‏مهزوزةَ الهيبة إسلاميًا.. السعودية تستقبل بايدن

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

تحط اليوم طائرة الرئيس الأميركي في السعودية. “استثنائية”، “تاريخية”… التهافت على النفخ السعودي بصورة الزيارة -التي وصفتها “هآرتس” الإسرائيلية بالمملة- انطلق قبل إقلاع طائرة بايدن أصلًا. وتجنّدت أقلام البلاط السعودي، للتمجيد بما وصفته بالانتصار السياسي لحضور ولي العهد وهيبته على مستوى الساحة الدولية. وبمعزل عن نتائج الزيارة التي سيُكتب عنها، وقفزًا عن أسبابها التي سبق وأن تناولناها في مقال سابق (زيارة بايدن إلى السعودية.. ابن سلمان يمنح “إسرائيل” الجائزة) . لا بد لهيبة ابن سلمان الدولية من أن تأخذ شيئًا من حقها في التناول. وبغض النظر عن أن واشنطن لا ترى في الرياض سوى خزان نفط هي في أمس الحاجة إليه حاليًا، إلا أن لهيبة محمد بن سلمان المسحوقة في الشوارع الاسلامية، نتائجها على صورة نفوذ الرجل وحضوره في الحسابات الأميركية.

رغم ما كانت تمرره من تحت الطاولة، حافظت المملكة السعودية على مدى تسعة عقود، على مكانة معينة لها في العالم الإسلامي. المملكة التي يعيب “نخبها” اليوم عدم الفصل بين الدين والسياسة، وظفت الدين، بأسوأ نسخه المتمثلة بالوهابية، في كل مفاصل سياساتها، وأدارت المدراس الدينية، التي نشرتها على مستوى العالم الاسلامي والأوسع حتى، لتمارس دورًا مهمًا في سياساتها الخارجية بالتأثير وصناعة النفوذ في العالم الإسلامي، ولإنتاج وتعزيز تطرف كان يؤدي دورًا وظيفيًا في ضرب خصوم واشنطن أو الرياض، شيوعيين أو قوميين أو اسلاميين. لكن في الأعوام السبعة الأخيرة تبدلت السياسات، ومن مصادرة العنوان الإسلامي انتقلت الرياض بقبضة ابن سلمان إلى تبني العنوان العربي، لتضيّقه لاحقًا في إطار “السعودية العظمى”. وبوتيرة سريعة كان يجري ضرب المؤسسة الدينية؛ اعتقلت شخصيات بارزة على مستوى تأثيرها داخليًا، وجرى قطع أذرع المؤسسة الاخطبوطية التي كانت تطال في أكثر مفصل. بالكامل بدت المؤسسة الدينية عاجزة، وهي التي كانت يومًا ما تتمتع بنفوذ ضارب أزعج ملوكًا. ومقابل أفول الخطاب الديني، كانت الأضواء تُركز على عناوين الترفيه وحفلاتها وما رافقها من ممارسات خادشة للحياء كان يتوقف عندها الإعلام الأجنبي بدهشة. سريعًا كانت صورة السعودية تتبدل، يراقبها العالم الإسلامي بذهول. تكميم الأفواه الذي تمكن من الداخل السعودي، لم يكن مقدورًا عليه في الخارج. خاصة وأن هذا الخارج، بجزء لا يُستهان به، كان نتاج خطاب ديني وظفت السعودية كل إمكانياتها لتصديره على مدى عقود. وفيما كان حسابات سعودية تمارس عمليات دعائية للسعودية الجديدة من خلال نشر فيديوهات لحفلات موسم الرياض والمهرجانات المتنقلة، كانت فيديوهات تركز على فضائح ممارسات لا أخلاقية نُشرت من قبل حسابات لشخصيات ومؤسسات في الدول الإسلامية الآسيوية، حيث ثقل العالم الإسلامي شعبيًا، فيما كانت التعليقات تعبر عن مستوى السخط من الممارسات التي تشهدها بلاد الحرمين. وكانت استنكارات تخرج في مقالات صحفية أو عبر المنابر التي تملك جماهيرية في تلك البلاد، تحرك السفارات السعودية باتجاه المؤسسات الرسمية أو الحزبية، وتطلق المشاريع والمساعدات. كما شهدت دول معينة كباكستان زيارات على مستوى أعلى والاعلان عن تقديم هبات مالية، كان يرتبط ذكرها بالحديث عن حرص سعودي على تشبيك العلاقات وعلى نشر صورة أكثر اعتدالًا عن الاسلام.


بهذه العناوين كانت الرياض تبدي حرصها على عدم القطع مع العالم الإسلامي، إلا أن الجهود والتركيز الأكبر كان ينصب على تغيير وجه السعودية، ما كان يجعل تحركات السعودية بلا جدوى على مستوى الشارع الإسلامي، الذي لطالما كانت علاقته بالرياض تستند إلى المكانة الدينية التي اكتسبتها بإشرافها على الحرمين. وكانت المواقف المستنكرة والغاضبة تخرج بصورة فردية في موقف هنا أو خطاب هناك، إلى أن كانت موجة الغضب التي خرجت بداية بشكل عفوي لتعلن رفضها تعيين وزير العدل السابق وأمين عام رابطة العلماء المسلمين، محمد العيسى، خطيبًا لعرفة، لتغزو بشكل فاق التوقعات منصات التواصل الاجتماعي. تسونامي الغضب الإسلامي كسر هذه المرة كل ما حرص عليه ملوك آل سعود منذ تأسيس السعودية الثالثة؛ لم تكن هيبة محمد بن سلمان هي المستهدفة لأن أي وجود لم يلاحظ لها يومًا على مستوى الساحة الاسلامية، هي هيبة السعودية ككل، سعودية سلمان وابنه وما بعده… إن كُتب له خلف.

على مدار سبعة أعوام، لم تكن مشكلة شعوب العالم الإسلامي تكمن في سياسات ابن سلمان تجاه المؤسسة الدينية، بقدر ما كانت تكمن في الاشارات العلنية التي تحملها سياسات بيت الحكم السعودي التي تحمل معالم طلاقٍ بيّن بين الرياض وثوابت العالم الاسلامي التي تمسه في الصميم. الخطاب السعودي المستعدي للفلسطينيين، ولما تصفه السعودية بحركات الاسلام السياسي، ومشروع صهينة الداخل السعودي، كبوابة تشرع لصهينة المنطقة برمتها. وفيما كان التطبيع السعودي يمضي من تحت الطاولة، وتمظهراته تخرج إلى العلن في كل فترة، بزيارة يقوم بها سعوديون للأراضي المحتلة، أو مصافحة بين مسؤولين من الجانبين تلتقطها الكاميرات، أو المشاركة جنبًا الى جنب بندوات مشتركة، واطلالات سعودية عبر القنوات الصهيونية أو مقابلات تجريها صحف المملكة مع مسؤولين اسرائيليين، واستقبال شخصيات صهيونية بعناوين دينية واقتصادية… أو بالتسريبات التي تلزمها الاعلام الاسرائيلي لفضح مستوى لقاءات الطرفين كاللقاء الذي جمع نتنياهو بمحمد بن سلمان في مدينة نيوم، كانت أخبار ذلك تحل في أحاديث السياسة اليومية، يتلقاها الشارع الاسلامي جرعة جرعة. وفيما كان الرهان على أن تخدير الوعي الشعبي بابتلاعه للطعم على جرعات، بدا أن الواقع مختلف، هي جرعات الغضب تتراكم بانتظار أي لحظة، أخرجها الى العلن الالتفاف الشعبي حول عمليات سيف القدس الذي لم ينتظر أي مباركات رسمية، والتهليل لقادة المقاومة ورفع صورهم على جداريات في دول الخليج نفسها… لكنها خرجت بصورة الصفعة التي علمت على وجه السعودية ككل في ردود الفعل التي خرجت مع اعتلاء محمد العيسى منبر مسجد نمرة في عرفة، وهو الداعية الذي انتدبه محمد بن سلمان لكي يكون واجهة التطبيع الديني. محمد العيسى الذي اتهمته السلطة السعودية بالتورط في ملفات فساد، قبل أن تجرى تسوية القضية بدفعه مليار ريال. هكذا كانت تتبين أهلية الرجل، لتسند إليه قضية إفساد ما تبقى من صورة للدين، بالإمعان في تشويهه تطبيعًا. “الامام الصهيوني”، وهو الاسم الذي أطلقته وسائل اعلام صهيونية علي محمد العيسى، أولها موقع “اسرائيل اليوم”، الذي كانت ترجمه انتقادات العالم الاسلامي، كان يلقى تزكية اسرائيلية بالمقابل بوصفه أصدق تمثيلًا للاسلام الصحيح، وفق ما حدده لنا الإسرائيليون. بهذه الصلافة كانت تواجه سعودية ابن سلمان مشاعر العالم الاسلامي حتى في عمق عاطفتهم الدينية، ليغدو داعية التطبيع إمام أعظم الشعائر الدينية الاسلامية.

يوم الجمعة 8 تموز/يوليو، وفيما كان العيسى يهم باعتلاء المنبر كان صدى الرفض يُسمع من كافة أرجاء العالم الإسلامي، فتاوى وآراء لشخصيات إسلامية خرجت لا تجوّز الصلاة خلف إمام التطبيع، وتحض الحجاج على أداء الصلاة في خيامهم، وانتقادات لاذعة ما كانت تقف على شخص العيسى وحده، بل تطال عراب التطبيع محمد بن سلمان.
في آخر فيديوهاته على يوتيوب، يذكر الناشط السعودي المعارض عمر عبد العزيز أن اثنين “فقط كانا الأكثر غضبًا يوم عرفة هذا العام، إبليس لما رآه من غفران للذنوب، والثاني لم يكن غير محمد بن سلمان”، الذي لم تتمكن آلاته الالكترونية من التشويش على الانتقادات حملها التفاعل مع وسم (‎#انزلواالعيسىمن_المنبر) الذي غزا منصات التواصل. ومقابل الانتقادات، كانت المنصات السعودية تخرج للإشادة بمحمد العيسى وبما جاء في خطبته. ليس هذا وحده، بل إن الصور التي انتشرت عن القوات الامنية التي انتشرت في مسجد نمرة أثناء خطبة عرفة، كانت تعكس حجم الخوف الذي ينتاب السعودية الرسمية وقلقها من رد فعل ما. إلا أن موجة الانتقادات فرضت واقعًا أهم، اذ اضطر العيسى لحذف مقطعين من خطبته التي امتدت 12 دقيقة. وهذا ما كشفته النسخ المترجمة للأجنبية والتي جرى توزيعها الكترونيًّا مع بدء الخطبة. مقطعان اثنان قفز عنهما العيسى وثقهما النص الموزع: الأول يغمز إلى فضائل التطبيع وانعكاسات السلام على الأمة والثاني يتطرق لأصحاب الأجندات ممن يسمون أنفسهم مسلمين. خائفًا ومرغمًا اقتطع نظام السطوة السعودية المقطعين، هذه المرة كانت عصا العالم الاسلامي تؤدب ابن سلمان. استماتة الرجل على مدار سنوات سبع لصهينة الداخل والمنطقة بدت عبثية، أدبه الصوت المرفوع رفضًا له الذي لم يتمكن من كتمه أو إخفاته. أن يخرج متصهين لخطبة عرفة كان من شأنه أن يحدث كل هذه الموجة، فما الذي سيتوقعه الرجل في خطوات أكبر؟

بعد انتظار طويل، سيقابل بايدن ابن سلمان. بايدن المأزوم بحكم التحديات الاقتصادية المتعاظمة أميركيًا، يلتقي مأزومًا آخر، بحكم فشله المتراكم في كل الملفات والحروب التي فتحها. يعد بايدن بإدماج “اسرائيل” أكثر في المنطقة، فما الذي يمكن أن تقدمه السعودية المهزوزة الهيبة اسلاميًا على هذا الصعيد في الوقت الذي بدأت فيه أصوات تطرح تدويل الحرمين مقابل التطبيع؟ التعاون والتنسيق والتطبيع ماضٍ خلف الكواليس، يريده الاسرائيليون أن يخرج للعلن، ولكن ثمة مانع سبق وأن وصفه بنيامين نتنياهو بالعقبة؛ إنها الشعوب التي لا تزال تردد لاءاتها: “لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف”.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد