حركة الاحتجاج الإسرائيلي على التشريعات القضائية تفاقم الانقسام والفوضى السياسية

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

للأسبوع الرابع والعشرين على التوالي تجددت التظاهرات في تل أبيب وعدد كبير من المدن الإسرائيلية ضد التشريعات القضائية التي قدمها وزير العدل الإسرائيلي ياريف ليفين في مطلع هذا العام. في هذه الأثناء يزداد الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي بين الائتلاف والمعارضة وبين أحزاب اليمين القومي المسياني وأحزاب الوسط واليسار، وبين العلمانيين والمتدينين، ويشتد الصراع على الهوية وعلى نمط الحياة في إسرائيل، بينما تواصل حكومة اليمين القومي مساعيها لتحقيق أهدافها وخدمة مشروعها الاستيطاني التوسعي وخطة الضم الزاحف على الضفة الغربية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الاحتجاجات بدأت في أوائل سنة 2023 رفضاَ لخطة إصلاحية واسعة النطاق للمنظومة القضائية في إسرائيل تحد من سلطة المحكمة العليا ومن سلطة المستشارين القانونيين للحكومة في إسرائيل، وتعطي الائتلاف الحكومي الأغلبية في اللجنة المكلفة تعيين القضاة وفي تعيين رئيس محكمة العدل العليا، الأمر الذي رأى فيه جزء واسع من الجمهور الإسرائيلي “انقلاباً” على الدستور وخطوة تقضي على استقلالية المنظومة القضائية وتجعلها ملحقة بالطبقة السياسية الحاكمة، ومحاولة من أحزاب اليمين المتطرف الحاكم لإحكام قبضته على مؤسسات الدولة وتحويل إسرائيل من دولة ديمقراطية إلى دولة ديكتاتورية.

وسرعان ما تمددت الاحتجاجات لتشمل قطاعات مهمة وأساسية في إسرائيل مثل قطاع الهاي-تك، والشركات الكبرى التي تخوفت من أن يؤدي تغيير التشريعات القضائية إلى فرض قيود على الاقتصاد تؤثر سلباً في جذب الاستثمارات إلى البلد. كما وصلت أصداء هذه الاحتجاجات إلى الجيش الإسرائيلي، ولا سيما جنود الاحتياط الذين تخوفوا من أن يؤدي الحد من صلاحيات محكمة العدل العليا في إسرائيل، إلى ملاحقتهم ومحاكمتهم من جانب المحاكم الدولية، وخصوصاً أن محكمة العدل العليا توفر غطاء قانونياً لنشاطات الجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية وتحول من خلال دورها دون تدخل المحاكم الدولية في ملاحقة الانتهاكات التي يقوم بها هذا الجيش ضد الفلسطينيين. وشكلت العريضة التي وقعها الطيارون والمظليون في الاحتياط، والتي دعوا فيها إلى رفض الخدمة، ذروة الاحتجاجات ودقت ناقوس الخطر داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ودفعت وزير الدفاع يوآف غالانت إلى الدعوة إلى تعليق التشريعات والتحذير من خطر تمدد الاحتجاج إلى الجيش، الأمر الذي أثار حفيظة نتنياهو فاتخذ قراراً بإقالة غالانت من منصبه، مما فجّر المزيد من التظاهرات والاحتجاجات. أمام هذا التأزيم والشرذمة الداخلية غير المسبوقة دعا رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ إلى إجراء محادثات بين المحتجين والمعارضة والحكومة للوصول إلى حل، فعُقدت الجلسة الأولى في 29/3/2023 وأسفرت عن اتفاق على عدد من الأمور الخلافية من بينها تعليق التشريعات الحساسة والموافقة على انتخاب مندوب من المعارضة في لجنة اختيار القضاة.

لكن خلال تصويت أعضاء الكنيست الإسرائيلي يوم الثلاثاء في 13 حزيران/يونيو لاختيار مندوبَين واحد عن المعارضة وآخر عن الائتلاف في اللجنة المكلفة اختيار القضاة، برز حدثان مهمان؛ الأول، تصويت أربعة أعضاء من الائتلاف الحكومي، وعلى الأرجح من حزب الليكود، لمصلحة مندوبة المعارضة في اللجنة كارين إلهرار التي تنتمي إلى حزب يوجد مستقبل؛ الثاني، تمرد عضو الكنيست من الليكود تالي غوتليب على طلب زعيمها نتنياهو بعدم الترشح للمنصب وإصرارها على ذلك وخسارتها في التصويت، الأمر الذي أدى إلى تأجيل انتخاب ممثل عن الائتلاف في اللجنة المذكورة لمدة شهر. هذان الأمران أثارا الشكوك في قدرة بنيامين نتنياهو على السيطرة على حزبه وأعضاء كتلته، وطرحا تساؤلات بشأن وضع حزب الليكود في حد ذاته: فهل ما جرى في الكنيست هو مؤشر على تراجع مكانة نتنياهو وضعفها وبداية تفكك حزب الليكود وانقسامه؟

نتنياهو يحاول استغلال عملية “درع وسهم” لإعادة اللحمة الداخلية
بذل بنيامين نتيناهو جهده للالتفاف على حركة الاحتجاج والتحريض عليها وصولاً إلى تشجيع أنصاره على الخروج في تظاهرات مضادة مؤيدة للتشريعات القضائية من دون أن يفلح في قمع الاحتجاجات. واستغل التصعيد الأمني في أيار/مايو خلال شهر رمضان، والصواريخ التي أُطلقت من الجنوب اللبناني على إسرائيل في 6/4/2023 رداً على الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حرم المسجد الأقصى، وإقدام حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة على إطلاق صواريخ على إسرائيل الشهر الماضي رداً على وفاة أحد عناصرها المعتقل المضرب عن الطعام خضر عدنان في مطلع أيار/مايو، كي يتهم حركة الاحتجاج الداخلي بالتسبب في تآكل الردع الإسرائيلي وتشجيع خصوم إسرائيل على تحديها واستفزازها. ودعا بعد إطلاقه حملة “درع وسهم” ضد الجهاد الإسلامي في غزة إلى رصّ الصفوف والوحدة الداخلية. وفعلاً، توقفت التظاهرات خلال أيام العملية وتراجع زخمها لاحقاً، ولا سيما في ظل استمرار المحادثات التي كانت تجري في ديوان رئيس الدولة هرتسوغ لإيجاد تسوية.

لكن الزخم عاد مؤخراً إلى حركة الاحتجاج، في ضوء الفوضى السياسية التي خلّفها تأجيل انتخاب مندوب عن الائتلاف في اللجنة المكلفة اختيار القضاة، وسعي الأحزاب الدينية إلى إقرار قانون تجنيد يعفي طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، وأيضاَ في ظل دعوة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى تشريع قانون يسمح بتطبيق الاعتقال الإداري داخل إسرائيل بحجة محاربة تفشي الجريمة في المجتمع العربي. ومعنى ذلك توقيف أي مواطن إسرائيلي بحجة أنه يشكل خطراً على أمن الدولة من دون محاكمة أو توجيه كتاب اتهام ضده ومن دون معرفة سبب توقيفه لمدة 6 أشهر قابلة للتمديد. ومن المعروف أن الاعتقال الإداري مطبق ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ سنوات طويلة ويبلغ عدد المعتقلين الفلسطينيين الإداريين حالياً في السجون الإسرائيلية قرابة 971 معتقلاً.

وبحجة محاربة الجريمة في المجتمع العربي يطالب وزير الأمن القومي زعيم حزب قوة يهودية الكاهاني النزعة إيتمار بن غفير بمنحه صلاحيات توقيف أي شخص ولو بالاستناد إلى وشاية من دون دليل حسي لمدة طويلة ومن دون محاكمة. وقد أثار هذا الأمر حفيظة الإسرائيليين من جديد وأجج التظاهرات. وخلال التظاهرة الأخيرة في ساحة كابلان في تل أبيب التي تحولت إلى ساحة مركزية للاحتجاج، قالت وزيرة العدل السابقة تسيبي ليفني أمام المتظاهرين: “هم يدفعون قدماً بقرارات وقوانين تقضي على المساواة، وتعزز تفوق المتدينين على العلمانيين، وتفوق اليهود على العرب، وتفوق الفاسدين على القضاة، كما أن قانون التهرب من الخدمة في الجيش الإسرائيلي ينتظر دوره، وغداً يريدون إقرار قانون بن غفير، فتى الهضاب في الحكومة، الذي يستطيع أن يأمر بالاعتقال الإداري لأي مواطن إسرائيلي – وهذا لن يحدث”. (هآرتس” 18/6/2023)

تداعيات حركة الاحتجاج على إسرائيل
أدى تواصل الاحتجاجات وازدياد حدة الاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي، وتفاقم الخلافات داخل الأحزاب الإسرائيلية إلى بروز عدد من التداعيات نذكر أهمها:

مطالبة العلمانيين بحكم ذاتي والانفصال عن المتدينين: من أهم تداعيات حركة الاحتجاج الأخيرة تزايد حدة الشرخ بين الجمهور العلماني في إسرائيل وجمهور المتدينين وصولاً إلى بروز أصوات تدعو إلى الفصل بين المتدينين وبين العلمانيين، وإقامة حكم ذاتي وسلطات محلية منفصلة. وقد ظهرت أصداء هذا النقاش منذ فترة على صفحات جريدة “هآرتس” التي نشرت عدداً من المقالات تناقش هذه الفكرة، وكان آخرها مقال من جزأين للكاتب رام فرومان بعنوان: “دليل العلمانيين إلى الانفصال” (الجزء الأول نشر في 5/6/ 2023، والثاني في 17/6/ 2023)، رأى فيه الكاتب أن من يدير الحكومة الحالية جمهوران: الجمهور المتدين الحردلي المكون من متدينين قوميين واستيطانيين؛ وجمهور الحريديم الذي يريد دولة دينية. واعتبر أن إضعاف الديمقراطية ومنظومة القضاء هما وسيلتهما لتحقيق هذه الأهداف. ويخلص من ذلك إلى القول أن: “الحل على المدى البعيد هو الانشقاق والانفصال،” وإنشاء كانتون للعلمانيين وآخر للمتدينين.

الخلافات داخل حزب الليكود: أظهر تصويت أربعة من حزب الليكود في الكنسيت لمصلحة مندوبة المعارضة أكثر فأكثر الخلاف بين معسكرين في الليكود: معسكر الإصلاحيين أو “اليمين الحقيقي” بقيادة وزير العدل ليفين؛ ومعسكر الليبراليين أو بحسب وصف الصحافية في “يديعوت أحرونوت” (15/6/ 2023) نافية دروري “اليساريين” الذين يؤمنون بفكر جابوتنسكي الإصلاحي، ويعارضون خنوع الحزب لسيطرة اليمين القومي المتطرف. كل ذلك دفع المعلق السياسي تسفي هرئيل في “هآرتس” (16/6/2023) إلى التساؤل: “هل يقترب الليكود من نهايته؟”.

تصاعد الأصوات التي تنتقد تجاهل الاحتجاجات مشكلة الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وسياسة الفصل العنصري: ظهرت في الآونة الأخيرة أصوات تنتقد تجاهل المحتجين والمدافعين عن الديمقراطية حقيقة أن دولتهم هي دولة احتلال وحكومتهم تشجع على الضم، وأنه حتى المنظومة القضائية التي يدافعون عن استقلاليتها هي التي تحمي سياسة الأبارتهايد التي تمارسها إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلة (يمكن في هذا الإطار مراجعة مقالة جدعون ليفي بعنوان: “من أجل ماذا تناضلون؟ من أجل منظومة قضائية تخدم الأبارتهايد”، في عدد مقتطفات من الصحف العبرية 15/6/2023).
توتر العلاقات مع إدارة الرئيس جو بايدن: انتقدت الإدارة الأميركية أكثر من مرة الإصلاحات القضائية ورأت فيها خطراً على قيم الديمقراطية والعدالة والمساواة المشتركة بين البلدين، وتهديداً بتغيير صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية.

وبينما يغرق الجمهور الإسرائيلي في انقساماته الداخلية، تتابع أحزاب اليمين القومي بدأب خطتها لضم المنطقة “ج” إلى إسرائيل، وشرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية وتكثيف البناء في المستوطنات وخلق حقائق على الأرض تقضي على مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة وتشرع الأبواب أمام الدولة الثنائية القومية ونظام الأبارتهايد.

رندة حيدر – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد