حكاية مضاد الدروع.. هل يمكن هزيمة “التروفي”؟

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

“إن نجحت الدبابات، فإنَّ النصر يتبعها” – هانز غودريان، من أهم منظّري مفهوم الحرب المتحرّكة وجنرال ألماني من الحرب العالمية الثانية.

مقدمة
شكّلت الحرب الطويلة بين الدبابة ومضاداتها جزءاً لا يستهان به من كليّة الصراع الحربي البشري الحديث. شهد هذا المضمار سباقاً مستمراً للتسلّح بين الدرع والرمح منذ أن داست جنازير أول دبابة بريطانية “مارك 1” خنادق أرض معركة السوم في العام 1916.

سارع الألمان وقتها إلى استكشاف التكتيكات أو الأسلحة التي يمكنهم عبرها مواجهة هذا الوحش الحديدي الجديد، فتمّ حفر الخنادق العميقة، ووضعت العوائق التي ستجبر الدبابة على إظهار بطنها الممكن خرقه باستخدام الأسلحة الخفيفة. كما سارعوا إلى تصميم بندقيّة “ماوزر” بعيار أكبر مكّنهم من خرق درعها التي لم تتجاوز المليمترات.

شهدت الحرب العالميّة الثانية تنوّعاً أعظم بكثير بين الوسائل المستخدمة لمجابهة الدبابة التي تعاظم دورها في الحرب المتحرّكة التي سادت في ذلك العصر، فكانت المدافع المباشرة العالية السرعة المضادة للدبابات، والتي يجرّها المشاة (في مرحلة الاشتباك).

هذه المدافع لم تكن تطلق قذائف متفجّرة بشكل رئيسي، بل كانت تطلق قذائف معدنيّة قادرة على خرق بدن الدبابة، فتقوم إما بأذيّة الطاقم وإما بإعطاب مكوّناتها، فضلاً عن احتمال أن تقوم الشظايا الحاصلة بتفجير الذخيرة أو إحراق الوقود الذي تحمله.

قدّم الأميركيون اختراعاً ثورياً غير الشكل الذي يواجه به المشاة العزّل أنواع المدرّعات المختلفة من دون الحاجة إلى دعم الوسائط المستقلّة عنهم، وكان هذا الاختراع هو مدفع “البازوكا”، أو بالأحرى البندقية العديمة الارتداد من طراز “بازوكا”.

في الحالات الصعبة، بعدما كان المشاة مجبرين على مجابهة الدبابات باستخدام قنابل المولوتوف أو الشحنات المعزّزة وغيرها من الوسائل التي تتطلَّب الاقتراب الشديد أو الالتصاق بالهدف، حدّت “البازوكا” من الحاجة إلى ذلك. و”البازوكا” هي عبارة عن أنبوب معدني يطلق قنبلة مضادة للدبابات تحتوي قمعاً أجوف مسنوداً بحشوة متفجّرة. حين تصطدم القذيفة بالهدف، يقوم الانفجار الداخلي بتشكيل قمع ذائب يندفع عبر نتوء مصمّم خصيصاً لتحويله إلى سهمٍ “Jet” منصهرٍ من المعادن. ينطلق السهم بحراراتٍ تبلغ آلاف الدرجات، وبسرعة تبلغ عدة مرات سرعة الصوت، ليضرب في نقطة محدّدة. ما يحصل هنا هو أنَّ الارتداد يكون بسيطاً جداً، ويسمح للجندي بإطلاق المقذوف عن كتفه. سارع الألمان إلى نسخ هذه التقنيّة الأميركية متى ما صادفوها بعدما لاحظوا فعاليّتها، فولدت “البانزر شريك” الأثقل و”البانزر فوست” الأخف.

بعد الحرب العالميّة الثانية، تضاءل دور المدافع المباشرة المضادّة للدبابات تدريجياً، وحلّت مكانها أسلحة أكثر فتكاً وفاعليّة، وهي الصواريخ الموجّهة المضادة للدبّابات (ATGM)، فيما حلّت أسلحة أحدث مكان “البازوكا” و”البانزر فاوست”، مثل “السوبر بازوكا” و”الآر بي جي-2″، واختفت ما سميت بالبنادق المضادة للدبابات، وأخذت مكانها البنادق العديمة الارتداد الثابتة، مثل “البي-10″ السوفياتي و”الإم-40” الأميركي.

