقصى 2000، وزيادة مخاوف المستوطنين المتدينين على أمنهم الشخصي، بجانب أن دعاية الحاخامات التي صوّرت الانتفاضة على أنها حرب دينية هدفها تصفية الكيان اليهودي وهُويته.
ولإدراك حجم التطور الذي طرأ على دور المتدينين في الجيش، نجد أنه حتى مطلع الثمانينات، لم يشغل المتدينون سوى 2% فقط من الضباط في الوحدات القتالية، ولكن وصلت هذه النسبة عام 2013 إلى حوالي 35-40% من الضباط في ألوية الصفوة والوحدات القتالية.
كذلك تشير عدد من التقديرات الإسرائيلية حتى عام 2010، أن ما بين 40-50% من الضباط الجُدد على الجبهة في الوحدات القتالية هم من اليهود المتدينين، على الرغم من أنهم يمثلون أقل من ربع العدد الإجمالي العام للسكان.
وتشير عشرات الشهادات لجنود نظاميين واحتياط، وقادة كبار في جهاز الأمن، وباحثين أكاديميين، أن مؤسسة الجيش في إسرائيل تعيش صراعًا يوميًا مع القوة الدينية الصاعدة المتغلغلة داخلها، وكانت حرب غزة عام 2014 فرصة إضافية لكشف الطريقة التي تغيّر بها الجيش في العقدين الأخيرين، وتحوله لمنظمة تتصاعد وتتزايد فيها المبادئ والتوجهات الدينية؛ مثل أداء صلوات الجماعة قبل الخروج للمعركة، وإقصاء النساء، وتعاظم قوة الحاخامية على العسكريين.
وتصل قوة الحاخامات في أن تعاليمهم للجنود تتجاوز أهميتها تعليمات القادة العسكريين المباشرين أحيانًا، وفي دراسة أعدها قسم العلوم الاجتماعية في جامعة «بار إيلان» الإسرائيلية، تبين أن أكثر من 90% من المتدينين يعتقدون أنه في حال تعارض قوانين الدولة وتعليمات الحكومة مع الفتاوى الصادرة عن الحاخامات، فإن عليهم أن يتجاهلوا قوانين الدولة وتعليمات الحكومة، ويعملوا وفق ما تنص عليه فتاوى الحاخامات. ويقول الجنرال، يسرائيل فايس، كبير حاخامات الجيش:
«أفضل خلع بزتي العسكرية على تنفيذ أي أمر يصدر عن قيادة الجيش ويتعارض مع تعليمات الحاخام أبراهام شابيرا (وهو ثاني أهم مرجعية روحية للتيار الديني الصهيوني)».
وبناءً على ما سبق، يبدو جليًا أن ظاهرة تدين الجيش الإسرائيلي، التي بدأت من السبعينات، وتصاعدت في الثمانينات والتسعينات، حتى وصلت لذروتها في العقد الأول من الألفية الثالثة، لم تكن نتيجة تطور طبيعي مرّ به المجتمع الإسرائيلي خلال الفترة ذاتها، ولكنه كان تطورًا مُصطنعًا، بدأه قادة التيارات الدينية، حينما قرروا تغيير أفكارهم بشأن الخدمة في الجيش وراحوا يحثون شبابهم على الانخراط في الصفوف العسكرية، سواء من منطلقات دينية روحانية بحتة، أو بحثًا عن مكانة سياسية أرفع.
وفي مرحلة لاحقة، صار شباب المتدينين راغبين بشكل أكبر في خوض التجربة العسكرية، نتيجة رغبتهم في تحقيق صعود اجتماعي سريع، إلى جانب أن الخدمة العسكرية كانت تخدم فكرتهم حول الدفاع عن معتقداتهم السياسية «المتطرفة»، سواء ضد الفلسطينيين أو العلمانية داخل إسرائيل.
