أنتجت أحداث الثورة الإسلامية في إيران شخصيات كبيرة جدًا على غرار الشهيد القائد قاسم سليماني رحمه الله، وشهداء كبار من أمثاله، فضلًا عن علماء تشرّبوا من معين إمام الثورة المتأصل بكتاب الله وسنّة رسوله. وقد يعبّر عن الثورة الإسلامية وأحداثها بالنسبة لأولئك الشهداء والعلماء بكونها الأرضية التي صنعتهم إلى جانب موهبتهم الطبيعية وتوفيق الله لهم. وهذا الأمر قد حدّده قائد الثورة الإسلامية في خطابه مع النخب العلمية في الشهر الماضي، فقد اعتبر سماحته أنّ صناعة النخب تندرج تحت ثلاثة عناوين هي: الأرضية، والموهبة الطبيعية، والتوفيق والتسديد الإلهي.
كان الشهيد السيد محمد حسيني بهشتي رضوان الله تعالى عليه من أولئك الذين صنعوا أرضية الثورة وأوجدوا حالة اليقظة في وعي الشباب الإيراني وعقولهم، إذ ترافق اسمه مع بدايات الثورة في العام 1963م، ما حدا بالبروفسور وعالمة الاجتماع “تيدا سكوكبول” لوصفه بالمنظّم المحترف ومؤسس الدولة الذي مهّد الظروف المناسبة لانتصار الثورة.
فما الذي جعل من آية الله بهشتي آيةً للنضال في إيران؟ وما الذي جعل العين الغربية محدّقة به لهذا الحد؟ وما الذي جعل من اسمه مورد حذر الخارجية الأميركية التي اعتبرته منذ انتصار الثورة “القائد الديني الأذكى والأكثر تخصصًا في البعد السياسي”؟
بدأ الشهيد بهشتي دراسته الحوزوية في العام 1942م وكان له من العمر 14 سنة فقط، وظهرت عليه من بداية دراسته علامات النبوغ والاجتهاد. وفي العام 1948م تابع دراسته الأكاديمية في كلية الإلهيات في طهران، وأتقن في هذه الفترة اللغة الإنكليزية بشكلٍ جيّد، وأصبح مدرّسًا لها في ثانويات قم، مرتديًا عمّته السوداء، ومنشئًا صورة جديدة لعالم الدين في ذهن الشباب!
في هذه الفترة، وفي عطل الصيف، مارس التبليغ في القرى النائية برفقة الشهيد مطهري رحمه الله، ضمن سلسلة من البرامج كانا قد وضعاها برفقة آخرين لنشر الثقافة الدينية بين الناس.
مع تصاعد وتيرة الأحداث السياسية على خلفية حراك تأميم النفط بقيادة آية الله كاشاني والدكتور مصدّق، كان بهشتي مواكبًا متابعًا لكلّ ما يجري، بل ومشاركًا في المظاهرات أيضًا، ومن حينها برز بهشتي الخطيب وتفجّرت قابلياته، فيروي الشهيد عن تلك الأيام: “ربما كنت أوّل أو ثاني الخطباء الذين خطبوا في المعتصمين في مبنى البريد، وقد وجّهت تحذيرًا للشاه بأنّ الشعب الإيراني لا يسمح بأن يصادر المستعمرون ثروات بلاده”.
ومن ذلك الحين وجد الشهيد حاجة ملحّة لقيادة حركة ثقافية أصيلة وعصرية يكون نتاجها كادرًا قادرًا على مواجهة الشبهات العقائدية والسياسية التي يبثّها العدوّ، ويقول عن ذلك: “قررنا القيام بحركة إسلامية ثقافية أصيلة وعصرية تهيّئ الأرضية المناسبة لإعداد شباب متديّن ومثقّف”. وقد طبّقت هذه الحركة تباعًا ضمن سلسلة من الخطوات كان أوّلها تأسيسه لثانوية “الدين والمعرفة” وإدارتها، إلى جانب تدريسه في حوزة قم العلمية، ثمّ بممارسة النشاط التأليفي الذي تميّز بكونه مكتوبًا بلغة حديثة تحاكي عقول الشباب، ونشر في مجلتي “مدرسة التشيّع” و”مدرسة الإسلام”.
كان لدى الشهيد بهشتي اعتقاد تام بضرورة التعاون بين طلبة العلوم الدينية والطلبة الجامعيين، وقد ترجم اعتقاده هذا بتواجده في كلتا الساحتين، تاركًا بصماته الاستثنائية فيهما. وهذا الاعتقاد بالتأكيد هو نتيجة الإيمان بشريحة الشباب بشكلٍ عام، وبقدرتهم على صنع التحوّل، الأمر نفسه الذي وجدناه لاحقًا في مسار الثورة الإسلامية سواء قبل أو بعد انتصارها، فدائمًا ما كان الشباب هم المخاطب الأوّل بالنسبة لصناعة المستقبل والنصر.
في العام 1959م حاز السيد يهشتي على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، الأمر الذي استثمره لتوسعة نشاطاته التدريسية والبحثية، إضافة لحضوره الكثيف في محاضرات كانت تقام للشباب في طهران. واستطاع برفقة ثلّة من النخب الحوزوية في قم من أمثال السيد رباني شيرازي وغيره، وضع مناهج حوزوية تلبّي حاجة العصر الحديث، وقد جرى تطبيقها في مدرستين تم تشييدهما لهذا الغرض وهما “المدرسة الحقانية” و”المدرسة المنتظرية”.
مع انطلاق ثورة الإمام الخميني في العام 1963م كان للسيد بهشتي دور بارز من ناحية بثّ الوعي في عقول الشباب، حيث قام برفقة رفاقه بتأسيس مركز اتحاد الطلبة الحوزويين والجامعيين، والذي قام على منبره رجالات ثورية نشروا الثقافة الإسلامية الأصيلة وأعلنوا مواجهتهم للنظام، معبّئين بذلك جيلًا من رجال المستقبل.
في العام 1964م وبعد تفاقم الوضع الأمني في إيران، اضطرّ الشهيد لمغادرة البلاد متوجّهًا لمدينة هامبورغ الألمانية بعد دعوته من قبل المرجعية الدينية لإدارة المركز الإسلامي هناك، وبقي فيها لمدّة خمسة أعوام استطاع خلالها بلورة النشاط الإسلامي، ومواجهة الانحرافات اليسارية التي كانت في أوجها.
في العام 1970م عاد إلى إيران لمتابعة عمله النضالي والفكري في ثورة الإمام الذي كان منفيًّا آنذاك. وقد كان الشهيد بهشتي على تواصلٍ مستمر معه، ومن ذلك التاريخ كان الشهيد بهشتي وبقية العلماء المؤمنين بأهداف الثورة يقودون مسار الصحوة الإسلامية في إيران من على منابر تفسير القرآن الكريم، حيث استطاعوا تفسير آيات الكتاب بإشارات سياسية، وقد تجلّى ذلك في ما تمّ عرضه وتدوينه في كتاب مشروع الفكر الإسلامي للقائد الخامنئي دام ظلّه حيث يظهر في طيّات الخطاب والموعظة وما بين سطوره إسقاطات على واقع الأمّة حينها وضرورة النهضة والقيام ضد الشاه، ولزوم الوقوف مع الإمام الخميني قدّس سرّه.
في العام 1976م تشكّلت حركة “روحانيت مبارز” والتي كان للشهيد بهشتي دور بارز فيها، حيث مثّلت فيما بعد تنظيمًا حزبيًا سياسيًا مارس النضال وقاد الحركة الشعبية والسياسية حينها. ومع اقتراب الانتصار في العام 1979م كان الشهيد على موعدٍ مع إمامه وأمله روح الله الخميني في باريس، ومن هناك وبتوجيهات الإمام شكّل بهشتي مجلس قيادة الثورة.
بعد انتصار الثورة انتخب الشهيد عضوًا في مجلس الخبراء، ثمّ رئيسًا له، فضلًا عن قيادته لحزب الجمهورية الإسلامية الذي أسّسه بنفسه بطلب من الإمام عقب الانتصار. كما وتولّى أيضًا السلطة القضائية واستطاع إحداث تطوّر ملحوظ فيها في وقتٍ قياسيّ وفي ظروفٍ استثنائية.
بالطبع شخصية كشخصية الشهيد بهشتي، وبهذه المواصفات القيادية والفكرية كان على رأس قائمة الاغتيالات، الأسلوب الذي اختارته أمريكا لإضعاف الجمهورية الإسلامية الفتية معتقدة بأنّها تستطيع هزيمة الجمهورية بذلك، فاغتيل على يد منظمة المنافقين في 28 حزيران 1981 برفقة 72 من مسؤولي النظام، إلا أنّ بهشتي الشهيد دفع الأمّة إلى الأمام بأثرٍ مضاعف عن بهشتي الحي، وهذا ما دوّن في التاريخ إذ بشهادته المباركة عادت وتوحّدت مكونات المجتمع الإيراني.
وصفه الإمام بعد رحيله بأنّه كان “أمّة في رجل”، فهو الذي استطاع العمل على عدّة جبهات وفي ساحاتٍ مختلفة الظروف، متنقّلًا من أروقة الحوزات العلمية، إلى صفوف الجامعات وجلسات الشباب، إلى منابر المساجد ولو في ألمانيا. كما ترك أثره العلمي من خلال مؤلفاته التي لا زالت حيةً إلى يومنا هذا، ككتاب “الحكومة في الإسلام”، “النظام المصرفي وقوانين الإسلام المالية”، و”الله في القرآن” وغيرها من المؤلفات القيّمة والمفيدة.
أصبح الشهيد بهشتي بعد رحيله أيقونة الثورة، وقدوة الشباب الثوري، فقد شكل بمحوريته وحضوره نموذجًا إسلاميًّا وثوريًا محبّبًا لدى الشباب الواعي والمثقّف، بل وأصبح اسمه متعلّقًا بالثورية، فمن تُلاحظ عليه هذه الصفة يقال أنّه “بهشتيّ”، وأكبر مثال على ذلك هو الشهيد “حسن باقري” -الذي وصفه اللواء رحيم صفوي بأنّه أحد عباقرة قادة الحرس، واعتبره القائد الخامنئي دام ظلّه إحدى معجزات الثورة الإسلامية- الذي نتيجةً لنشاطه الواسع في الجبهات وحضوره القوي فيها ووعيه السياسي وبصيرته الواضحة والجليّة أصبح يدعى بـ”بهشتي الجبهة”.
من أشهر أقوال الشهيد، وهو من الأقوال التي تعبّر عن مسيرته العملية فهو ينطق بما يعمل وبما عمِل واجتهد: “أيّها الإنسان قاوم فأنت حُر، وإن رضخت للظلم فلا تلومنّ إلا نفسك”. وهذا ما عبّر عنه الإمام الخامنئي حفظه الله في وصف الشهيد: “شهيدنا الجليل العزيز آية الله بهشتي الذي كان إنسانًا مؤمنًا متديّنًا مخلصًا جادًّا في العمل، كان يعتقد بما يقوله، وملتزمًا عمليًّا بما يعتقد به، وكان يعرف الأخطار، وكان يعلم بأنّ ساحة العمل هي حقل ألغام، ويمكن أن تزهق الروح بأيّ لحظة من اللحظات، لكنّه مع ذلك كان يتقدّم في الطريق غير آبه وغير خائف، وعينه على الهدف”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.