لطالما ترددت على مسامعنا في مناهج الدراسة حقيقةٌ كنا نتغنّى بها ونحن صغار، مفادها أن لبنان هو بلد غني بثرواته المائية وأنهاره ومياهه العذبة حتى اكتشفنا فيما بعد أن ما تزرعه الكتب في عقولنا يظل في الكثير من الأحيان “معرفة” دون أن يترجم واقعًا يستفاد منه. وبحكم أننا نعيش في دولة اعتاد حكامها على نهب ثرواتها واستغلالها أو إهمالها وهدرها فإنه من المتوقع جدًا أن تبقى تمنيات الأجيال بالاستفادة من ثروة بلادهم قيد الكتب والمناهج.
ثروة لبنان المائية بين الإهمال والتقصير
صفعات تتوالى، وأزمات تتزاحم، وانهيارات تتسابق، وأمام هذا الواقع لم يسلم من هذا التدهور الاقتصادي الكبير أي من موارد الدولة وقطاعاتها الحياتية وعلى رأسها الموارد المائية، والتي كانت منذ ما قبل الانهيار تعاني من مظاهر التلوث والإهمال والتقصير.
في دراسة نشرت عام 2016 في كتاب “أطلس لبنان”، أشارت المعطيات الواردة الى حجم الثروة المائية التي يملكها لبنان، اذ يبلغ متوسط تساقط الأمطار ما يقارب الـ 855 مم سنويًا، وفيه 40 نهرًا رئيسيًا منها 17 دائم السريان، وتمثل المياه الجوفية نحو 18% من موارد البلاد وتضمن استدامة العديد من الأنهار التي تغذيها الينابيع المنتشرة في المناطق.
هذه الوفرة في الموارد المائية لا تعني مطلقًا وجود “اكتفاء” لدى اللبناني في حاجته اليومية للمياه لأن المقصود بها هنا هي ” الوفرة” التي ذكرتها كتب مناهج التعليم منذ العديد من السنوات، ولأن الواقع هو في اتجاه مستمر نحو الأسوأء، فإن الهوّة بين الوفرة والاكتفاء هي في اتساع متزايد.
تواجه الثورة المائية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، عددًا كبيرًا جدًا من المشكلات والعقبات التي لا تتيح استخدامها كما يجب أو تحد من استخدامها، يأتي في مقدمتها الهدر الحاصل للمياه في البحر والذي يقدر بحوالي 1.2 مليار م3 سنويًا، بالإضافة إلى حجم التلوث الكبير الذي تعرضت له مصادر المياه بسبب غياب شبكات الصرف الصحي، وفي حال وجودها انعدام أعمال صيانتها، فضلًا عن الانتشار الكبير للمكبات العشوائية واستخدام الأسمدة والمبيدات ورمي الزيوت والمحروقات في طبقات المياه الجوفية والأنهار والبحر. ومن ناحية ثانية، فإن المشكلات والعقبات ترتبط أيضًا بسوء الإدارة والإشراف والمتابعة من قبل المعنيين في الدولة، والأمثلة على ذلك عديدة أبرزها استغلال الآبار الجوفية المخصصة للمواطنين من قبل عدد من أصحاب المصالح التابعين لجهات سياسية معينة في سبيل تنفيذ مصالحهم الخاصة كريّ مزروعاتهم وأراضيهم، وقد وصل الأمر إلى حد قيامهم ببيع هذه المياه للمواطنين والتي هي في الأساس من حقهم، وقد وصلت أسعارها إلى حد الـ 500 ألف ليرة لكل 20 برميلًا. وهذه النماذج منتشرة خاصة في القرى والبلدات النائية.
ومن ناحية ثالثة وأخيرة، ثمة مجموعة من المشاكل التي تعود أسبابها إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، ما تسبب بفقدان الكهرباء والمحروقات اللازمة لتأمين ضخ المياه، فضلًا عن عدم توفر المبالغ المطلوبة لدى الوزارات للقيام بأعمال صيانة البنى التحتية.
كل هذه الأسباب إذًا تأتي مجتمعة لتنتج عجزًا في الميزان المائي، وتسبب بالتالي نقصًا في كمية المياه المتاحة للمواطنين، الأمر الذي سبب أزمة معيشية حقيقية تبرز معالمها يومًا بعد يوم في مختلف المناطق اللبنانية.
الحلول متاحة، ينقصها التطبيق!
لا يقل عدد الحلول المقترحة لأزمة المياه عن عدد المشاكل التي تسببت بها، إذ ثمة حلول عملية فعالة بإمكانها معالجة الأزمة بشكل جدّي أو على الأقل الحد منها. تتوزع هذه الحلول ما بين أطراف الأزمة من مواطنين ودولة؛ إذ يتحمل كل طرف مسؤوليته في المعالجة وتنفيذ الحلول، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، العمل بشكل فعال على تخزين كمية المياه المهدورة سنويًا في البحر عبر بناء المزيد من السدود في مناطق لبنانية مختلفة وحيث يتناسب، والحد من تلوث الموارد المائية على اختلافها عبر فرض عقوبات وغرامات مالية على كل من يعتدي عليها من أشخاص ومؤسسات ومصانع وغيرهم دون استثناء لأحد، بالإضافة إلى ضرورة قيام الدولة بواجباتها في صيانة البنى التحتية والمتابعة المباشرة من قبل الوزارة مع المديريات والبلديات في مختلف المناطق للحد من عمليات “احتكارالمياه” المخصصة للشعب.
في سبيل الحفاظ على مواردها الطبيعية والمائية، تلجأ الدول إلى كل وسائل الدفاع المتاحة لها والتي قد يصل بعضها إلى حد شن الحروب والتهديد بها، ونحن في هذا البلد المغمور بنعمة المياه، لا زلنا نحارب النعمة، ونعتدي عليها، إلى حد جعلنا كشعب ودولة مجرمين بحقها، وبالتالي بحق أنفسنا، ولكن لا بد لنا بعد ما حل بنا من خراب، أن ندرك أهميتها، وأن ننهض مجددًا لنحيي ما تبقى فينا من رمق أخير ومن قطرة أخيرة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.