كانت الصواريخ المضادة للدروع الموجهة الأولى ثقيلة وبطيئة ويدوية التوجيه، وكانت بحجم لا يسمح لها بأن يحملها المشاة ويناوروا بها، فكان مكانها الطبيعي ظهور الآليات المدولبة أو المجنزرة، أو الزلاجات الجانبيّة للمروحيات، ولكن ماذا تعني يدويّة التوجيه (MCLOS)؟

إنها تعني أنَّ الرامي يتحكّم في الصاروخ عبر ما يشبه عصا التحكّم في لعبة “البلاي ستيشن” في زمننا هذا، فيقوم بتعديل المسار بناء على ما يراه فقط. يساعده في ذلك نفّاث الصاروخ الذي صُمّم ليكون مرئياً عن بعد كيلومترات من الخلف أو معزّزاً بشعلة أو مصباح. حدّ هذا من دقّة هذه الصواريخ وفاعليّتها، ووضع الرامي أمام صعوبات سنراها في الأقسام اللاحقة.

سبق السوفيات نظراءهم الأميركيين في اختراع سلاحٍ كان له دورٌ عظيم في تاريخ صراعنا العربي الإسرائيلي حتى سنوات خلت. دخل “الماليوتكا” أو “الساغر” الخدمة في العام 1963، وهو أول صاروخ موجّه مضاد للدروع في العالم يمكن للمشاة حمله وإطلاقه. على الرغم من أن هذا الصاروخ كان بطيئاً وصعب التوجيه، فإنَّه غيّر الطريقة التي تُواجه بها الدبابات بشكل جذري.

استخدمت المنظومة لأول مرة في العام 1972 في مواجهة مع القوات الفيتنامية المتعاملة مع الاحتلال الأميركي، وكان تأثيرها مدمّراً، إلا أن الميدان الذي سطع فيه نجم “الماليوتكا” لم يكن إلا شبه جزيرة سيناء والجولان بعد سنة من ذلك الحدث الأول خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر.

صديق العربيّ الأول
كما ذكرنا في مقالٍ آخر عن الدبابات، فإن الدبابات التي استخدمتها الجيوش العربية في تلك الحرب كانت تتمتّع بمواصفات تقنيّة أقل من نظيرتها الإسرائيلية من طراز “باتون” و”سنتوريون”، باستثناء “التي-62”. استخدم العرب ببراعة أسلحة محمولة من قبل الجنود بهدف تعديل كفّة الموازين لمصلحتهم، مثل “الماليوتكا” و”الآر بي جي-7″ الشهير، فضلاً عن “الإس بي جي-9”.

تمت مجابهة الهجوم المضاد الأول للقوات الإسرائيلية بعد العبور المصري لقناة السويس بحائطٍ من هذه الصواريخ التي فاجأت الإسرائيليين غير المعتادين على التعامل مع تحدّيات كهذه. سرعان ما اضطرّ الصهاينة إلى ابتكار تكتيكات للحدّ من تأثير هذه الصواريخ بعدما تراكم حطام الدبابات. ساعدتهم في ذلك طبيعة سيناء الرمليّة، فكان رامي الدبابة الإسرائيلي يطلق النار من مدفعه لتحريك الغبار من أمام الدبابة، ومن ثمّ يتراجع خلف هذا التمويه البصري، حيث مكنته سرعة الصاروخ المحدودة من ذلك.

كما أنَّ الحاجة إلى تصحيح مسار الصاروخ بشكل مستمرّ من قبل الرامي، أعطت رماة الدبابات الفرصة لكي يقوموا بمحاولة الضغط الناري على مكان الرمي كي يجفل المتحكّم ويخطئ الهدف. كما اعتمد الإسرائيليون تكتيك ضرب مواقع ومرابض أسلحة كهذه باستخدام المدفعية، بغية قتل الرماة أو دفعهم إلى الاستتار. في المحصّلة، حصدت هذه الصواريخ حوالى 800 دبابة صهيونية عند نهاية الحرب، أي حوالى نصف ما تمّ تدميره في كلّ الحرب.

