تعتبر عملية المقاومة التي تخوضها الأمم ضرورة حقيقية فيما لو تعرّضت إحداها لغزوٍ ما، عسكريًّا كان أو ثقافيًّا؛ فعلى مر السنين كانت ثقافة المقاومة حالة قائمة بذاتها تبثّ الوعي في عقل الأمّة، لتنشأ بذلك علاقة طردية بين المقاومة والوعي، فكلّما نضجت فكرة المقاومة وزاد الإيمان بضرورتها ارتفع وعي الأمّة.
لطالما أوجدت حالة الوعي المقاوم هذه المتاعب للاستكبار وأذنابه في العالم، ولطالما أنتجت هذه الحالة أيضًا قيمة للأمّة نفسها التي حُفظت بسلوك درب الرفض للاحتلال، للعدوّ، ولكل ما هو ضار بسمعة الأمّة وحقيقة الأمّة وهوية الأمّة.
إنّ السلوك في درب المقاومة هو سلوك طريق واضحة، معبّدة الأهداف، ويختلف هذا الدرب عن غيره من الطرق التي يلتجئ لها الحكّام عادةً، حيث إنّ هذا الدرب يستخدم المبادئ كركيزة فكرية لمشروعه؛ فالمقاومة تقوم بمسارٍ ثابت، بلا تنازلات وبلا قيود تحكمها وبلا اتجاهات ملتوية تؤثّر في مسارها، ويكون هذا السلوك بخلفية «حالة عقلية» تُدرك من خلالها طرق خلاص المجتمع. ولا شك أنّ هذه الحالة العقلية إنّما تحدث بالتفكّر والنظر والاستفادة من التجارب الماضية التي حوّلت تهديداتها لفرصة قوّمت من خلالها عناصر الدولة القادرة والمستطيعة لحماية أرضها بشعبها وجيشها فتنهض بالسلاح لتبعد العدوّ.
وجود هذه الأمّة اليوم مهدّد، إذ إنّ الجسم الغريب الذي زرعته أيادي الاستكبار في قلب المنطقة لا يزال قائمًا، فـ”إسرائيل” لا زالت تشكّل خطرًا كبيرًا على كل بلدان وشعوب المنطقة، ما يعني ضرورة السعي لمواجتها وقتالها، ولكن لأنّ طريق المقاومة هو طريق مليء بالصعوبات وعلى سالكيه تحمّل ما فيه من أخطار، نشأ تيار جذبته الدعة وحب الاسترخاء والميل للاستسلام والجلوس جانبًا أو تحت خدمة العدوّ، وهذا ناجم عن قلّة الوعي أوّلًا، وعن انعدام الثقة بالنفس وبقدرة المقاومة على صناعة الفارق وإدراك الهدف بإزالة خطر العدوّ وردعه ثانيًا. هذا بالطبع إذا استثنينا وجود شريحة عميلة تخدم العدوّ ومشروعه.
على ضوء ما ذكر كان على المقاومة في لبنان أداء دورها بصناعة وعي يؤيدها، وذلك إنّما يحصل بتجسيد الرؤى الفكرية لمدرسة المقاومة بتجربة واقعية تصبح نموذجًا يُحتذى به فيما بعد. ونظرًا لأهمية هذه المدرسة كان لا بدّ من معرفة أهدافها، فهذه المعرفة بحدِّ ذاتها هي تعبير عن الوعي فيما لو تلقّفها المجتمع.
نحن نعلم أنّ الحركات المقاومة في العالم إنّما نشأت على بناءٍ فكريّ أدى تكامله لولادة حركة لها وجود وأُطر تحاكي خلفيتها النظرية. وعادةً تكون أولى خطوات هكذا حركات هو الإعلان عن أهدافها ومبادئها وطريقها للتغيير. وفي هذا السياق نجد أنّ العنصر المشترك بين كافة حركات المقاومة هو ارتباطها بالقاعدة الجماهيرية، فهي بذلك تؤسس لمجتمع يتبناها ويحمل فكرها وهويتها، وهذا ما يحصل عند استقطاب فئات المجتمع لحراكٍ شعبي تنشر به أوراق الوعي.
لقد رأينا كيف قام قادة هذه الحركات في مختلف الظروف والبلدان بتحميل الشعب مسؤولية القيام، وقد عمل هؤلاء القادة على بناء الفرد المقاوم وإدراجه داخل الجماعة المؤدلجة.
لم تكن المقاومة في لبنان وحركاتها يومًا تعبّر عن حالة فوضوية قائمة على العبث، بل العكس تمامًا، فنلحظ أنّ أوّل عمل قام به قادة هذه الحركات هو نشرهم للوعي واستنهاض الجماهير وإعادة تشكيل هوية المجتمع وتوحيد عقله الجمعي حول ضرورة ثقافة المقاومة سواء عبر إحياء الروح الجماعية أو من خلال صياغة المسؤولية الفردية الملقاة على عاتق أفراد الأمّة.
من يظن أنّ قادة هذا الفكر كان أوّل أعمالهم هو حمل البندقية هو جاهل بتركيبة هذا الفكر، بل ويتغاضى عن قيمة أساسية فيه، فالسلاح منذ البداية كان ولا يزال أداة تخدم ثقافة ونظرية المقاومة، وتتراكم به إنجازاتها، وليس أنّ السلاح هدفٌ بذاته.
على صعيد المجتمع اللبناني، فإنّ حالة المقاومة فيه قد رسمت تاريخها المشرق من خلال تحرير الأرض، هذا بالإضافة إلى كونها قد أصلحت مفاهيم كانت سائدة في عقول الناس، من قبيل حصر المقاومة بالعمل العسكريّ، فاليوم لم تعد المقاومة محصورة بهذا العمل بل تعدّت ذلك لتشمل مجالات عمل أخرى كالعمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي… فنرى مقاومتنا اليوم ناشطة في كسر يد العدو عن لبنان في المجال السياسي، وتمدّ يد العون لأهلها في ظل الأزمة الاقتصادية عسى تخفّف عنهم بعض الشقاء، كما وتسعى لممارسة العمل الحكومي والإداري لرفع الحرمان عنهم، إضافة لممارسة دورها التشريعي بالحضور في البرلمان.
إنّ المقاومة اليوم أصبحت حالة في المجتمع اللبناني، أصبحت تعبّر عن هوية المجتمع، تعبّر عن عزمه، ورؤيته المتكاملة لضرورة القيام في سبيل نصرة وحفظ الوطن.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.