مرّت ثمانية وأربعون ساعة على الحادثة التي أودت بقتيل ايرلندي في العاقبية، شمال خطّ الليطاني، شماله وليس جنوبه، أي خارج نطاق عمل وحركة قوات اليونيفيل بحسب مختلف القرارات الدولية المتعلقة بالوضع اللبناني من القرار ٤٢٥ إلى الـ ١٧٠١ وما بينهما. وهذه الإشارة هي فقط “على عين” المتبجحين بالقرارت الدولية والمخلصين لها والمتكلين عليها.
الحادثة بكلّ تفاصيلها الحافلة بعلامات الاستفهام دخلت إلى مطبخ التضليل اللبناني كقطعة دسمة يتفنّن طبّاخو السمّ بطريقة طهوها وتقديمها. وخرجت منها أطباق مشبوهة على طاولة سماسرة الأحداث وتجار المواقف وقطاع طرق السيادة والكرامة الوطنية.
لمن لم يتسنّ له متابعة الأخبار في ذلك اليوم وفاتته حيثيات الحادثة الموثّقة والمشهودة، هذا ما جرى باختصار: دخلت آلية تابعة لقوات اليونيفيل في طريق داخلي في منطقة العاقبية – خيزران بعد أن افترقت عن قافلتها على الاوتوستراد الرئيسي، ومرّت في أحياء سكنية من غير المعتاد أن تمر بها قوافل اليونيفيل. صادف وجود تجمعات شبابية في المكان بسبب متابعة مباريات المونديال ودهست الآلية أحد المواطنين ما أثار غضبًا واستهجانًا لدى المتجمّعين من أهالي القرية. وبعدها تابع السائق سيره مسرعًا فانقلبت آليته واصطدمت بأحد المحال التجارية ما أسفر عن مقتل جندي فيها وجرح ثلاثة. وتزامن مع انقلاب الآلية اطلاق نار من سلاح خفيف، مجهول المصدر، كما جرى حديث عن أنّ جنود اليونيفيل المتواجدين في السيارة قاموا بإطلاق النار.
كحادثة دهس ترتكبها اليونيفيل في الجنوب يبدو الأمر مألوفًا، فمنذ سنوات يمكن ملاحظة السياق العدائي والاستفزازي الذي تعتمده قوات اليونيفيل تجاه السكان. لكنّ وقوعها خارج نطاق تواجدها ونشاطها، وخروج الآلية عن مسلكها وقافلتها المتجهة من بيروت إلى الجنوب عبر الأوتوستراد، وغياب أي مرافقة لها من الجيش اللبناني ومسارعة قيادة اليونيفيل إلى الحديث عن “تعرّض آلية أثناء مرورها لاطلاق نار أدّى إلى مقتل جنديّ وجرح ثلاثة” وتجاهل كلّ بقية التفاصيل المثيرة للرّيبة، بالإضافة إلى تصريح يقول بأن “قوات اليونيفيل تعمل في بيئة عدائية”، جميعها عوامل تحوّل القضيّة إلى علامة استفهام كبيرة حول عمل اليونيفيل ودورها الآن.
ساعات قليلة بعد الحادثة وتحوّل المشهد بكلّ ما فيه من علامات استفهام إلى مستنقع مياه عكرة يصطاد فيه كلّ من ينتظر حادثة أو حدثًا يحمّل حزب الله مسؤولية وقوعه. توالت التصريحات التي أصرّت على التضليل عبر اتهام الحزب بافتعال الحادثة: فارس سعيد كان السبّاق كعادته، والأمر ليس مستغربًا فالرجل تفوّق على نفسه في اتهام حزب الله بكلّ صغيرة وكبيرة وأمسى أضحوكة المتابعين الذين يشخّصون إصابته بفوبيا حزب الله، رغم تصريحه متفاخرًا بكونه يمرّ ببعض القرى الشيعية بسيارته! سامي الجميّل وسمير جعجع وأشرف ريفي لم يتأخروا أيضًا في تحميل حزب الله مسؤولية الحادثة، متباكين على الجندي القتيل. وكرّت سبحة الكذب على خطين متوازيين: التباكي على قتيل اليونيفيل وتحميل حزب الله مسؤولية مقتله. ولم يلتفت هؤلاء لضرورة بيان أي دليل أو حتى رابط منطقي، فهم اعتادوا استصغار عقول الجمهور، جمهورهم، بحيث لا داعي أصلًا لجهد صناعة حبكة منطقية للكذبة.
المهم، في البعد الإنساني الأخلاقي، سقط الساقطون مرة جديدة. فهم لم يلتفتوا لعدد ضحايا حوادث الدهس التي ارتكبتها اليونيفيل في الجنوب ونذكر منهم محمد عبد الله عبيد وعلي الأسعد في بلدة الضهيرة، أبو عباس قصير الذي كان يقود باص طلاب ونجا الطلاب من مجزرة، علي فارس عند مدخل بنت جبيل والذي دهسته آلية اليونيفيل فأوقعته أرضًا ثم عادت ومرّت فوقه، ماهر محمد حمدان وعائلته بين مركبا والعديسة، وغيرهم كثر ممن قضوا دون أن يستنكر قتلهم أحد ممّن ينعون اليوم الجندي الايرلندي القتيل بخلفية “إنسانية” ساذجة و”بعيدًا عن السياسة”!
وعدا عن حوادث القتل التي ارتكبتها اليونيفيل جنوبًا، ثمّة ارتكابات عديدة قامت بها بشكل ينتهك خصوصية وحرمة البيوت والأحياء السكنيّة ما جعلها أصلًا في موقع المعتدي على الأهالي، لا سيّما وأنّ جنود اليونيفيل لا يمكن محاكمتهم أمام القضاء اللبناني مهما ارتكبوا، بحسب الاتفاقيات المنصوص عليها. وإن كان وجود الجيش اللبناني بمرافقة قوافل اليونيفيل يشكل عامل تطمين للناس، فقليل من عرف أنّه في تموز الماضي تمّ “عالسكت” تمرير قرار “أممي” يسمح لهذه القوافل بالتجوّل دون مرافقة الجيش اللبناني ودون تبليغه.
بالنظر إلى جميع هذه الحيثيات، المرتبطة مباشرة بحادثة العاقبية أو السابقة لها، إن غضب السكان هو أمر منطقي ومفهوم ومبرّر، لا بل ومطلوب بمواجهة معتدين يرتدون قبعّات زرقاء ويسمّون زورًا بقوات حفظ السلام.
بالمناسبة، هل نسي العالم أين وقعت مجزرة قانا؟ أمام عين مَن جرى اغتيال أطفال اسعاف المنصوري؟ هل نشكر اليوم قوات اليونيفيل على جهودها في حفظ “السلام” ولم تزل دماؤنا تشير إلى تخاذلها وإلى عجزها عن القيام بحماية المدنيين في خضم الحرب. طيّب، ماذا لو كان الجندي القتيل ليس أوروبيًا؟ هل كان سيستدعي موته في حادث هذا الكمّ من الدمع “الإنساني” الكاذب الصادر عن أعين تمتهن التضليل وتستأنس بالتودّد الذليل للرجل الأبيض، أم كان الأمر سيأخذ مجراه الطبيعي؟!
أسئلة كثيرة بعد، من يضمن عدم تسلّل جنود “اسرائيليين” بمهام اغتيال في القرى بثياب اليونيفيل وآلياتها؟ من يمكنه القول بأن اليونيفيل قوة محايدة ولا تشكّل طرفًا في الصراع القائم ولا سيّما بعد تصريح قياداتها بأن العمل يتمّ في “بيئة معادية”؟ هل يتوقّع عاقل أن يصمت الأهالي في حضرة القبعة الزرقاء وهي تنتهك قراهم؟ كيف يمكن تبرير دخول الآلية إلى مسلك غير معتاد لها في منطقة خارج نطاق عملها والادعاء أنّه تفصيل عرضي؟ وكيف يمكن توقع أن يسمح الناس لها بالمرور ولا سيّما بعد أن قامت بدهس أحد المتجمهرين؟!
لن يجيب أحد عن أسئلة كهذه، لكن وجود هذا الكمّ من علامات الاستفهام هو بحد ذاته مانح لمشروعية أي عمل يقوم به أهالي القرى المتعرّضين يوميًا لانتهاكات اليونيفيل، وهؤلاء ليسوا بحاجة إلى قرارات حزبية ليتحركوا. من لا يعرفهم جيّدًا، فليسأل عن كيفية مواجهتهم للاجتياح الصهيوني ولقطعان العملاء، قبل أن يستهجن ويستنكر ويرميهم بحجارة تذلّله للغرب واسرائيله!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.