اجترحت “اسرائيل” كل أصناف الجنايات في فلسطين المحتلة منذ قيامها المشؤوم عام 1948. واليوم، تعيد جمع آثامها كلّها على امتداد عشرات السنين، لتكون غزّة مسرح جرائمها. احتلالٌ للأرض، تسلّطٌ على الأملاك والمنازل، قتلٌ للمدنيين، استخدامٌ للأسلحة المحرّمة دوليًا، استهدافٌ للاسعافات والطواقم الطبية، اقتحامٌ للمستشفيات واستخدامها مراكز عسكرية، حصارٌ وقطع للدواء والماء والطعام، اغتيالٌ للصحافيين.. باختصار، هي جنايات عُصارة الشرّ في هذا العالم، “اسرائيل”.
أكثر من 18 ألف شهيد، بينهم آلاف الأطفال والنساء، هم ضحايا الحرب الاسرائيلية المستمرة على غزّة. ولأن الرقم بارتفاع مستمرّ نتيجة همجية العدو، أنشأت “القوس” على موقعها الالكتروني صفحة خاصة لتتبّع وتوثيق هذه الأرقام تحت عنوان: “روزنامة الجرائم الاسرائيلية”.
- استمرار الجرائم يعكس عجزًا هائلًا لكل المنظمات والهيئات الدولية
بالحديث عن “اسرائيل” وجرائمها، لا بد من عودة الى التاريخ وحقوق الانسان، ومفارقة هامّة لفت إليها المتخصص في العلوم الجنائية د. عمر نشابة. خمسة وسبعون عامًا مرّت على نشأة الكيان، في وقت “لا يحتفي” العالم اليوم بالعيد السنوي الـ75 للاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي أطلقته الأمم المتحدة عام 1948، ونحن في أجوائه. يقول نشابة في حديث لموقع “العهد” الاخباري: “كان يفترض أن تحصل هذا العام احتفالات كبرى بيوبيل معيّن للاعلان العالمي لحقوق الانسان، لكنها لم تحصل، فما الذي سيُحتفى به؟ بالقتل المستمر والممنهج لآلاف المدنيين والأطفال في غزة؟”، مضيفًا “إذا أردنا أن نتخيل أبشع وأسوأ الجرائم، لا أعتقد أننا نستطيع أن نتفوق على هذه الأعمال الجنائية الاسرائيلية اليومية المستمرة. 50 ألف طن من المتفجرات تُلقَى على مساحة ضيّقة محاصرة لا تتجاوز 360 كلم مربع، فيها أكثر من مليوني انسان محاصرين يتم قصفهم بأحدث الأسلحة. أيّ خيال يمكن أن يتصوّر جريمة أبشع من هذه وبهذا القدر العالي من الجهد؟”.
كل المناشدات والمظاهرات والاعتراضات الشعبية في مختلف أنحاء العالم لم تقف حائلًا أمام استمرار الابادة الجماعية في غزة. بحسب نشابة، فإن “استمرار هذه الجرائم يعكس عجزًا هائلًا لكل المنظمات والهيئات الدولية التي تتحدث عن حقوق الانسان والكرامات الانسانية. هذا انهيارٌ لكل المنظومة الحقوقية. لقد سقطت بدعة القانون الدولي الانساني، وكان لنا غلاف في “القوس” تحدثنا فيه بالتفصيل عن هذا السقوط المدوّي لكل المنظومة الحقوقية التي كان من المفترض أن تخلق حدًا أدنى من الضمانات لحماية الأطفال والمستشفيات ومستودعات والغذاء، وأبسط ما يحتاجه الانسان ليبقى على قيد الحياة”.
- المحاسبة تكون بعد انتهاء الجريمة
يطالب كثيرون اليوم بمحاسبة “اسرائيل”، لكن هذه المطالبة لا تصح وفق نشابة “فالمحاسبة على الجرائم تحصل بعد انتهاء الفعل، بينما المطلوب الآن وقف “اسرائيل” عن جرائمها، فالمحكمة تنعقد بعد حصول الجريمة، كيف يمكن أن يجري أي مسار للمساءلة بينما الجرم يستمر ويتعاظم يومًا بعد يوم؟”.
انتهك العدو الاسرائيلي كل المعايير وتجاوز كل الاعتبارات بجرائمه المضاعفة. يقول نشابة: “العدو الاسرائيلي استهدف الأشخاص والجهات التي من المفترض أن تكون محميّة بحسب القانون الدولي مثل الصليب الأحمر والهلال الأحمر، سيارات الاسعاف والمستشفيات والطواقم الطبية والصحافيين وشارة الصحافة، وأهم شارة وهي شارة الأمم المتحدة. لقد استهدفوا أكبر منظمة عالمية لديها منشآت ومدارس ومكاتب في غزة.، استهدفوا مكاتبها وقتلوا موظفيها، وكذلك الناس الذين ظنّوا أنهم يمكن أن يحتموا بعلم الأمم المتحدة، فكان فخًّا لهم تمامًا كما كان فخًا لأطفالنا في قانا. واليوم تُستَهدف مدارس الأنروا التي ترفع علم الأمم المتحدة الأزرق في غزة دون رفع الصوت بوجه العدو الاسرائيلي في مقرات الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف. لم تكن هناك ردة فعل بمستوى الدماء التي أريقت”.