اختلفت الأرقام حول دقّة “المالوتكا” الحقيقيّة، نظراً إلى عدم وجود إحصاء دقيق حول رقم الصواريخ المستعملة والإصابات الفعليّة، فكانت النسبة أقرب منها إلى 25% في ظروف المعركة من نسبة 60-90% السوفياتية المتفائلة خلال التجارب في الظروف المثالية.

نظراً إلى التجربة الجديدة، قام العديد من الخبراء العسكريين الغربيين بعد الحرب بالتجوّل في مواقع الدبابات المدمّرة لدراسة الميدان واستخلاص العبر. وعلى الرغم من أنَّ الأميركيين كانوا قد صنعوا أولى نسخ “التاو” (TOW) التي وصلت إلى الكيان الصهيوني قبل نهاية الحرب، ولكنّها لم تستخدم، فضّلت عدد من دول المعسكر الغربي الاستقلال في هذا المجال على استيراد “التاو”، وأخذت تحذو حذو العملاقين لتصميم نماذج خاصة بها بعدما سادت نظريّة مبالغ بها بين الأوساط العسكرية بأن سلاحاً كهذا قد يضع حداً لما يسمّى بحقبة حروب الدبابات، أو لاستعمال الدبابة كرأس حربة في الهجوم على رأس القوات الممكننة، أي التكتيك الذي درج منذ الحرب العالمية الثانية.

لم تنتهِ قصّة “المالوتكا” في حرب تشرين الأول/أكتوبر، على الرغم من دخول العديد من الصواريخ الأحدث في الخدمة في تلك السنوات مباشرة، فدخلت منظومة “الميلان” (MILAN) الفرنسية – الألمانية الغربية في الخدمة في العام 1972، كما دخلت منظومة “الكونكورس” (Konkurs) السوفياتية في العام نفسه.

سمّيت هذه الصواريخ بصواريخ الجيل الثاني التي ينتمي “التاو” إليها أيضاً، والسبب الأساسي في ذلك أنها كانت تعتمد التوجيه نصف الأوتوماتيكي عبر خطّ البصر (SACLOS). ذلك يعني أنَّ على الرامي الحفاظ على موقع الهدف في منتصف المنظار، وأنّ الصاروخ سيقوم بتوجيه نفسه بطريقة آلية نحوه.

لن ندخل في التفاصيل التقنيّة لعمليّة التوجيه نفسها، ولكنَّ الأساس في هذه التقنيّة هو أنها حلّت العديد من المشاكل التي كانت تواجه الصواريخ من الجيل الأول، لناحية ضرورة تمتّع الرامي بالخبرة والمهارة، ولكنّها في الوقت نفسه طرحت مشاكل أخرى، إذ إنَّها على الرغم من أنها كانت مقاومة للتشويش الراديوي والبصري، نظراً إلى أنها موجّهة أوتوماتيكياً عبر سلك، فإنَّها معرّضة لتشويش من نوع آخر باستخدام باعثات للأشعة ما تحت الحمراء، نظراً إلى أنَّ متتبّع الصاروخ يعتمد على مصباح يبثّ هذه الأشعة ويكون في مؤخّر الصاروخ. تجاوز “الكونكورس” هذا عبر حلّ بسيط تمثّل في إمكانية التحكّم في الصاروخ بطريقة الجيل الأول، أي يدوياً، في حال كشف الحسّاس عمليّة تشويش.

بعكس التصوّر الشائع، لم تستخدم القوّات السورية في لبنان صواريخ سوفياتية بشكل رئيسي في المعارك التي تمكّنت عبرها من صدّ تقدّم أرتال المدرّعات الإسرائيلية المجتاحة، بل استخدمت في معركة السلطان يعقوب مثلاً صواريخ فرنسية من “نوع هوت” (HOT 1) مثبّتة على مروحيات الغازيل الرشيقة، والتي كانت تفاجئ القوات الإسرائيلية من خلف التلال. كما قاتلت القوّات الخاصّة السورية بدورها بصواريخ من نوع “ميلان 1” التي كانت سوريا قد استوردتها منذ عدّة سنوات، وأثبت فاعليّة جيّدة، على الرغم من قصر مداها الذي لم يتجاوز الألفي متر، بعكس “الكونكورس” و”التاو” اللذين يبلغ مداهما حوالى 4 كيلومترات.

