سلمان رشدي: عن الفن والدين والاستبداد والتوحيد

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

شادي علي* – خاص الناشر |

بين رشدي ودوجين .. صراع الأدمغة على الأدمغة

في تقرير[1] الأقليات الصادر عن الكونجرس الأميركي بتاريخ ١٠ كانون ثان/يناير ٢٠١٨ يخاطب النائب بنجامين ل. كاردين في المقدمة زملاءه، عن كيف أن “حكومة بوتن” تشن هجومًا “غير أخلاقي” من خلال التضليل المعلوماتي ودعم المجموعات السياسية “المتطرفة” وتستخدمها كأدوات لـ “الإسقاط المعنوي” لـ “قيم الديموقراطية والقانون”. وفي آذار/مارس ٢٠٢٢ صرح وزير الخارجية الأميركي أن الإدارة الأميركية أعدت قائمة بمن أسمتهم “النخب العاملة على البروباجندا بالتجهيل” والتي تشمل عقوبات مالية ومقاطعة إعلامية. لاحقًا أضيف ألكسندر دوجين وابنته إلى هذه القائمة في يوليو ٢٠٢٢ على خلفية ما أسماه التقرير: “إدارة الفيلسوف الروسي لبعض المدونات التي تروج للبروباجندا القومية المتطرفة التي تستهدف “الجمهور الغربي والقيم الغربية””. يستطرد البيان المنشور[2] على مواقع جميع السفارات الأميركية أن الإجراءات سببها أن هذه الشخصيات كانت تمارس “الانتقاد الشديد” بتوجيه من أجهزة مخابراتية وفي سياق حملة بروباجندا تستهدف أوكرانيا. لاحقًا بعد عدة أيام تناولت الاندبندت الأسترالية في عنوانها الرئيسي “دوجن” ووصفته بـ “الفاشيّ الذي أقنع بوتن بغزو أوكرانيا”[3]. إلى أن قامت الاستخبارات الأوكرانية في أغسطس/آب ٢٠٢٢ باستهداف المفكر الروسي بتفخيخ سيارته والتي راح ضحيتها ابنته.

تم تأسيس مكتب (مراقبة ومكافحة معاداة السامية[4]) التابع لوزارة الخارجية الأميركية في ٢٠١٤ ، وحسب المهام المنشورة على الموقع الرسمي فالمكتب يعمل على رصد ومكافحة أي محاولات “لتجريد “إسرائيل” من شرعيتها” فضلًا طبعًا عن تجريم معاداة السامية وإنكار الهولوكوست. لم يكن المكتب وقتها موجودًا ليقيّم المخاطر “الفكرية” التي يمثلها ناجي العلي وأدت لاحقًا لاستهدافه، ولكنه استنتاج بدا نتيجة طبيعية طبقًا لرسالة الباحث النيوزلندي ستيفين و. سميث في رسالته “الكارتون ومعاداة السامية الجديدة”، التي تناولت أعمال ناجي العلي وكانت خلاصتها: “رسوماته تجاوزت خطوط الانتقاد لتحمل رسائل قويّة تزرع في مخيّلة الجمهور العربي أفكارًا تعادي السامية”، ليتلقّى ناجي بعدها ١٠٠ رسالة تهديد بالقتل رحّلته الكويت على إثرها إلى لندن بضغط من السعودية، ثم لاحقًا قتله الموساد ليدفن في لندن خلافًا لوصيته أن يُدفن في مخيم عين الحلوة في لبنان.

في دول أخرى مثل بريطانيا لا يفرق القانون بين الدولة والأسرة الملكية، حيث يعد “تلويث” النسل الملكي وجعله موضع “شك” جريمةَ “خيانة” يعاقب عليها القانون. وفي نسخة أكثر “حداثة” يعد نشر وترويج وتدريس الأفكار اليسارية في الولايات المتحدة فعل “خيانة وطنية” وصلت ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حالة هستيريا الاعتقال والقتل في فترة ما عرف لاحقًا بالمكارثية، كان أشهرها إعدام الزوجين يوليوس وإيثيل روزنبرغ في حزيران/يونيو ١٩٥٣.

أما عواقب التعرض لرموز “الدولة” كعقد اجتماعي ومؤسسات ورموز فهي لا تقل فداحة عن ذم الذات الملكية، فتهمة “إهانة وتحقير رئيس الولايات المتحدة” تُعدّ “جريمة فدرالية” يُعاقَب عليها بالسجن من خمس إلى عشر سنوات ثم ثلاث سنوات من المراقبة مع غرامة قدرها 250 ألف دولار! وقد لا يصل الأمر إلى المحاكمة والوقوف أمام قاضٍ، فقد تتكفل “النسور” F16 بعمل اللازم مثلما حدث مع الفنانة العراقية ليلى العطار بعدما رسمت وجه جورج بوش على أرضية مدخل فندق الرشيد فتم استهداف منزلها وقضت مع زوجها في حزيران/يونيو ١٩٩٣! ولا داعي لذكر أمثلة عن عقوبة إهانة أتاتورك في تركيا باعتباره رمز الدولة أو إهانة السمو الملكي أو الأميري في إحدى دويلات الخليج، ولنكتفِ بأمثلة عن قوانين دول “العالم الأول”!

هذه الأمثلة وغيرها دليل على أن المطالبة بما يسمى “عدم عسكرة الثقافة وعدم تسييس الفن” هي شعارات لا تُرفع إلا في وجه كل من هو غير أورومركزي أنجلوسكسوني أو كما يحبون تسميته بـ “العالم المتحضر”، وبهذا يتناقض سلوك “النموذج الغربي” مع فكرة “العقد الاجتماعي” التي يقدمها كتصوّر للعلاقة بين أفراد المجتمع قائمة على تبادل المنفعة وحفظ حدود الحرية الفردية ونسبيّة الأحكام الأخلاقية، وبالتالي فإن الأفكار -أي أفكار- خاضعة لقانون التدافع ولا تحتاج إلى أي رقابة من أي سلطة (إلهية فطرية أو تعاقدية منفعية)، وأن سنن التدافع كفيلة بإسقاط الأفكار الرديئة، وأن عوامل الجمال والأخلاق في الأفكار البناءة كفيل بانتشارها لأنها تحمل عوامل نجاحها ذاتيًّا، يظهر ذلك بشكل واضح -على سبيل المثال لا الحصر- في تعاطي الإعلام الغربي مع ما ورد في استراتيجية الأمن القومي الروسية للعام ٢٠١٥، بسبب الأولوية الرابعة التي كانت حفظ وتطوير القيم الروحية والأخلاقية والثقافية التقليدية الروسية، والتي على أساسها أصدر الكرملين قوانين تجريم ترويج المثلية الجنسية وقرار حظر عمل الوكالة اليهودية.

الازدواجية الغربية في التعامل مع الحضارات الاخرى ليست شيئًا جديدًا، في مجال التجارة لطالما كانت قيود التجارة الدولية في صالح دول الغرب التي سعت الى رفع القيود تحت شعار “العولمة” والتكامل في اتفاقيات دولية، وبمجرد أن يكون رفع القيد لصالح دول العالم الثالث فإنه يتم تنفيذ “إجراءات حِمائية” لحماية “المنتج الوطني”، وفي مجال الثقافة والإعلام تنادي بإطلاق حرية التعبير وحرية النشر والصحافة، ثم تلغي وجود بعض الاشخاص في الفضاء المجازي أو تحظر استخدام مصطلحات أو أفكار بعينها، ولا يتوقف الحظر على ما تعتبره أفكارًا أو نصوصًا تشجع على “الإرهاب” بل امتدت إلى ما يسمونه “القوى الثقافية اللاعقلانية”[5]، وتحت هذا التصنيف تم حظر علامات ورموز مثل حركة “احتلوا وول ستريت” و”حياة السود مهمة BLACK LIVES MATTERS” و”مناهضة حركات النازية القومية الأوكرانية” وغيرها.

قد يكون مفهومًا لدى الفكر الإسلامي عدم التفريق بين الدين والدولة، ومن ثم مفهوم القول بوجوب صيانة أفكار الجماعة المسلمة من الشبهات والأفكار المنحرفة وحفظ الهوية الجماعية -بما تتضمنه من رموز وثوابت-، وأن هذه الأخيرة يمكن أن تكون مكوّنًا أساسيًّا في أمن المجتمع الإسلامي (وأمن المستضعفين[6] بمفهومه الشامل)، خاصة تلك التي تعدّ معتقداتها ومنظومتها الأخلاقية بمثابة العمود الفقري لوجودها وأساس تماسكها وفعاليتها وتفاعلها بل وحياتها، فيما أن سلوك القيادة الغربية على مدى التاريخ كان معبّرًا عن وجود حالة من عسكرة الفن والثقافة والإعلام (Weaponizing Art and Culture) أو في الحد الأدنى الرقابة والسيطرة فيما تنكر ذلك على الحضارات والثقافات الأخرى، أو حتى تنكر وجود ميدان “حرب ثقافية” من الأساس!

المقاومة والصوابية السياسية

الجديد والغريب في حكم الإمام الخميني بحق سلمان رشدي أنه كان نموذجًا جديدًا لـ“مقاومة فكرية” خارج المعايير الغربية لـ “السلوك المشروع”، فهو أولًا علنيّ وليس على غرار “النفاق السياسي” لمجالس الأمن القومي وأصحاب القرار من مواقف مزدوجة حتى تتهرب من المسؤولية الأخلاقية، وما تقوم به من إجراءات لا تتسق مع قيمها المعلنة مثل التصفية والابتزاز والإرهاب والإغراء، أو حتى تتهرب من المسؤولية السياسية عندما تتعلق إجراءات “مجالس الأمن القومي الغربية” بشخصيات رسمية وأنظمة ودول أخرى “مارقة!” كما في حالة محاولة اغتيال فيدل كاسترو ومعمر القذافي. كانت فتوى السيد الإمام الخميني استنادًا إلى نموذج السياسة الأخلاقية التي جعلت خياره في التعامل مع التهديد خيارًا علنيًّا. وكثيرًا ما كانت “الأخلاقية السياسية” لمحور المقاومة وثقافة “أداء التكليف الشرعي لا رضا الناس” سببًا في اتهامه بإهمال “الرأي العام” في كثير من القرارات والمواقف مثل التدخل العسكري المباشر في سوريا أو الحكم على سلمان رشدي، إلا أن حقيقة الأمر أن الولي الفقيه لا يراعي معايير “الصوابية السياسية” (النفاق السياسي) التي يراعيها الغرب.