- على مجلس الأمن إصدار قرار لفرض وقف دائم لاطلاق النار في غزة
من هي الجهة الحقوقية المعنية بوقف الابادة في غزة؟ يجيب د. نشابة: “هذه الحالة هي من اختصاص مجلس الأمن الدولي بموجب ميثاق الأمم المتحدة الذي يقول إن وظيفة مجلس الأمن هي فرض الأمن والاستقرار العالميين، وبالتالي، يحق لمجلس الأمن التدخل وفرض الحل، ويمكنه أن يصدر قرارًا ملزمًا قانونيًا بذلك، كما يمكنه التحرك عسكريًا لتطبيق أي قرار صادر عنه”، معتبرًا أنه “كان يجب أن يصدر قرارًا لفرض وقف دائم لاطلاق النار في غزة”. - المنظمات الدولية في غزّة لم توقف القتل
ماذا عن دور المنظمات الدولية في غزّة؟ بحسب د. نشابة فإن “الناس في غزة عوّلت على هذه المنظمات وكان من الطبيعي القول إنها لم تكن على قدر المسؤولية، لأننا قتلنا في ظل هذه المؤسسات.. أتمنى أن تتفهم هذه المؤسسات الانتقادات الموجهة اليها، فكيف يمكنني أن أقبل أن هناك مكتبًا للأمم المتحدة في غزة أحتمي فيه مع أطفالي وهو يتعرض للقصف ولا يقوم أحد من هذه الأمم المتحدة لوقف هذا العدوان عليّ؟ طبعًا ستتعرض لانتقادات كبيرة ويجب أن نقوم بمراجعة شاملة لعمل هذه المؤسسات في كل العدوان لنتمكن من اجراء تقييم دقيق، لكن أعتقد أن انتقادها قائم ومبرر لأن الدور الذي لعبته لم يكن دورًا فعّالًا بحيث إنه لم يوقف القتل. نريد مندوبين للصليب الأحمر الدولي في مراكز اللجوء والمستشفيات، ومدارس الانروا والمخابز ومستودعات الطعام وهذه كلها محمية بحسب القانون الدولي”، متسائلًا “أين الهيئة الدولية التي يجب أن تكون في غزة؟”.
ماذا عن دور المحكمة الجنائية الدولية؟
انفصام بيّن تظهره المحكمة الجنائية الدولية في التعامل مع القضية الفلسطينية مقارنة مع غيرها. يستذكر نشابة “نيل فلسطين عضويتها في المحكمة الجنائية الدولية، ما أتاح لها قانونيًا القدرة على التقدم بشكوى ضد “اسرائيل” عام 2015. مارست المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في حينها “فاتو بنسودا” المماطلة المقصودة، حتى انتهاء ولايتها، وأعيد اطلاق التحقيق مرة جديدة عام 2021 ولم يحصل شيء الى أن جاء المدعي العام البريطاني الجديد كريم خان. وللمفارقة، فإن المحكمة عينها فتحت عام 2022 تحقيقًا حول الأحداث في أوكرانيا، وبسرعة، تم اصدار مذكرة توقيف بحق رئيس دولة كبرى هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”.
نشابة الذي كان كتب مقالًا طويلًا في العدد الأخير من “القوس” حول أداء خان المنحاز الى الكيان، استغرب في مقابلته مع “العهد” قول “كريم خان من معبر رفح إنه لم يسمح له بالدخول الى غزة دون أن يوضح من هو الذي منعه من الدخول. خان أطلق تصريحًا قال فيه إن منع ادخال الأدوية والطعام والشراب الى غزة قد يشكل جريمة حرب، متحدّثًا في ذلك عن مجّرد احتمال، علمًا أنه مدّعٍ عام دولي ووليس باحثًا في مجال حقوق الانسان، والمدعي العام عادة يوجه اصبع الاتهام ولا يتحدث عن اتهامات”.
يتابع نشابة: “بعد فترة زار خان فلسطين المحتلة، وهناك لم يتحدث عن احتمالات كما فعل عند معبر رفح، بل أدان حركة حماس، بناء على بدع وأخبار لم يحقق فيها حول قطع الرؤوس وهي شائعات صهيونية لا دلائل حولها. وبذلك هو طعن بنفسه ومن المفترض أن يتنحى بسبب الكلام الذي قاله لصحيفة “هآرتس””.
مقاربة جذرية يقدّمها نشابة في ختام حديثه مع “العهد” لواقع الصراع مع الكيان: “هذا الكيان هو كيان جنائي وظيفته الاعتداء على الناس وفرض الابارتهايد (نظام الفصل العنصري) والتفوق العرقي لفئة من الناس على أساس أنهم ينتمون الى ديانة محددة. لا يمكن قيام أي كيان في هذا العالم مبني على الاعتداء على الآخرين، وهذا الكيان مبني على الاعتداء على الآخرين، ومعاقبة الكيان عبر القضاء هي اعتراف به، فلا أعتقد أنه قابل للاصلاح لأن العقاب هو لاصلاح السلوك، بينما هو كيان غير قابل للاصلاح، لذلك، أنا لست مع محاسبته قضائيًا بل مع اعادة التفكير بكل وجوده ككيان غاصب. النداء اليوم هو من النهر الى البحر.. فلسطين ستكون حرّة، وهذا الشعار الذي رفعناه ونرفعه هو الذي يعترض عليه الاسرائيلي، نعم هو الغاء لوجود الكيان الذي يجب استبداله بدولة فلسطينية تحترم كرامات الناس، وإلغاء الابارتهايد والاجرام”.
ميساء مقدم – موقع العهد
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.