حصل الإسرائيليون على حصَّتهم من “الماليوتكا” كاملة من المقاومة الإسلامية في السنوات اللاحقة. المثير للاهتمام في هذه الحالة هو أنَّ استخدامها لم يقتصر على ضرب الدبابات والآليات الصهيونية ودبابات جيش العملاء، وتحوّل في كثير من الأحيان إلى سلاح مضاد للتحصينات المشيّدة على التلال بهدف تأمين المعابر. وصل صاروخ “التاو” في نهاية التسعينيات إلى المقاومة الإسلامية، وتمكن الإيرانيون من صناعته وتطويره منذ العام 1988 تحت مسمّى “طوفان”.

سهّل هذا الصاروخ عمل المقاومين في إدخال الصواريخ من طلاقيات الدشم والتحصينات. احترف المقاومون الضرب في المكان نفسه على دروع “الميركافا” السميكة، فسرعان ما تمّ تدمير 3 دبابات “ميركافا” من الجيل الثالث ودبابة “ماغاح” في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر من العام 1997، فضلاً عن ولادة سلاح جديدٍ أصاب “جيش” العدو بخسائر كبيرة، ووسّع احتمالات المواجهة من الطرقات إلى جوانبها أيضاً، وهو العبوات الناسفة القاذفة للذخائر المشكّلة عبر التفجير (EFP). شكّلت هذه المنظومات والأسلحة تغييراً لا يستهان به في المعادلة، وسبباً من الأسباب التي دفعت “جيش” الاحتلال إلى الانسحاب اللاحق في العام 2000.

تمّوز: مختبر الجيل الثالث
من عادة الحروب أن تجبر الجيوش وقادتها على أن يعيدوا النظر في تكتيكاتهم، وتجبر الدول على إنتاج تقنيّات جديدة ضروريّة للتأقلم مع نتائجها. بمعنى آخر، تصمّم الجيوش تكتيكاتها وتطلب أسلحتها بناء على عقيدة عسكريّة معيّنة قد تكون مبنيّة على نظريّات ودراسات أو توقّعات. تأتي الحروب، فتقوم إمّا بتعديل ما سبق وإما بنسفه بالكامل.

كما أجبرت حرب تشرين الأول/أكتوبر الدول على إعادة النظر بفعاليّة الأسلحة المضادة للدبابات أو طريقة استعمال الدبابات نفسها. كانت حرب تمّوز في العام 2006 أول حقل تجربة مكثّف عن الأسلحة المضادة للدروع من الجيل الثالث بفرض واقع جديدٍ أعطى أهمية إضافية لمنظومات كهذه دفعت الدول إلى تطويرها أو شرائها أو محاولة بناء دروع أفضل أو أنظمة دفاع نشطة أو سلبية لمحاولة التعامل مع أخطار كهذه، كما سنرى في القسم التالي.

ما هي صواريخ الجيل الثالث إذاً؟ بدأت أولى تصميمات هذه الصواريخ بالظهور في ثمانينيات القرن الماضي، وهي تعتمد طرق توجيه مختلفة عن سابقاتها، ليزريّة مباشرة في بعض الأحيان، كما “الكورنيت”، أو حراريّة تصويرية على طريقة “اضربْ وانسَ” (Fire & Forget)، كما في حالة “الهلفاير” (Hellfire) المحمول جوّاً أو “الجافلين” (Javelin) الأميركيين.

في الحالة الثانية، ليس على الرامي توجيه الصاروخ، بل سيكتفي بتوجيه نفسه بعد القيام بـ”الإقفال” على الهدف. هذه الصَّواريخ تكون في أغلب الأحيان لاسلكيّة مع بعض الاستثناءات، كما في حالة “السبايك” (Spike) الإسرائيلي في نسخه الأثقل.

في حالة “الكورنيت”، وهو من صنف آخر تماماً، ويُدعى “الصّاروخ الراكب للحزمة”، يقوم الصّاروخ، كما يشير الاسم، بركوب حزمة ليزريّة تطلقها قبضة الصاروخ باتجاه الهدف، يصحّح من بعدها مساره بشكل مستمرّ ليبقى متوازياً معها عبر حسّاس ليزري موجود في مؤخر الصاروخ. تجدر الإشارة أيضاً إلى أنَّ معظم هذه الصواريخ تكون مزوّدة برأسين حربيين مترادفين (Tandem) للتعامل مع الدّروع التفاعلية الانفجارية، إذ يقوم الرأس الأول بتشغيل الدرع التفاعلية، والآخر بخرق الدرع الرئيسية للدبابة.

تفاجأ الإسرائيليون بامتلاك المقاومة صواريخ “الكورنيت” في حرب تمّوز. وقد تسبّبت هذه الصواريخ مع قاذفات “الآر بي جي-29” والعبوات الناسفة بمعظم الخسائر الإسرائيلية القاسية خلال الحرب. يجب أن نشير هنا إلى نقطة أنَّ تدمير دبابة بالمعنى الشائع قد يعني الكثير من الأمور، فهي لا تملك روحاً بذاتها، كما نعلم. قد يعني الأمر تعطيل حركتها وضرب آلية النار فيها وجرح الطاقم بشكل يمنعه من العمل، وصولاً إلى تفجيرها بشكل كامل في حال اشتعلت الذخيرة. كان هذا الأمر من النوادر في تلك الحرب.

تشير التقارير الإسرائيليّة إلى أن بعض الدبابات تعرّضت للعديد من الضربات بصواريخ كهذه، زاد عددها الكلّي المستعمل على الألف خلال الحرب، قبل أن تتوقّف عن العمل، فيما احترقت دبابات أخرى بشكل كامل، كما في سهل الخيام، فقتل الطاقم أو استحال إصلاحها نهائياً.

في وادي الحجير، فاجأت طواقم المقاومة المضادة للدروع الدبابات الإسرائيليّة من زوايا لم يتوقّعها قادة هذه الدبابات، نظراً إلى المدى الكبير الذي تمتلكه المنظومة، والذي يبلغ 5 كيلومتر ونصف الكيلومتر في الظروف المثالية. وكانت هذه الصّواريخ أكثر من كافية لخرق دروع دبابات “الميركافا” من الأجيال الأقدم، وشكّلت خطراً كبيراً على الدروع الأحدث منها، مثل “الميركافا 3 و4″، المخصّصة للتصدي لهذا النوع من الخطر بالتحديد، ولكنّ هذه الصواريخ كانت قليلة بين الصواريخ المستخدمة في الصورة الكبيرة.

أخذت الصواريخ الأقدم، مثل “المالوتكا” و”الفاغوت”، بعداً آخر من المعركة، فهي لم تمنع فقط إدخال مدرّعات النقل الخفيفة إلى الميدان، والتي تستخدم لنقل الجنود والتموين والعتاد، ما خلق مشاكل لوجستية للجيش المتقدم، بل شكّلت أيضاً خطراً موازياً على مجموعات المشاة.

في كثير من الحوادث، كما في مارون الراس وعيتا ودبل، ضربت “الماليوتكا” تجمّعات للجنود من زوايا لم يكن العدوّ يتوقعها، نظراً إلى مداها الجيّد وقدرتها التدميريّة، ففتحت مجالاً جديداً في لعبة الاستباق والتوقّع لدى قادة العدو.

على الرغم من أنَّ هذه الصواريخ تستعمل تقنيّة القمع النحاسي المفرغ نفسها، والتي تحدَّثنا عنها سابقاً، فإنها من دون شكّ تملك حشوة متفجّرة تبلغ عدّة كيلوغرامات من المتفجّرات، قادرة إما على أن تخلق ضغطاً عالياً في الأماكن المغلقة، وإما أن تصنع شظايا قاتلة، كما أي عبوة ناسفة أو لغم.

فلنتخيّل حجم الخسائر هنا في ما لو كانت حشوات الصواريخ المتفجّرة فراغية (Thermobaric) في كلّ من هذه السيناريوهات، مع العلم أنَّ نسخاً من “الكورنيت” تملك خاصيّة كهذه للتعامل مع المشاة، وهي من دون شكّ أكثر انتشاراً في هذا الوقت منها في العام 2006.

حقبة “التروفي” وصواريخ الهجوم العلويّ
لم تكن كلّ الدبابات التي شاركت في حرب تمّوز من طراز “الميركافا 4” الأحدث في وقتها، بل شاركت أيضاً دبابات من طراز “إم 60” محدّثة، ودبابات “ميركافا 2” الأقدم الأقل تدريعاً. كان من أهمّ خلاصات الحرب أن قرّر الصهاينة البدء تدريجياً باستبدال الدبابات والمدرّعات الأقدم بمثيلاتها الأحدث، كما قاموا بإدخال منظومة يمكننا تصنيفها على أنها غيّرت قواعد اللعبة بشكل جذري، وهي منظومة “التروفي” (Trophy) للدفاع النشط.

تقوم فكرة “التروفي” على محاولة ضرب الصواريخ الموجّهة وغير الموجّهة قبل التحامها بالهدف عبر استهدافها بما يشبه الشظايا المندفعة من جهاز إطلاق على شكل ذراعٍ إلكترونية تثبّت على كلّ من جانبي الدبابة أو الآلية. هذه المنظومة تستعمل رادارات لا تمكّن طاقم الدبابة من رصد الصاروخ المطلق فحسب، بل وتحديد مكان الإطلاق بحسب المسار شبه المستقيم للصاروخ أيضاً.

أثبتت هذه المنظومة فاعليّة لا يستهان بها منذ أن بدأ “جيش” الاحتلال بتركيبها على آليّاته ودباباته من طراز “نامر” (Namer) و”ميركافا 4″. هناك العديد من مقاطع الفيديو خلال حرب غزة 2014، والتي تظهر اعتراضاً ناجحاً لصواريخ من طراز “آر بي جي-29” و”كورنيت”، تمّ إطلاقها على الدبابات. يحاول الإسرائيليون تسويق المنظومة على أنها الحلّ السحريّ لجميع المشاكل التي تواجه الدبابات في ميدان المعركة الحديثة، ولكن هل هي لا تقهر فعلاً؟

فلننسَ عامل الكلفة هنا، نظراً إلى أنه عامل أقلّ أهميّة في حالة الكيان الذي تموّل الولايات المتحدة فيه معظم الأنظمة المشابهة. وبحسب المعلومات المتوفّرة، لـ”التروفي” عدّة نقاط ضعفٍ مرئية. بدايةً، إن المنظومة تملك 3 طلقات على كلّ جانب. ثانياً، تحتاج الذراع الواحدة إلى وقت تذخير يبلغ حوالى ثانية ونصف الثانية بين كلّ طلقة وأخرى، على الرغم من أن الدبابة تستطيع استعمال كلا الذراعين من بعض الزوايا من الأمام والخلف.

ثالثاً وأخيراً، إنَّ “التروفي” تملك قدرةً محدودةً على التصدّي للمقذوفات التي تهاجم الدبابة بزوايا مرتفعة من الأعلى. لماذا يعدّ ذلك عاملاً مهماً؟ بسبب زيادة انتشار صواريخ ما يسمى بالهجوم الفوقي تدريجياً بين الدول المصنّعة للسلاح في العالم.

بالتأكيد، إن الحلّ لمجابهة هذه المنظومة التي وضعت معظم الصواريخ المضادة للدروع في حالة كشّ ملكٍ ليس بأن يطلق شخصان عليها النار في وقت واحد، أو أن يقوما بحساب وقت التلقيم يدوياً. حلول كهذه تتطلَّب الحساب البشري، وغالباً ما تكون غير فعّالة.

هناك حلول أسهل وأكثر فاعليّة فكّر فيها العديد من منتجي السلاح حول العالم، فقام الروس مثلاً بتطوير “الآر بي جي-30″، وهو قاذف صاروخي غير موجّه يطلق ما يشبه الطلقة المزيّفة قبل الصاروخ الحقيقي بفارق زمني بسيط، وبشكل آلي، بهدف خداع المنظومة. كما قاموا أيضاً بصناعة منظومات “كورنيت” مركّبة على آليّات، وتقوم بإطلاق أكثر من صاروخ في آنٍ بفارق أجزاء من الثانية.

في ضوء عجز الدبابة عن مواجهة صاروخ من الأعلى، وللصدفة، فإنَّ الإسرائيليين أنفسهم سبّاقون في مجال هذه الصواريخ بمنظومة “سبايك” (Spike) بأحجامها المختلفة. يمكن لصواريخ أبسط من ذلك، مثل “التاو 2-بي”، أن تكون خطراً جدياً، فهي تطير فوق الهدف، وتقوم بتوجيه شحنة معدنيّة مدفوعة بالانفجار نحو الأسفل لخرق درع الدبابة العلويّ الأقل سماكة، حتى إنَّ بعض قذائف “المورتر” الموجّهة بالليزر قد تكون حلاً جيداً أمام منظومة كهذه، مثل “الغران” (Gran) الروسية.

خاتمة
الأمر المشترك بين كلّ هذه الأنظمة التي قد تشكّل حلاً فعلياً أمام تروفي، والذي ذكرناه في القسم السابق، هو أنَّها جميعاً، ومن دون استثناء، يتمّ تصنيعها في الجمهورية الإسلامية في إيران، أو تمّ عرض نماذج أوليّة عنها قيد التجربة.

تقول بعض الروايات الصهيونية إنَّ إحدى منظومات “السبايك” (Spike) المتوسطة المدى فقدت خلال حرب تمّوز، وعثر عليها مقاتلو المقاومة، فوجدت طريقها الطبيعي إلى طهران بشكل أو بآخر. منذ عدّة أشهر، عرضت قوات حرس الثورة الإسلاميّة ما يبدو أنَّه صاروخ هجوم علويّ مشابه لـ”السبايك” تحت مسمّى “ألماس”. وعلى الرغم من أنَّه لم يتمّ عرض تجربة إطلاق حتى الآن من منصّة أرضيّة، فإنَّ أحد المقاطع أظهر إطلاقه من طائرة مسيّرة من نوع مهاجر، ليصيب هدفه بدقّة متناهية بشكل لاحق.

لا تعني هذه الأنظمة في واقع الحال أنّ المنظومة هُزمت، وأن واقعاً جديداً ولد ويجب التعامل معه. هذه الأمور تحسمها الحروب العمليّة عادةً. الأمر المؤكد هو أنَّ هذه المنظومات خلقت تحديات جديدة لـ”التروفي” ومثيلاتها التي سبّبت مشكلات للصواريخ الأقدم، وهكذا دواليك، في صراع أزلي بين الرمح والدرع. المؤكّد أيضاً هو أن صواريخ الأجيال الأقدم لم تخرج من الخدمة حتى الآن، فهي لم تزل تحرق المدرّعات والدبابات السعوديّة الحديثة بالمئات في جبال اليمن وأوديته حتى يومنا هذا.

ليست الجمهورية الإسلاميّة في إيران هي الدولة الوحيدة التي تعمل على صواريخ الهجوم العلوي بالتأكيد. منذ عدّة سنوات، قدمت الصين نماذج مختلفة تحت مسمّيات “أتش جي-10 و12” بأحجامٍ مختلفة، كما أنَّ الهند وتركيا تعملان على نماذج خاصّة بهما أيضاً إذا ما أردنا الابتعاد قليلاً عن منتجي الأسلحة الحديثة التقليديين في الغرب وروسيا.

لن تسع سطور هذا المقال حديثاً شاملاً أكثر عن هذه المنظومات، ولكن ما يمكن الجزم به حتى الآن، هو أن الهزيمة والنصر لا تحققهما القدرة الماديّة واحتكار التكنولوجيا فقط، وأن الإرادة ليست فقط عاملاً يستفاد منه حصراً في أرض المعركة، بل في ميدان التصنيع والتكنولوجيا. وهناك يمكن قلب الطاولات وتغيير مستقبل هذا العالم عبر منح المستضعفين رماحاً ليواجهوا بها دروع المهيمنين.

علي جزيني – الميادين

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد