خالد زياد*- خاص الناشر |
هل جاءت صدفة أن يتبوأ سلمان الفارسي منصب المستشار العسكري للعرب المسلمين في غزوة الخندق؟ وكيف استطاع الفرس منذ ذلك الوقت التمهيد لعقد قران الحضارتين العربية والفارسية؟ وما الذي أنجبه هذا التزاوج؟
منذ غزوة الخندق واستثمار سلمان الفارسي وسام الشرف الذي منحه إياه النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين صرح في ملأ من صحابته بقوله (سلمان منا أهل البيت)، وربما كان ذلك مكافأة له على تغيير موازين القوى لصالح المسلمين في المعركة، شهدت الحضارتان العربية والفارسية على مر التاريخ الكثير من التداخل والامتزاج حتى وصلت في بعض المفاصل إلى حد الانصهار، وكذلك شهدت محاولات التنازع والتنافر أيضًا، ولكن إلى يومنا هذا لم تستطع أي منهما أن تستمر منعزلة عن توأمها وذلك لسببين:
الأول: طبيعة الفرس العاطفية وجموحهم المستمر نحو الطموح الفكري وبناء الامبرطورية.
الثاني: طبيعة العرب الصارمة وجنوحهم نحو الهدوء الفكري وشهيتهم الكبيرة لموائد الأدب والفن والرياضة والترفيه.
فكان الدين الإسلامي الذي حمله العرب للفرس بعد سقوط کسرى وانتهاء الحكم الوثني عقب معركة القادسية لبوساً للفرس لإشباع طموحهم الفكري وغذاءً معنوياً يناسب عاطفيتهم، وكان نتاج نهمهم المعرفي والفكري ونزعتهم الامبرطورية لبوساً للعرب لتشييد معالم حضارة ممتدة ومتجذرة وقوية.
بناء على ذلك نجد أن أغلب العلماء الذين أخذ عنهم العرب علومهم هم من أصول فارسية سواء علماء الدين كالبخاري ومسلم والإمام أبي حنيفة وغيرهم، أو جهابذة العلوم الأخرى كالخوارزمي وابن سينا وابن الهيثم وابن مسكويه.
تأثير خصائص الحضارتين العربية والفارسية على واقعهم :
من خلال التدقيق نلاحظ أن هذه الخصائص جلية في واقع الفرس إلى اليوم، حيث ما زالوا يتعاطون بعاطفية مفرطة سواء مع القضايا الدينية التاريخية، فتراهم ما زالوا ينحبون على فاجعة تاريخية مضى عليها ألف عام ألمّت بعائلة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أو في القضايا الدينية المعاصرة فتراهم يتعاطفون بشكل شديد مع قضية القدس وغيرها من القضايا التي يعتبرونها مصيرية في الإسلام.
وبنفس الدافعية يتعاطون مع الاهتمام العلمي والفكري، وهذا ما حفزهم نحو تحمل أعباء ومخاطر تصنيع النووي، الذي يرضي بشدة نزعة الامبرطورية التي تحكم عقليتهم السياسية والسيادية.
أما إذا أسقطنا خصائص الحضارة العربية وخصوصاً في منطقة الحجاز وشبه الجزيرة على واقعهم اليوم فنجدهم بارعين في مجالات الأدب والشعر والفنون والعمران وبرامج الترفيه الرياضة وخاصة رياضة الخيل والإبل، وأيضا ميّالين نحو الرومانسية الثقافية والعلمية والدبلوماسية السياسية وصارمين جداً في تناولهم للقضايا الدينية وفي وقوفهم عند حدود النص وتعاطيهم الحاد مع الموروث الديني متمسكين برزانة الظاهر رافضين النبش في أعماقه أو كشف أوراقه.
إن هذا العامل الذي لطالما اعتبر عاملاً تكاملياً مهماً لتفاعل وفاعلية كل من الحضارتين إلا أنه أسس أيضاً لخلاف عميق بينهما وما زال يتفاقم ويضيف إليه خلافات أخرى نشبت جراء تباين في المواقف السياسية عدا عن خلافات قديمة على ترسيم بعض الحدود وتسميات بعض المناطق المتداخلة كالخليج العربي أو الخليج الفارسي، ومنطقة الأهواز التي يقطنها عرب وهي جزء من حدود إيران اليوم.
ماذا نتج عن التنافر بين الحضارتين العربية والفارسية؟
كان أثر التنافر الذي حصل متأخراً بين الحضارتين العربية والفارسية بليغاً حيث أسس لظهور قطبين متناقضين
الأول والذي جاء متأثراً بالنزعة الامبرطورية آخذاً الشكل الملكي في الحكم وهو خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله والثاني الذي جاء متأثراً بالموروث الديني في شكل قيادته وهو ولي أمر المسلمين المرشد علي الخامنئي.
ظل هذان القطبان في تنافس دائم على قيادة العالم الإسلامي، لكن الوفاة المبكرة للملك عبد الله أعطت الفرصة للمرشد الخامنئي كي يكسب جولة في النزال للاستحكام ببوصلة العالم الإسلامي وتوجهات مشاعر المسلمين.
لماذا لقب الملك بخادم الحرمين فيما لقب المرشد بولي أمر المسلمين؟ وهل وفاة الملك السبب الوحيد في كسب المرشد جولة السباق؟
إن أكبر نقطة قوة للملك تربعه على رقعة منطقة شبه الجزيرة العربية والتي تحتضن الحرمين الشريفين مكة والمدينة قبلتي المسلمين ومقصدهما للحج والعمرة، وهذا ما جعله يلعب على الوتر الحساس في اختيار لقب جاذب لمشاعر المسلمين تجاهه. أما نقطتا القوة اللتان لدى المرشد الخامنئي ليمتلك لقب ولي أمر المسلمين فهما:
الأولى: نسبه الذي يعود إلى العائلة الهاشمية أي سلالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث يسمى هذا النوع من النسب بسلالة السادة والأشراف.
الثانية: علوم الفقه واللغة والقرآن التي حصلها في مسيرته العلمية والإضاءات الإعلامية التي حظي بها على تلك العلوم وتأليفه العديد من الكتب في مختلف المجالات. كل هذا منحه الفرصة ليسجل نقاطًا لصالحه في منافسة كسب قلوب العالم الإسلامي لأن المسلم سواء العربي أو الفارسي مأخوذ بدون إرادته في تمجيد التفوق العلمي وتأليف الكتب ويجد في موروثه الديني ما يؤيد هذا التمجيد والانبهار كالحديث النبوي الذي يتداوله جميع المسلمين في الحث على طلب العلم (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يطلب).
وقد لعبت ترجمة مؤلفاته وإطلالاته الإعلامية من الفارسية إلى العربية دوراً مهماً في هذا السياق، فيما لم يتم العمل إلى الآن أو إيجاد شيء منافس يمكن ترجمته من إرث الملك عبد الله من العربية إلى الفارسية ليحقق التوازن في بسط النفوذ والزعامة في هذا المجال.
أسباب أخرى
علاوة على تلك الفرص هناك أسباب أخرى لتقدم المرشد على الملك في زعامة العالم الإسلامي:
أولاً: طريقة تنصيبه ولي أمر المسلمين جاءت بأسلوب يشبه هيكلية مجلس الشورى الموصى به في الدين الإسلامي، وهو ما عرف بمجلس خبراء الدستور وإن كان يفتقر لوجود مسلمين ليست فقط أصولهم عربية، بل في حاضرهم عرب كي يكون مكتملاً. أما الملك عبد الله فكانت الظروف السياسية تحكم طبيعة توليه المنصب بشكل فردي وعلى أساس تشديد أمني وكبح حالات التمرد والخلافات القبلية التي حصلت في تاريخ المملكة، ولكنه منح نوعاً من الاستقرار في المملكة فتح الباب أمام المسلمين من كل أصقاع الأرض نحو التوافد إلى بيت الله الحرام مع بعض القيود بسبب ضعف الجهوزية في استيعاب أعداد هائلة كما في غيرها من الأماكن.
الثاني: براعته في الفصاحة واستخدامه اللغة العربية بشكل بليغ ومتقن أسهمت إلى حد كبير في تقليص حجم الفجوة وأبعدت من طريقه كثيراً من العراقيل نحو زعامة العالم الإسلامي.
الثالث: تحليه بكاريزما القيادة؛ فالإطلالة الإعلامية المتميزة تجذب المشاهد، والمظهر الخارجي له دور كبير في استمالة قلوب الناس نحو تقبل شخصية ولي أمر المسلمين والمقارنة في اللاوعي لديهم مع المظهر الخارجي غير المثير لخادم الحرمين.
الرابع: طريقة تعاطيه مع أصحاب المذاهب والديانات المختلفة في شؤون الدين والسياسة، ففي المجال الديني استثمر المرشد في عقوبة النفي التي تعرض لها في أوائل مسيرته إلى منطقة يقطنها أهل السنة ليقوم بدور المعلم والشيخ في تثقيفهم وتوعيتهم ليس وفق مذهبه بل قرأ كتبهم وقام بتربيتهم وفق مذهبهم بحسب كتاب “إن مع الصبر نصراً”، فكسب بذلك تأييدهم له، وكسب أيضاً احترام وتقدير أصحاب المذاهب والديانات الأخرى، بينما لم تتح مثل هذه الفرص أمام الملك ليعمل على تقوية مكانته العلمية واكتسابه المعارف لأنه حصر جهده في اللقب الذي اتخذه (خادم الحرمين) فجعل جلّ اهتمامه تقديم التسهيلات أمام مختلف المسلمين من أجل السياحة الدينية.
أما في المجال السياسي فكانت المواقف والإجراءات التنفيذية التي تبناها المرشد الخامنئي في دعمه للقضية الفلسطينية الحصة الأكبر من أسباب مقدرته على النفوذ إلى قلوب المسلمين وتحريك مشاعرهم تجاهه في الثناء عليه واتباع خطواته وتمجيد خطاباته والتجمهر حوله.
لماذا لا تكون المقارنة بين المرشد وولي العهد الجديد أو الرئيس التركي رجب طيب اردوغان؟
لا يتوقف السبب على عدم جدوى المقارنة بين المرشد الخامنئي وولي العهد الجديد محمد بن سلمان على مواقفه السياسية وتدخلاته الخارجية المضرة في العالم الإسلامي والمتصادمة مع مقولات الدين الإسلامي، ولكنه أيضاً انسلخ عن مبادئ سلفه بعد أن جعل الرياض وجدة مرتعاً للانحلال الأخلاقي والانفلات الديني المخالف لصريح عبارة الأحكام التشريعية الإسلامية وربما كان ذلك منه ردة فعل على تأثره بموجات التطرف التي كان ينظر لها سلفه بطريقة مختلفة عن واقع ما أحدثته في بلاد المسلمين، أو ميوله نحو موجات الحداثة والتطور والعولمة والانفتاح والسلام العالمي لإرضاء مشجعي الدين الابراهيمي الجديد سواء من سكان المملكة الأصليين أو السواح الوافدين من الدول الأوربية.
أما عدم جدوى المقارنة مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي كانت له محاولات حثيثة في تسلم زعامة العالم الإسلامي فالسبب أنه هدم كل الرصيد الشعبي الذي جهد في تحصيله عند قيامه بالأمس باستقبال العائلة الإسرائيلية وإعلان مواقفه الصريحة المقتنعة بالتطبيع، وهذا ما خلق استهجانًا كبيرًا له في العالم الإسلامي واعتبره البعض فضيحة ووصمة عار ألحقها بالأمة الإسلامية، واعتبر البعض أيضاً أن هذا الفعل الذي وصفوه بالمشين كان بمثابة سقوط مدوٍّ لآخر زعيم إسلامي من مذهب أهل السنة وأن ذلك سيؤدي إلى فراغ كبير وخطير لايمكن سدّه إلا بأحد الأمرين:
الأول: ظهور زعيم إسلامي سني يتمتع بكل مزايا وخصائص القيادة ويمتلك زمام المبادرة الدينية والسياسية والثقافية ولديه شجاعة الموقف واتخاذ القرار لمواجهة التحديات الراهنة وملم بالأمور العلمية والمعرفية ليكون على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه في القضايا المصيرية للأمة العربية والإسلامية.
الثاني: تعميم ولي أمر المسلمين المرشد الخامنئي كقائد سياسي بالحد الأدنى لكل الطوائف الإسلامية وللحضارتين المتمازجتين العربية والفارسية وإخراج هذا النموذج الفذ من أتون اللون المذهبي الضيق، وهذا لا يعد غريباً في التاريخ؛ فقد حصل من قبلُ جلال الدين الرومي على لقب المربي الروحي والمعنوي يتبعه جميع المسلمين على اختلاف طوائفهم ويتغنون بأشعاره ومقولاته.
وفي الدين الإسلامي الذي أتى به النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم فخشع له الفرس وتجردوا من عصبيتهم العرقية مجذوبين نحو سماته وأخلاقه، ما يؤيد ويحث على الخروج من التموضع الصغير والتقعّر الضيق والتقييم على أساس الناتج وليس على أساس العرق أو غيره مما لا دخل للإنسان في اختياره فيقول رسول الله محمد (لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
- كاتب عراقي
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.