يَتَكَفَّلُ الوقت بتبيين حقائق الأحداث التي تكون خافية بادئ الأمر، بحيث لا يلتقط خفاياها بدايةً إلا ذوو الوَعيِ الحادّ، الذي افتقدَهُ مكوّن “ثورة” 17 تشرين، التي بدورها ما تخلّفت عما سبقها من مشاريع أميركية تنشدُ الفوضى لتوظيفها في مسار مواجهة القوى التي تقارع هيمنَتَها.
لم تَكُن الانتفاضة في تشرين الأول من العام 2019 عفويّةً يومًا من الأيام، كما لم يكُن كذلك أيٌّ من نظيراتها في العالم العربي في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وقد ظهرت قبل تلك الفترة الكثير من المؤشرات التي تؤكّد نيّة الأميركي الإعداد لعملٍ ما يمهّد لفوضى “منظمة” تطيح بما تبقّى من مقوّمات في الدولة اللبنانية. أبرز تلك المؤشرات ما ورد على لسان السفير الروسي السابق ألكساندر زاسبيكين في مقابلةٍ صحفية أُجرِيَت معه في التاسع من شهر تشرين الأول من العام 2019، أي قبل 8 أيام من اندلاع أحداث “الثورة”، حيث أشار إلى عزم الإدارة الأميركية خلق فوضى “هدفها ضرب حزب الله في لبنان ومن خلفه خصوم أميركا في المنطقة”، عبر استغلال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العصيبة التي وصل إليها الشعب اللبناني، وقد ربط ذلك بكل الفوضى التي ساهمت أميركا بإرسائها في كافة أنحاء العالم.
من الطبيعي، أننا لا نتوخى، هنا، القول إن الناس التي كان قد أضناها شظف العيش، نزلت إلى الطرقات في تلك الليلة عن سابق تصوّر وتصميم بهدف الانخراط في الخطة الأميركية، إنما تم استدراجها إلى داخل إطار المُخَطَّط. لكن، وقعت على تلك الشريحة مسؤولية كبرى عندما توضّحت الأمور فورًا بعد أيام قليلة من بداية الحراك، وأضحى “المُصِرُّ” على “مشروعية” المشاركة في “الثورة”، أداةً طوعيّة داخل المسعى الأميركي.
منذ البداية برَز أن الهدف هو الفوضى، وأن مسار “الثورة” يستهدف بالدرجة الأولى ما تبقى من مقوّمات داخل كيان الدولة، وأن مجرى الأمور يتخذ الطابع التدميري لكافة أدوات الصمود، وتحطيم ما تبقّى من مكوّنات في الدولة اللبنانية كدولة، وبالتالي جذب عناصر الفوضى. وهو مسار تدميري لا يمتّ إلى إصلاح أو تأهيل، بل إلى اضطراب واختلال.
سلك مسار “الثورة” دهاليز “الضّياع”، وغدا التَشَتُّت يشكّل الظاهرة الأبرز في الحراك. اختلط الحابل بالنابل، واستُهدِفَت مباني القيَم الفكرية والثقافية. إلى جانب الفوضى المادية، إن ما حدث جسّد نوعًا من الفوضى الفكرية، بغية شرذمة الوعي لدى “الثوار” كي ينقادوا بمرونة، وينفذوا، من دون معارضة، ما يُطلب منهم ضمن البرنامج المُؤطَّر مُسبقًا.
ما ذكرَهُ في إطلالته الأخيرة الأمين العام لحزب الله، سماحة السيد حسن نصر الله، عن ترويج ثقافة الميوعة والتفاهة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وضرورة مواجهتها كونها تشكل تهديدًا كبيرًا على الجيل الشبابي خصوصًا، وعلى المجتمع بشكل عام، يسلّط الضوء على مجال مفصلي يعمل له الأميركيون، ومعهم الغرب، لإفراغ المضامين الفكرية والقيَميّة من داخل أطُر الثقافة المجتمعية التي يتمتّع فيها الشباب اللبناني، يشرّع الطريق نحو اختراق مقوّمات التنشئة الثقافية لدى الشباب، بعد تفريغ مضامين الوعي المعرفية من عقولهم، هم الذين يشكّلون نقطة الارتكاز في أي مشروع “ثوري” ملوّن بصبغة القيَم الأميركية البراقة والجذابة.
وصف السيد نصر الله أحداث 17 تشرين وما تلاها بـ “فوضى تشرين”، وهو أدقّ تعريف لما جرى وقتذاك. إن أميركا، القوة الامبراطورية المتهاوية، لا تقنط من محاولات الانقضاض على المقاومة، إن “طردناها من الباب أتَتنا من الشباك”. منذ ذلك التاريخ، دخل لبنان عصر الفوضى الهدّامة، يُحَطَّمُ فيه كل العناصر الأساسية لاستعادة النهوض، ويغرق فيه الوعي عند أعماق الانحطاط الأخلاقي والفكري والقيَمي، ويغدو ذلك الوعي آلةً متحرّكة تحت جناح القوة المهيمنة التي تريد تدمير كل شيء، لتنفيذ مشاريعها اللعينة.
17 تشرين ما هي إلا محطة ضمن مشروع عام هدفه تعميق الهيمنة الشاملة الأميركية على لبنان، عبر إزالة كافة العوائق وتحصين مصالحها التي تضمن السيطرة وتمنع الخروقات.
هكذا يُعبّد أبناء العم سام مسالك فَوضاهُم التي تُتيح لهم العبث بالأوطان، واللعب على أوجاع الناس الصادقة رغبة منهم في تحقيق أهدافهم “الاستعمارية” بأقل خسائر ممكنة، على حساب كُروب الناس وآلامهم.
اللعنة الحقيقية على شعوب عالمنا ومواردنا وإمكاناتنا ومقدّراتنا هي اللعنة الأميركية، تلك اللعنة التي خيّمت بأثقال فوضاها على كاهل الشعوب والمجتمعات، اللعنة التي قتلت أطفال فلسطين ولبنان منذ عشرات السنين، واللعنة التي حضنت كيانًا عنصريًا استباح دماء شعوبنا وهتك مقدساتنا، اللعنة التي طمست طموح شعوبنا بالتغيير وأحلامهم بالازدهار. لا بدّ لنا إن أردنا العيش الكريم، أن نزيل هذه اللعنة، وأن نفتّت كافة مشاريعها.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.