سؤال الهوية.. يمين يتغذى على الأزمات
يمكن القول إن نمو القوة السياسية للمتدينين في إسرائيل ترافق مع زيادة اندماجهم في الدولة والنظام السياسي، مما أدى إلى تغيير تصورهم لدورهم داخل الدولة؛ فهم ينظرون إلى أنفسهم بشكل متزايد على أنهم أوصياء على الهوية اليهودية للدولة ومواطنيها اليهود.
ومنذ عام 2010 نمت إرادة الحريديم لتشكيل الجوانب الدينية اليهودية لهوية الدولة بشكل ملحوظ، لذا يقول يعقوب آشير، الحاخام وعضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب «يهدوت هتوراة»، عام 2017:
«نحن هنا لحماية الطابع اليهودي للدولة. لم نعد نركز فقط على أنفسنا، كل شيء يهمنا الآن. لا يمكننا الانسحاب من عملية سن القوانين والقرارات الحكومية التي قد تضر في نهاية المطاف بدولة إسرائيل كدولة يهودية».
وفي مايو (أيار) 2020 صرّح الحاخام، موشيه أبو بول:
»ما يهمنا حقًا (أي الحريديم) هو الطابع اليهودي للدولة، التي لا ينبغي أن تكون دولة يهودية فحسب، بل دولة يهودية وفقًا لرؤيتنا للعالم».
والمقصود هنا بـ«الطابع اليهودي للدولة» ذلك النطاق الذي يتراوح من تفاصيل السلوك الشخصي للأفراد إلى السمات الأساسية للدستور.
إجمالًا، وبغض النظر عن طبيعة الهُوية المُتخيَلة للأيديولوجية الصهيونية (دينية أم علمانية)، فإنها اعتمدت بشكل جوهري على الدين والأساطير الدينية محركًا أساسيًا لها، واستندت إليه مسوغًا مركزيًا في كافة ادعاءاتها التي أسسّت عليها دولتها، بل واستخدمت الدين في خطاباتها الدعائية لحشد يهود العالم وكسب تأييدهم بمختلف صور هذا التأييد، سواء بالهجرة إلى أرض فلسطين أو دعم الدولة الوليدة سياسيًا واقتصاديًا.
ونتيجة مركزية دور الدين في الأيديولوجيا الصهيونية، فإنه احتل المركزية ذاتها في الدولة الإسرائيلية (والتي تعتبر التجسيد السياسي للصهيونية)، ودخلت الصهيونية (والدولة الإسرائيلية بالتبعية) في مسار تدين متصاعد، لاسيما بعد حرب عام 1967، ووصول مناحيم بيجن إلى سدة الحكم عام 1977.
وبعيدًا عن رواج الخطاب الديني الصهيوني في أوقات الأزمات داخل الشارع الإسرائيلي، فإن هذا الخطاب المتطرف لم ينمُ داخل المجتمع الإسرائيلي بشكل طبيعي، وإنما فُرض عليه من أعلى، وكذلك فإن أدوات السلطة في زرع الدين سياسيًا (داخل الكنيست وتشكيل الحكومة) وعسكريًا (داخل صفوف الجيش)، والتي أنتجت تطورًا لمكانة الدين على الصعيدين السياسي والعسكري، لا تعكس تطورًا مماثلًا داخل صفوف المجتمع، وهو الأمر الذي تكشفه مظاهر الصراع الديني العلماني داخل المجتمع، وعمليات زج الدين والمتدينين داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وفي المحصلة يمكن القول إن السلطة السياسية لم تضع إجابة واضحة لسؤال الهوية (دينية أم علمانية)، ولكن ممارساتها على أرض الواقع، تعكس حالة من اليقين أن المكوِّن الديني في الصهيونية هو القادر على إدارة المشهد السياسي والعسكري، خاصة في أوقات ذروة الصراعات الوجودية، والتي تُروِّج لها السلطة مع كل تحدٍ عسكري أو سياسي جديد تخوضه على مختلف الأصعدة.
محمد محمود السيد – ساسة بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.