الأمر الثاني في فتوى السيد الإمام الخميني، والذي يعتبر غريبًا على معايير “المجتمع الدولي”، هو “أممية الفتوى”، أممية من حيث إنها لا تراعي مصالح شعب محدد داخل الحدود الجغرافية للدول كما ينظر لها “القانون الدولي” بل تراعي مصلحة “الأمة الإسلامية” ككل، وأممية من حيث إن التكليف فيها متوجّه إلى عموم المسلمين كأفراد بتنفيذ الحكم الصادر وليس إلى هيئات إنفاذ القانون المتخصصة، وهذا ما يتّسق مع ثقافة “السيادة الشعبية الدينية” التي كانت أساس الثورة الإسلامية في قبال فكرة “احتكار الدولة للعنف” التي تعتبر من أساس فكرة “الدولة الوطنية”. وسنعقد مقارنة بين الاثنتين وآثارهما على مستقبل المشروعين في آخر البحث.

الأمر الثالث أنها مواجهة عابرة للساحات من المواجهة الثقافية الى ردّ الفعل الصلب/الأمني، خلافًا لكل الأصوات الإصلاحية الداعية إلى “التهدئة” بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستفراد القوى الغربية بإيران الخارجة من حرب السنوات الثماني المهلكة مع العراق، لكن ذلك لم يجعل الإمام الخميني يتردد في الإعلان الصريح عما يمليه عليه واجبه الشرعي. وبالأدلة التي انتهت إليها الأجهزة الأمنية للثورة أن “الآيات الشيطانية” عمل في ظاهره ثقافي وفني وفي حقيقته أداة جديدة من أدوات الاستعمار تم استخدامها في سياق عالمي يستهدف المجتمع الإسلامي.

جدلية: الدين والفن – الاستبداد والتوحيد

في حين ينظر الدين الى الجمال على أنه من الصفات الإلهية وواحدة من وسائل تهذيب النفس واكتساب الكمالات المعنوية، واستخدم القرآن أسلوب القصص بكل ما يحتويه من الفنون البلاغية والسردية، إلا أن ما يطلق عليه “الفن لذاته” المتحرر من اي هدف أو رسالة غالبًا على مستوى الفرد ما كان ينبع من قوى النفس المظلمة التي تستهدف إشباع اللذات الحسية وإثارة الشهوات النفسية (مثل التمرد على القيم والأخلاق في حالة الآيات الشيطانية)، وعلى مستوى المجتمعات، كان هذا النوع من الفن مقترنًا بالسلطة الفرعونية، أدت ضمن سياقات تاريخية واجتماعية أخرى إلى وجود تصور للعلاقة بين الفقيه والفنان في إطار من التنافس حد التخاصم، فالفقيه أدواته: (العقل والفلسفة والاتصال بالوحي) وغايته: “التكامل الفردي والاجتماعي بتقييد السلوك البشري والسيطرة على الغرائز الأساسية بالأخلاق”، في حين أن “الفنان” أدواته الأساسية هي: “الخيال والحس المادي” وغايته النهائية “التحرر” من كل القيود في الحياة وتجاه الحياة “غريزة البقاء”. وكنتيجة طبيعية لهشاشة الفن وحاجته إلى الدعم والحماية ووجود تشابه في الأهداف والأدوات نشأ تحالف بين الفن وبين السلطة المركزية (الفرعون / الملك / رأس المال). النتيجة كانت توظيف “الفن” كأفضل أداة لدى السلطة للتحكم بالجماهير، لإثارة العواطف عند الحاجة، والتخدير والإلهاء عند الحاجة، والإجابة عن أسئلة ما بعد الموت وطمأنة خوف الإنسان من العدم واللامعنى، والأهم هو السيطرة على المخيال الجمعي وتشكيل هوية مجتمع بديلة تنافس دعوات الأنبياء والأولياء والفقهاء، ابتداء من سحرة فرعون أو قصّاصي جيش معاوية[7] وصولًا إلى نماذج معاصرة مثل الإعلام الخليجي أو الشعراء الشعبيين (مهاويل العشائر) الذين توظفهم بعض التيارات المنحرفة في العراق، على سبيل المثال. وتدريجيًّا أصبح وجود الأجهزة الإعلامية ضرورة تضاهي أهمية أجهزة الجيش والشرطة باعتبارها من الأعمدة الأساسية للمدنية الحديثة، يقول المتنبي: (إذا كان بعض الناس سيفًا لدولةٍ * ففي الناس أبواقٌ لها وطبولُ).

كانت أولى الإشارات في القرآن الكريم لخطورة الفن كأداة وقوة اجتماعية لها تأثير مصيري على الدعوة الوليدة في قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا …). تبعت ذلك حوادث مشهورة في التاريخ الإسلامي مثل أحكام قتل بعض الشعراء والمغنين في فتح مكة -وإن تعلقوا بأستار الكعبة- وتحريم بعض التصاوير والمنحوتات، ما فسره بعض المؤرخين أنه لم يكن تحريمًا في نفسه وإنما مرتبطًا بترويج رموز وثنية أو مسيحية كانت رائجة في هذه الاعمال الفنية على سبيل الحكم المؤقت، ثم لاحقًا بعد ذلك وبالتدريج أمكن في فنون النحت والرسم والتصوير في خبرات المسلمين استبدال المحاكاة الوثنية والإغريقية بالأشكال الهندسية وفنون الخط العربي، الذي يعتبر حسب المسيري[8] أحد آثار إسلامية المعرفة على الفن، الذي أدى إلى تحوّل التشخيص في الهيئة المادية -كإحدى أهم خصائص الفن المسيحي- إلى تجريد الصورة وترميزها، الذي منح الفن الإسلامي آنذاك القوة على حمل فكرة التوحيد.

الفن والسيطرة الحديثة والاستعمار

الفن إذًا سلاحٌ ذو حدّين، قد يكون أداة للتهذيب والهداية والتنوير والتحرير، أو قد يكون كما يقول الفيلسوف مصطفى حجازي “من آلات الحرب.. وأدوات السيطرة.. وسلاح استعماري.. للتلاعب بالعقول والقلوب والأنفس البشرية، من خلال ادارة الادراك الجمعي يجعل الآخر يفكر كما تريد، وبالتالي سوف يتصرف كما تريد”. ولا يتوقف شرَه الاستعمار أو السلطة عن استخدام الفن عند حد إدارة الإدراك الجمعي بما يحفظ المصالح الاقتصادية للنخبة الحاكمة أو للمستعمر بل يستمر حتى الوصول إلى السيطرة والقيادة. يقول الفيلسوف الإيطالي غرامشي عن الفن: “يتعدى حفظ المصالح الاقتصادية الى ممارسة القيادة الفكرية والأخلاقية”. كانت تطلق على عملية توظيف الفن في خدمة الأجندات الاستخبارية الاسم الكودي “LONG LEASH” أي “اللجام البعيد”[9]! كما هو مدوّن في أرشيف CIA، وتجنُّبًا للإطالة فمن أراد التوسع في أمثلة وأدلة علمية ووثائق من الأرشيف حول توظيف وكالة الاستخبارات الأميركية CIA لـ “الفن” كأداة استعمارية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية -على سبيل المثال- من أجل “تطهير” ألمانيا من بقايا النازية ومكافحة الفكر اليساري في ألمانيا الشرقية فليراجع كتاب “من يدفع للزمار، الحرب الباردة الثقافية” لـ ف. س. سوندرز. (ترجمة عاصم الدسوقي).

بشكل عملي يقول تشومسكي في “الاستراتيجيات العشر للتلاعب بالمجتمع”: “التركيز على الجانب العاطفي إحدى التقنيات الكلاسيكية التي تهدف إلى منع التحليل العقلي والتفكير الفردي السليم، إضافة إلى أن مخاطبة الجانب العاطفي تفتح الأبواب والمداخل إلى اللاوعي وتمكننا من غرس الإيديولوجيات والاحتياجات والمخاوف وعدم الاطمئنان وأساليب التعامل التي نشاء في اللاوعي”. وفي كتاب الفريق بشير الوندي “موسوعة الاستخبارات”[10] في الفصل المنشور على الانترنت “الاستخبارات وتدوير المجتمعات[11]” فإن أول أهداف أجهزة الأمن المعادية في الحرب النفسية أو الثقافية ضد مجتمع ما هو “ضرب مرتكزات الفكر التعبوية والتنظيمية والفكرية بوسائل الجدال والسخرية وابرازها كقيود لا تليق بحرية الانسان، وإحداث مناورات فكرية لإلهاء الفكر المستهدف من خلال مشاكل، كالإلحاد أو المثلية؛ لتصبح قنابل دخان ملهية لتشغل الجميع عن المخططات الحقيقية، ثم ضرب حصانة المقدسات الفكرية من خلال بيئات دولية ومحلية والتجرؤ عليها واتهامها بالتخلف أو بالفساد وبكنز الاموال أو تبذيرها، وقبل ضرب المرتكزات الفكرية ورموزها تجري الاجهزة الاستخبارية المعادية دراسة دقيقة لتحديد مدى تشكيل الفكر وفاعليته لدى المجتمع المستهدف ومساحة الاشعاع الفكري للفكر المستهدف وهل يقف عند طبقة ما أو في منطقة جغرافية معينة أو وسط طائفة معينة؟ كذلك يتم تقييم قوة الفكر واساسياتها هل هي تاريخية أم فكرية أم اقتصادية أم تعبوية؟ ثم دراسة ارتباط الفكر بخارج الخارطة الوطنية أو القومية أو المجموعاتية المستهدفة، ثم ضرب القيم المجتمعية باعتبارها مصدر منعة وقوة المجتمع كالشرع، الحرام والحلال، الاخلاق، ومفهوم العيب، وصولًا الى مرحلة تستطيع من خلالها نشر مفاهيم لا أخلاقية ما كان للمجتمع أن يفكر مجرد تفكير في قبولها.

وإحدى أهم نقاط القوة التي يحاول الإعلام الغربي ترسيخها حول “الأدب النهضوي التنويري” هي تحصينه من المحاسبة طبقًا لاعتبارات الذوق العام أو المحاكمة والنقد العلمي؛ فخدش الحياء يتم الترويج له باعتباره إحدى القيم الرجعية كون البذاءة والإباحية تُروَّج تحت ستار “الواقعية الفنيّة”، وهروب أي عمل “إبداعي” من المواجهة النقدية يتم بذريعة أن الفنتازيا والعوالم والشخصيات الخيالية -حتى وإن كانت تقتبس أو تحاكي وقائع تاريخية وشخصيات مقدسة- لا يمكن وضعها تحت نظر التدقيق العلمي، لأنها في النهاية “خيال”! ثم إن الفقيه لو حاكم النص الأدبي محاكمة علمية ومن ثم منع نشره بين عوام الناس لاعترضوا عليه بزعم أن فعله ادعاء لامتلاك الحق والحقيقة اللذين هما نسبيان وبالتالي فإن امتلاك الحقيقة والتصرف على أساس ذلك يعتبر رجعية و”جريمة بحق الفن والحرية”!

وهكذا يلعب أمثال رشدي في مساحة رمادية تتأرجح بين التأريخ والخيال الذي يطلق قلم صاحبه في الإيحاء والانتقاص مع حصانة من أي مطارحة علمية حول المكتوب. هذا الاتهام بتمامه وجهه إلى رشدي و “الآيات الشيطانية” اللورد شوكروس (Showcross) في جريدة التايمز اللندنية[12]، ومثله شهادة كبير حاخامات بريطانيا اللورد جاكوبفيتز؛ كون الرواية -وأقتبس نص كلامهم- “تزوّر سجلات التاريخ الثابتة”. يقول بيكاسو إن “الفن كذبة نفهم بواسطتها الحقيقةّ”، إلا أن كذبات رشدي لم تؤدِ يومًا لأي فهم فضلًا عن تصوّر أي حقيقة.

ماذا حدث؟ ولماذا؟

وقت كان الاتحاد السوفياتي متّجهًا نحو نهايته، وكان الأميركيون والبريطانيون شديدي الاعتزاز بالإنجاز العظيم المتمثل في “انتصار الديمقراطية ذات الأصول اليهودية – المسيحية”، وبدأ الحديث عن “الخصم الأخير” لانتصار الغرب، وهو -بحسب تعبير صامويل هنتنغتون-: “الإسلام الذي يملك تخومًا دمويّةً”، وتحديدًا في الهند باعتبارها آخر المستعمرات الأنجلوسكسونية، والتي على إثر أزماتها الداخلية انفصلت عنها باكستان وتكوّن مارد مسلم آخر إلى جوار إيران، التي بدورها انتصرت لتوّها في حرب السنوات الثماني، كان رشدي قد حقق نجاحًا باهرًا برواية أطفال منتصف الليل التي حصدت جائزة البوكر ثم جائرة (رواية العام) التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر وحصلت على جائزة أفضل كتاب أجنبي في فرنسا. ثم تَقرر استخدام هذا النوع من “الفن” الذي ينتجه رشدي ضمن مقدمات أخرى، مثل الصدمات الاقتصادية والكوارث الاجتماعية، لممارسة القيادة والسيطرة الفكرية على المجتمعات الإسلامية.

في الآيات الشيطانية لجأ رشدي إلى لعبة الوصف المطوّل والمضخّم لحياة صلاح الدين شامشوالا (الهند) وجبريل فاريشا (باكستان)؛ ميلادهما، أصولهما، تربيتهما، نشاطاتهما، مغامراتهما، أسفارهما – كمقدمة للتعبير عن حقيقة اصطدام الهند وباكستان أو العلمانية والإسلام بتيار الحداثة الأوروبية الجارف[13]. ولم يكن تصدير صورة التفاهة والعبثية عن رسالة الإسلام والهوية الجامعة لمهاجري شبه القارة الهندية المسلمين (الباكستانيين لاحقًا) منعزلًا عن الصراع “الإسلامي – العلماني” في شبه القارة الهندية إبان انفصال باكستان عن الهند، التي يرجع إليها “صلاح الدين شامشاوالا” (بطل الرواية / الهند) بعد تصالحه النهائي مع والده ومع مدينته بومباي ومع عشيقة صباه “زينات وكيل”، في قِبال البطل الآخر جبريل فاريشا (باكستان) الذي لم يتمكن من شفاء نفسه من “مرض الغربة / الانفصال” ولم يتصالح مع مدينته ومع الهند، ثم انتهى به الحال إلى الانهيار النفسي والعقلي التام ومن ثم الجنون والموت انتحارًا!

ثم يصور رشدي في الآيات الشيطانية -بتهكم- الحياة في مدن باكستان عمومًا وبعض مدن الهند ذات الأغلبية المسلمة -بومباي- خصوصًا، على أنها تحت سيطرة شرائح اجتماعية -يسميها البرجوازية الآسيوية الإسلامية- التي ليس لها هم سوى جمع المال وإنفاقه، ولا تعرف من الأخلاق إلا الأنانية الضيقة والمصلحة الطبقية الفجّة، ومن الدين إلا التعصب الأحمق للمصلحة، ولا من المواطنة إلا الشوفينية الانغلاقية الجوفاء، ومن القيم إلا الاستهلاك ونفاق التسلّق إلى أعلى، ومن الحياة المدنية إلا التسلية العامة في البذخ والتنافس على الإسراف، ومن السياسة إلا القمع والتسلط.

ثم يحشر رشدي مسلمي الهند في إطار الصراع الطبقي لما أسماه جدل الصراع بين الطبقات والجماهير (Masses and Classes) ليوجّه سهامه إلى ما يسميها “البورجوازية الآسيوية الإسلامية”، ما تسبب لاحقًا في أن الهجمات الدموية على المسلمين في الهند كانت تقع غالبًا في المناطق التي يميل فيها وضعهم الاقتصادي والتجاري إلى الازدهار ووضعهم الاجتماعي والسياسي إلى الصعود.

ولا ينفي رشدي أن أفكاره المطروحة في “رواياته” هي خارطة طريق وغطاء أخلاقي للسياسيين نحو توجّه معيّن. يقول: “لا سبيل للأدب إلا الدخول في النزاعات السياسية والاجتماعية، لأن المتنازع عليه ليس هو إلا الواقع بحد ذاته. ما هي الحقيقة؟ وما هو الخيال؟ إذا ترك الكُتّاب مهمة رسم العالم لرجالات السياسة يقترفون بذلك (أي الكُتّاب) واحدًا من أكثر أعمال الاستسلام خِسّة في التاريخ”[14]. ثم لاحِقًا اعترف رشدي في رسالته إلى رئيس الوزراء الهندي آنذاك (راجيف غاندي) بأن الآيات الشيطانية كتاب يهمّ الهند بالدرجة الأولى و”يعمل لمصلحتها”[15]!

قضى رشدي شبابه في كشمير، أحد أقاليم الهند الملتهبة والمختلطة عرقيًّا ومذهبيًّا، وعايش أزمات نشر أعمال تسيء لمقدسات، كان آخرها قصة قصيرة تسيء للنبي محمد في صحيفة الدِكان هيرالد والتي أفضت إلى أحداث شغب قُتل فيها خمسون شخصًا[16]، كما أن السيد كوشوانت سنج (مستشار دار بنجون للنشر – غير مسلم) قام -وفق ما نشرت النيويورك تايمز- بتحذير الناشر من أن نشر (الآيات الشيطانية) سيؤدي لاضطرابات في الهند، ثم نقلت الجريدة عن زمير أنصاري (ممثل دار بنجون في الهند) تأكيده وصول ذلك التحذير[17] إلى رشدي.

ولو حاول التنويرين العرب فهم سياق الرواية ومنطلقات فتوى الإمام الخميني، وتوقفوا للحظات عن الاستغراق في تقديس الحقوق الفردانية، وتناولوا كتابات رشدي من زاوية تساؤلات:

هل ضاق خيال رشدي ليقوم بتركيب روايته “الخيالية” على شخص النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) دون غيره؟

هل ضاقت سيرة النبي إلا عن مجموعة المواقف والمفاهيم التي يعرّف المستشرقون بها الإسلام من مدسوسات مثل حادثة الغرانيق وغيرها؟

هل تهديد الهوية الجمعية للمسلمين من خلال السخرية والانتقاص عمل مجدٍ؟

هل يمكن فعلًا إصلاح ثقافة عظيمة عبر إهانتها؟

هل أن كل الدعم المادي والإعلامي والسياسي الغربي للآيات الشيطانية بما فيها الترجمة والنشر على أوسع نطاق عمل يتعلق بالحرية الفردية وحدها؟

إن لم يكن بمثل (الآيات الشيطانية) فكيف يمكن استهداف “المارد المسلم ذي التخوم الدموية” بشكل ممنهج ومنظم يصل إلى درجة فعل dehumanization الذي يُمارَس على الجنود كمقدمه لأوامر “القتل”[18]؟

يدعي من يدافع عن سلمان رشدي أنه ضحية وقاتل في الوقت نفسه، فهو ضحية تراث “الإسلام الأموي” بكل ما تحتويه مدوناته من تصورات بدوية عن الكمال مثل “طواف النبي على زوجاته في اليوم”، أو خرافات مثل: “تشكيك السيدة عائشة بالوحي” أو “تلاعب الحجاج بنص القرآن” أو “حادثة الغرانيق” وغيرها من الخرافات الأموية، وأن رشدي -كما يذكر صادق جلال العظم في “ذهنية التحريم”- لم يفعل شيئًا سوى أنه نقل رواية الطبري عن حادثة الغرانيق وحوّلها إلى قالب درامي حواري، وأن تحدي رشدي للمقدس لا يختلف كثيرًا عن تحدي الخليفة الأموي الوليد بن يزيد للمصحف -كرمز للنص المتحجر- وتمزيقه[19].

 يدافع رشدي عن نفسه أن كل إسقاطاته نقلها من تاريخ الطبري حرفيًّا، ثم أن رشدي ضحية مرة أخرى لديكتاتورية عسكرية في باكستان تسترت على استبدادها باسم الإسلام، ثم أهانت الإسلام مرة أخرى حين تحالفت باسمه مع أميركا. ولكن السؤال: هل أن ابن إقليم كشمير الملتهب والباحث والصحفي ولاحقًا الروائي العالمي لا يستطيع التفريق بين التراث الأموي وجوهر الإسلام الأصيل؟!

لاحقًا، وبعد مئات السنوات أمكننا الآن الحكم بوضوح على شخصيات مثل كعب الأحبار وتميم الداري ووهب بن منبّه وأثر ما كان يُعرف بـ “القصاصين” وحكاياتهم المحملة بالإسرائيليات واختراقها التراث الإسلامي[20]، فهل سيمكننا قبل فوات الأوان إدراك جناية معاصرين من أمثال: سلمان رشدي وأدونيس وغيرهما؟

الفقيه والولاية على المجال العام

العمل في المجال العام، وخاصة المجال الثقافي من خلال الفن، وما دام يمسّ هوية المجتمع والذوق العام ويؤثر على السلم الاجتماعي فلا بد من أن يخضع للمراقبة والمحاسبة، ويجب أن يتم التعامل معه بأقصى درجات الحزم إذا كان في سياقات سياسية اقليمية ودولية تدعو للريبة المشروعة، خاصة مع سوابق توظيفه وتوجيهه من أجهزة استخبارات عالمية. بالتالي فإن إطلاق الحكم الشرعي -الفتوى- كان عملًا طبيعيًّا من وظائف الحاكم الشرعي (الولي الفقيه) لحفظ الدين ومصالح الأمة والمجتمع والدولة. بحسب الاجتهاد الشيعي فإن الخطاب المتوجه إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرً﴾[21] كان المقصود به هو “الجهاد الثقافي” والردّ على شبهات الكفّار وأعداء الدين حسب تفسير العلّامة الطبرسي للآية[22]. يقول المرجع الشيعي المعروف السيد محمد حسين فضل الله (رض) إن فتوى (حكم) السيد الإمام الخميني (رض) التي صدرت في شباط/فبراير ١٩٨٩ كانت مسبّبةً باعتبار رشدي: “يمثل خلفية استعمارية لإثارة الجوّ ضد الإسلام والمسلمين، وأنه كان محمّلًا بالخطط الاستعمارية الغربية ضد الإسلام وهو بذلك من المفسدين في الأرض”[23].

عن ذلك يقول الإمام الخميني في (الوصايا السياسية الإلهية): “من جملة المخطّطات التي تركت -وللأسف- أثرها الكبير في مختلف البلدان وفي بلدنا العزيز -والتي ما زالت بعض آثارها باقية بنسب كبيرة- هي جعل الدول المستعمرَة تعيش حالة فقدان الهوية والانبهار بالغرب والشرق، إلى درجة تجعل هذه البلدان تحتقر ماضيها وثقافاتها وقدراتها وتعتبر الغرب والشرق القطبين المقتدرين والعنصرين المتفوّقين أولي الثقافة الأسمى وأنّهما قبلة العالم وتجعل من الارتباط بأحدهما أمرًا مفروضًا لا يمكن الفرار منه… بل إن الأمر بلغ حدًّا جعل الكتاب والخطباء الجهلة المأسورين للغرب أو الشرق يتناولون بالانتقاد والسخرية ويدمّرون كلّ ما لدينا من الثقافة والأدب والصناعة والإبداع للقضاء على فكرنا وإمكاناتنا الذاتية وزرع اليأس والقنوط لدينا، مروّجين -بدلًا من ذلك- للعادات والتقاليد الأجنبية -رغم انحطاطها وابتذالها- وذلك بالقول والكتابة والسلوك العملي”.

لم تكن فتوى الإمام موجهة ضد إلحاد شخص بعينه، فهناك مرتدون ولا أدريون في إيران مثل كل بلدان العالم، ولم يصدر فتوى ضدهم ولم يفتّش أحد عن نواياهم أو عن مدى التزامهم الديني مثلما تفعله هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أفغانستان والسعودية، وما دام أن موقف الإنسان من الحياة ورؤيته للحياة لم تخرج عن حدود الاعتقاد الشخصي إلى المجال العام فهو خارج سلطة الدين والولاية الثقافية، بل إن سلمان رشدي نفسه -قبل أن يستخدم فنَّه كأداة إضلال وتسقيط خدمة لأجندات أجنبية- كانت وزارة شؤون النشر في إيران الثورة نشرت له روايتي “العار” و”أطفال منتصف الليل” بعد ترجمتهما للفارسية، ثم حدث أن وافقت اللجنة الوزارية العليا في البلاد على منح (جائزة الدولة المرصودة لترجمات الأعمال الأجنبية إلى الفارسية) إلى رواية “العار”[24].

سرّ التوقيت .. وماذا بعد؟

المفارقة أنه واستمرارًا لسياسة “التغافل العربي” قرر نقاد عرب[25] غض الطرف عن أي احتمال لوجود صراع بين الايدولوجيا الغربية مع الإسلام وبين الفكر المادي والإلهي الأخلاقي مع فهم التاريخ من منظور أورومركزي وشرقي، وتبنوا فكرة أن تصدير رشدي لأفكار اليسار التروتيسكي (يسار اليسار) واستعمال مفردات “التنوير” وخطاب العدالة الاجتماعية ودعمه حركات تحرر مثل منظمة التحرير الفلسطينية والساندنيستا في نيكارغوا، ما هو إلا غطاء لتشيعه! وأن فتوى الإمام الخميني ما كانت إلا مناورة سياسية ثقافية لترويج الرواية وانتحال دور المدافع عن الإسلام السني، وأنهما (الخميني – رشدي) اجتمعا على هدف إسقاط التحالف الإسلامي في باكستان (حزب الرابط الإسلامية). عزز هذه الرواية أن مسببات الحكم الواردة في بيان الإمام الخميني اقتصرت على “إهانة النبي والإسلام والقرآن” كمسببات للحكم، ولم تتضمن إشارة إلى إهانة رشدي لمقام زوجات النبي[26]!. المفارقة الأكبر أنه بعد أيام قليلة فقط من زيارة ديبورا ليبستاد مبعوثة مكافحة معاداة السامية إلى السعودية وتصريحها عبر “قناة الحرة”: “أن الفئات الشبابية في السعودية أصبحت أقل معاداة للسامية لأنها أصبحت أقل تديُّنًا وأكثر انفتاحًا ثقافيًا على الغرب، ما يمثّل تفوقًا لليبرالية الأميركية على أفكار أخرى منها العلمانية الفرنسية”[27]! أقدم فتى شيعي أصوله من جنوب لبنان وأنفذ حكم مرجع شيعي في إيران ليترك أصحاب نظرية “المؤامرة والمسرحية” بين رشدي والإمام الخميني يضربون كفًّا على كفّ.

إذا عزلنا تأثير البروباجندا الليبرالية الداعمة لرشدي وجهود تبرئته بدعوى حرية الفن وعدم عسكرة الثقافة وحرية النشر والتعبير و”إنسانوية وحداثوية” “الآيات الشيطانية”، فإن سلمان رشدي وبالتعريف العسكري/الأمني كان ولا يزال “جنديًّا” في جيش عدو، انضمّ إلى فرقة اغتيالات متخصصة، واستهدف أرواح وثروات جماعة واسعة من الأمة الإسلامية. وسواء قام جيش العدو بعملٍ مماثل أو لم يقُم، فسيبدو قتل رشدي أمرًا طبيعيًّا وبديهيًّا مثل قتل أي مجرم معتدٍ أبرم اعتداءه بوعي تام ومع سبق الإصرار والتعمُّد.

نظرة الإسلام إلى الحياة تجعل فكرة التدخل بالقَصاص العادل أكثر رحمة من الانسحاب لترك المجتمع أمام مصيره مع عدوّ يعسكر كل شيء وأي شيء، أو أن يتفاعل المجتمع مع الاعتداء عليه بشكل غير منضبط وعشوائي، الذي أدى سابقًا إلى اعتداء على مؤسسات إعلامية أو سفارات أو كنائس أو إحراق الإنجيل، كردود فعل غاضبة -لا شك محرمة شرعًا- في قبال الاعتداء على رموز إسلامية. ولولا تعزير المجرم -كحالة فردية- وردع أمثاله وتفريغ الاحتقان داخل المجتمعات الإسلامية، فلا أحد يدري إلى أين كان يمكن أن تصل كرة النار.

لا يمكن أن نسقط احتمال أن توقيت إرخاء القبضة الأمنية حول رشدي كان بترتيب استخباراتي من جناح الجمهوريين في الدولة العميقة، بهدف تفويت الفرصة على الديموقراطيين الذي أرادوا تحييد إيران كعدو محتمل في العقل الجمعي الاميركي قبل أن يجلسوا معها على طاولة المفاوضات ويوقعوا اتفاقًا لحل أزماتهم الاقتصادية قبل شتاء ٢٠٢٣، ولكن رب ضارة نافعة؛ فلربما صار الآن التغلغل الإسلامي في المجتمعات الغربية نقطة قوة جيواستراتيجية كقوة شعبية لا تقل أهمية عن الفصائل المسلحة وحركات التحرر المنتشرة في البلدان العربية والإسلامية كجزء من محور المقاومة.


[1] https://www.govinfo.gov/content/pkg/CPRT-115SPRT28110/html/CPRT-115SPRT28110.htm

[2] https://lb.usembassy.gov/targeting-russian-elites-disinformation-outlets-defense-enterprises/

[3] https://independentaustralia.net/politics/politics-display/alexander-dugin-a-russian-fascist-who-helped-convinced-putin-to-invade,16145

[4] https://www.state.gov/about-us-special-envoy-to-monitor-and-combat-antisemitism/

[5] https://news.artnet.com/art-world/ten-artist-books-of-2016-793520

[6] مصطلح أمن المستضعفين ورد في دراسة حديثة للكاتب أ. هادي قبيسي.

[7] ينظر: الشيخ كاظم آل ياسين، تاريخ سيد الاوصياء.

[8] انظر: عبد الوهاب المسيري، إشكالية التحيز: في الفن والعمارة.

[9] https://www.independent.co.uk/news/world/modern-art-was-cia-weapon-1578808.html

[10] تحت الطبع.

[11] منشور بتاريخ ١٥/١١/٢٠٢٠

[12] عدد ٠٣/٠٣/١٩٨٩

[13] صادق جلال العضم، ذهنية التحريم، ص ٢٥٦

[14] سلمان رشدي، أوطان خيالية، ص ١٠٠.

[15] نيويورك تايمز ١٩/١٠/١٩٨٩

[16] H. V. Ravinder, New York Times, 26 February 1989. “The Week in Review”, p. 22.

[17] علي الأمين مزروعي، القوى الثقافية في السياسة العالمية، ص ١٥٥.

[18] انظر: صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح، بيار كونيسا

[19] ذهنية التحريم، صداق جلال العظم، ص ٢٢٤

[20] ينظر: الشيخ كاظم آل ياسين، تاريخ سيد الاوصياء.

[21] سورة الفرقان، الآية 52.

[22] يُنظر: مجمع البيان، للشيخ الطبرسي، ج7، ص175.

[23] خطبة جمعة مسجد الإمام الرضا (ع) – بئر العبد – بيروت. (٢٤/٠٢/١٩٨٩)

[24] حسب ما ورد في (كيهان الثقافي) عدد ٠٩/١٢/١٩٨٨

[25] ينظر: زهير علي شاكر، الغراب الأبيض، ص ٩٣ – ٩٦.

[26] المصدر السابق، ص ١٣٨.

[27] https://www.alhurra.com/different-angle/2022/06/24/%D9%85%D8%A8%D8%B9%D9%88%D8%AB%D8%A9-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%81%D8%AD%D8%A9-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9

*طالب في الحوزة الدينية

@Eng_Shady_Ali تويتر:

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد