حرس الثورة الإسلامية في لبنان.. صفحات من حكاية القيام

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

أربعون ربيعًا مرّ على نشأة حزب الله، حزب المقاومة والتحرير، والدفاع عن أرض الوطن. في هذه المناسبة لا بد من الحديث بما أمكن من اختصار عن دور حرس الثورة الإسلامية في تأسيس المقاومة الإسلامية في لبنان، وعما قدمه الحرس في سبيل لبنان واللبنانيين.

حسن باقري في ربوع لبنان
صيف العام 1980 وقبل شهرين من بدء الحرب المفروضة على إيران التي شنها نظام صدام حسين نشرت صحيفة “جمهوري إسلامي” بين 26-7-1980 و26-8-1980 خمسة تحقيقات متتالية عن الحالة العامة في لبنان من ضمن مجموعة من التحقيقات عن بلاد إسلامية أخرى بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لانطلاقتها. إلا أن المقالات اللبنانية التي نشرت بمعدل تحقيق كل أسبوع كانت مميزة؛ فقد تجول فيها معد التحقيقات غلام حسين أفشردي بين البقاع والجنوب وبيروت والشمال وجبل لبنان، مستطلعًا القضايا الرئيسية والمواضيع السياسية والاجتماعية والثقافية التي تهم اللبنانيين ويعانون منها في بلدهم. ورغم أن الكاتب أفشردي لم يطل المقام في لبنان أكثر من 15 يومًا إلا أن تحقيقاته أظهرت وكأن معدها ضليع في الشؤون اللبنانية أو أنه من أبناء البلد الأصليين. وقدّم أفشردي، في رحلته هذه، معلومات جديدة عن لبنان لا تزال مفيدة إلى يومنا هذا.

الشهيد غلام حسين أفشردي (حسن باقري) في بعلبك

من ضمن ما أورد الكاتب في ختام تحقيقاته مقطع لافت ذكر فيه شهادته وملاحظاته على زيارات قام بها إلى برج البراجنة وكفرتبنيت وبعلبك حيث كتب:
«أوّل سِمة تثير الانتباه حال الدّخول إلى هذه المنطقة (يقصد برج البراجنة)، الشّعارات والصّور والكتابات على الجدران. كان أمرًا لافتًا جدًا إذ لم يكن قد مضى على إقرار شعار الجمهورية الإسلامية في إيران سوى عدّة أشهر، ولم تكن مديريّات الجمهورية الإسلاميّة قد استعملت هذا الشّعار بعد، وكانت جوازات سفرنا التي حملناها معنا إلى لبنان لا تزال تحمل شعار النّظام الملكي، لكن شاهدنا على جدران إحدى المناطق التي يقطنها المسلمون في بيروت، نقشًا (رسمًا) لشعار الجمهورية الإسلامية في إيران. السّمة الأخرى، هي التّضامن القلبي للناس مع قائد الثورة الإسلامية في إيران، أعني الإمام الخميني. كانت صورة الإمام الخميني ترافق صورة الإمام موسى الصدر في كل مكان».

كذلك كتب عن زيارته لقرية كفر تبنيت:
«سألت امرأة قُرويةً مسنّةً: هل تعرفين الإمام الخميني وإيران؟ قالت: وهل يُمكن ألّا يعرف مسلمٌ الإمام الخميني؟! وعندما سألتها: ماذا تُريدين من الإمام الخميني؟ قالت: لا أريد شيئًا منه، لِيَكُن هو بخيرٍ وحسب، هذا يكفيني. مع كل هذه المشاكل التي تعصف ببلدهم، ولا يُراد إلا سلامة الإمام! ينبغي أن نعتبر من هذه المواقف».
ويستنتج أفشردي هذا الأمر أيضًا في زيارته إلى بعلبك وكل زياراته، كاتبًا: «كان شعوري في هذه اللّقاءات، أنّ عُرىً وثيقة جدًا، تربط بين مسلمي لبنان وشعب إيران المسلم المقاوم، خاصة عشق مسلمي لبنان للإمام الخميني”.

كان ذلك الصحفي الشاب الوادع الضعيف البنية الذي لم يتجاوز عمره 22 عامًا هو “نابغة الحرس” الشهيد حسن باقري الذي بزغت شمسه بعد أشهر من كتابة هذه المقالات (اللبنانية) على جبهات محافظة خوزستان، من عبدان إلى سوسنجرد، والذي تطوع في الحرب في صفوف الحرس كصحفي وكمجند احتياط خدم سابقًا خدمته العسكرية الالزامية التي رفدته بخبرة عسكرية متواضعة، إلا أنه وخلال أشهر قليلة أصبح بذكائه ودقة ملاحظته وبعقله وفهمه المتوقد، مع التجربة في الجبهات، أصبح قبيل استشهاده عام 1983 نائب قائد القوة البرية ومؤسس جهاز معلومات العمليات في حرس الثورة الاسلامية (الاستخبارات العسكرية)، وواحدًا من أربعة كانوا يجيزون العمليات الكبرى التي كانت تحصل بين خريف 1980 وربيع عام 1983، وأهمها سلسلة عمليات “والفتح المبين” التي انتهت قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 بأسبوعين وتمكن فيها الحرس ببراعة التخطيط وبجهد أساسي من فرقة محمد رسول الله 27 وفرق أخرى معاونة من تحرير مدينة خرم شهر وكامل قضاؤها وأسر 18000 جندي وضابط من جيش صدام فضلًا عن اغتنام عتاد ومدافع ثقيلة ودبابات حديثة يمكنها أن تسلح فرقة عسكرية كاملة .

مطار دمشق – حزيران 1982. وفي المقدمة الشهيد همت

“كنوز الثورة البشرية” في خدمة لبنان
كل هذه الثروة البشرية أو إذا جاز لنا التعبير “كنوز الثورة البشرية” التي كانت ملكًا للجمهورية الاسلامية وللشعب الإيراني العزيز، وكانت العماد العسكري لأخطر ركن في الجبهة الجنوبية في الحرب المفروضة، قدمها الإمام الخميني باسم الجمهورية الاسلامية للدفاع عن لبنان عندما اندفعت آلة القتل الصهيونية في 6-6-1982 لتجتاح لبنان وتصل إلى عاصمته بعد يومين قبل أن تصطدم بالبأس الذي سطره المقاومون في خلدة، ورغم استماتة العدو لاجتياز عائق لا يتعدى صوله 500 متر وعرضه 300 متر إلا أنهم صُدّوا على أيدي المجموعات الأولى من المقاومة الاسلامية وحركة أمل، وعانى جيش العدو من قتال كربلائي لخمسة أيام قبل أن تنجح قواته باختراق مناطق الشوف الأعلى والأوسط لتصبح فوق المجاهدين في منطقة عرمون فتصبح المنطقة ساقطة عسكريًا.

فور اجتياح الجيش الصهيوني لمنطقة صور جرى على عجل تواصل بين القيادة السورية بشخص الرئيس الراحل حافظ الأسد والقيادة الايرانية التي أرسلت وفدًا رفيعًا يضم وزير الدفاع اللواء محمد سليمي وقائد حرس الثورة الاسلامية الحاج محسن رضائي ونائبه الحاج أحمد متوسليان وقائد القوات البرية المشتركة في الجيش والحرس العقيد الشهيد علي صياد شيرازي. وتم على إثر ذلك توقيع اتفاقية تسمح للقوات من لوائي (58 ذو الفقار و27 محمد رسول الله من فرقة محمد رسول الله) اللتين كان يقودهما القائد الشهيد إبراهيم همت والشهيد موحد دانش، بالمرور عبر سوريا إلى لبنان لقتال العدو الصهيوني. وفي أقل من أسبوع كانت طلائع هذه القوة قد أصبحت جاهزة للانطلاق إلى سوريا التي بدأت تصلها تباعًا رغم أنها اقتطعت من الفرقة التي بقي القسم الأكبر منها منغمسًا في قتال شرس في عمليات بيت المقدس ضد جيش صدام. وفي هذه العمليات التي شارك فيها لواء ثار الله 41 أصيب الحاج قاسم سليماني إصابة بليغة كما أصيبت يده التي تأثر فيها إصبعان وأصبحا في حالة شلل. وقد أدت عمليات بيت المقدس المكملة لعمليات الفتح المبين إلى تحرير مدينتي شوش وديزفول الاستراتيجيتين ووصول القوات المسلحة الإيرانية إلى الحدود بعد 20 شهرًا من احتلالها من جيش صدام.

في الأسبوع الخامس للاجتياح ظهر تحول أساسي للاستراتيجية العسكرية الصهيونية؛ فبعد أن اندفع الإسرائيليون بأعداد كبيرة ( 120 ألف جندي) ليحتلوا وينتشروا في معظم الجنوب وجبل لبنان وقسم من البقاع الغربي باستثناء بيروت الغربية والضاحية الجنوبية وباقي أقسام البقاع والشمال، توقف الغزو الصهيوني بشكل شبه نهائي في البقاع الغربي بعد التصدي الاعجازي الذي نفذه الجيش السوري على طريق بيروت دمشق وفي القسم الشرقي من البقاع الغربي، وتحول تركيز العدو إلى حشد معظم قواته لحصار بيروت، فتحول الموقف العملياتي من تحرك لجحافل جيش العدو الغازية إلى تثبيت لمواقعها.

عندها وحيث إن الوضعية في لبنان كانت تتطلب ميدانيًا التسريع بإطلاق المقاومة وتنفيذ حرب عصابات على العدو، وبتوصية من القيادة المشتركة للقوات المسلحة قرر الامام الخميني (قده) تحويل مهمة “التجريدة” التي أرسلت إلى سوريا من مهمة قتال إلى مهمتي تدريب على القتال والدعم القتالي، فتم الإبقاء على حوالي 500 عنصر ليتولوا تدريب مئات الشباب القادرين على حمل السلاح على فنون القتال المرتكزة على حرب العصابات وتأسيس قوات شبه نظامية كتلك التي تأسست بمحافظة خوزستان في إيران في بداية الهجوم الصدامي برئاسة الشهيد الدكتور مصطفى شمران وكانت تسمى قوات العمليات غير النظامية، والتي تصلح عملياتها كثيرًا في لبنان في أي مجابهة مقبلة مع العدو الصهيوني كما كان يقول الشهيد شمران الذي استشهد قبل أقل من سنة من حصول اجتياح عام 1982 للبنان، هذا العدو الذي خبره الشهيد شمران جيدًا خلال حياته في المنفى في لبنان لأكثر من 5 سنوات قبل أن تنتصر الثورة الاسلامية في إيران.

هذا الكلام نفسه ردده الشهيد حسن باقري الذي زار لبنان عام 1980 واختلط بسكانه وجماعاته الطائفية، ونصح باقري في اجتماع ضم الجيش والحرس الايرانيين خصص لمناقشة الوضع في لبنان بتدريب جميع أفراد المجتمع في لبنان على السلاح والشؤون العسكرية وتنشئة شبابه تنشئة روحية معنوية.

وصول الطائر الميمون
يوم 26 حزيران 1982 الموافق لـ 5 رمضان 1402 هجرية
ظهرًا وصلت المجموعة الأكبر من المدربين إلى مطار دمشق الدولي على متن طائرة مدنية. وقف في باحة المطار ضباط كبار من وزارة الدفاع السورية ومن الشؤون المعنوية وشعبة الإعداد والتدريب، حيث كانت القيادة السورية قد أعدت لهم حفل استقبال عسكري يليق بقوات حليفة جاءت من فوهة بركان نصبه الاستكبار العالمي بطول 1200 كيلومتر من الفاو إلى حاج عمران لتدخل إلى فم التنين الذي نصبه الاستكبار العالمي نفسه على نصف مساحة لبنان.

نظر ضابط التشريفات السوري عندما فتح باب الطائرة محتارًا محدثًا نفسه مَن مِن هؤلاء الذين يبدو أن أمًّا واحدة قد ولدتهم هو القائد، حيث وجد أن جميع الضيوف الآتين من إيران متشابهون كأنهم توائم في الشكل والهندام والأجسام الضئيلة وسمرة الوجوه التي اكتسبوها خلال 21 شهرًا من البقاء على الثغور الجنوبية الغربية من إيران، والتي تتميز بالجغرافيا الصحراوية التي تكون الحرارة فيها في معظم أيام السنة بين 35 و50 درجة مئوية.

كان القائد أحمد متوسليان نائب قائد حرس الثورة الاسلامية ومساعده الشهيد إبراهيم همت قائد القوة 27 محمد رسول الله اللذين خرجا قبل أسبوعين من عمليتي “الفتح المبين وباب المقدس”، اللتين تابعهما الجنرالات السوريون والروس وجزموا بأنها عمليات ستدخل التاريخ في الفن التعبوي (العملياتي) العسكري إذ تمكنا فيها مع جنودهما والقوة 41 ثار الله التي كان يقودها القائد الشهيد قاسم سليماني من تحرير منطقة توازي ربع مساحة سوريا وأسر 29 ألف جندي وضابط عراقي (18 ألفًا في عمليات الفتح المبين و11 الفًا في عمليات بيت المقدس). عمومًا كان القائدان متوسليان وهمت لا يختلفان من حيث الشكل والمظهر والهندام عن أي من جنودهما.

استقبلهم نظراؤهم ودعوهم إلى الاحتفال الذي ستقيمه لهم القيادة، واعتذر الشهيد متوسليان عن التأخير بسبب مشاكل فنية أخرت الطائرة عن الوصول في موعدها المحدد واعتذر مرة أخرى لأن الوقت وقت صلاة الظهر وهم يأملون أن يؤدوها في مقام السيدة زينب(ع) القريب من المطار، “وبعدها نكون جميعنا في خدمتكم” قالها القائد متوسليان.

كانت القيادة السورية قد أكدت على وفد تشريفاتها أن يلبي لنظرائه الإيرانيين ما يريدونه وعدم معارضتهم لا سيما وأن القيادة السورية قد خبرت دماثة أخلاق وطيبة الشعب الإيراني من خلال العديد من الوفود التي كانت تزور سوريا للقاء القيادة منذ انتصار الثورة عام 1979. وقد أبلغ مندوب التشريفات القائد متوسليان أن أوامرهم تقضي بتنفيذ كل رغباتهم.

انطلق الوفد الذي قدرت له المشيئة الإلهية المساهمة في رعاية وسقيا بذرة المقاومة الاسلامية لتصبح أول قوة تذل إسرائيل.
وصل الوفد بعدة باصات الى موقف الباصات الملحق بالمقام، عندها صُدم المضيف السوري بالحال التي أصبح عليها ضيوفه بين بكاء ولطم على الرأس وجؤار لاهب، فكل أصحاب القسمات الصارمة الجدية أصبحوا أيتامًا في حضرة “أميرة الشام”، وكلما كانت تقترب بهم الخطى إلى المرقد الشريف كان صوت النواح و العويل يرتفع، إلى أن وصلوا إلى القفص الذي يضم ضريح “عزيزة أخيها”، حيث بدأ بعض أشد الأشداء يغمى عليهم. وكانت حوالي الساعة من لوحة سيشاهدها كثيرًا بعد اليوم ضباط التشريفات السوريون (الذين انغمسوا مع أقرانهم بالبكاء).

تمت الصلاة والزيارة والاستقبال الذي أعدته القيادة السورية وسفارة الجمهورية الاسلامية في دمشق. وطلب الوفد القادم برئاسة الحاج متوسليان أن ينطلقوا إلى العمل فورًا، وعندما قيل لهم إن بإمكانكم الراحة اليوم، وغدًا تبدؤون، اعتذر مرة أخرى من مضيفه قائلًا إنهم لا يستطيعون بعد الآن تضييع أي دقيقة من وقتهم. وتولى أحد اعضاء الملحقية العسكرية بالسفارة الايرانية بدمشق شرح أهمية زيارة السيدة زينب(ع) للمجموعة الوافدة وأن الزيارة هي من صلب العمل لأنها بعقيدتهم أحد أسباب التوفيق لهذا العمل.

جنتا صيف 1982

في ضيافة الحرس
كانت القيادة السورية قد قدمت معسكرات في منطقة الزبداني تصلح للمهمة الجليلة القادمة، فيما وضع أهالي النبي شيث بتصرف سماحة السيد عباس الموسوي ثلاث قطع أرض في يحفوفا وجنتا ومعربون تصلح كمعسكرات تدريب، فاختار الحرس أن يبدؤوا من مكان محدد بمنطقة جنتا ليؤسسوا فيه أول معسكراتهم في لبنان باسم معسكر “محمد رسول الله (ص)”. وتبين أن اختيار المكان يعود لأسباب ترتبط بمسير سبايا أهل البيت (ع) عام 61 للهجرة حيث إن إحدى الروايات التاريخية ترجح أن مكان إقامة المعسكر نصب فيه اليزيديون مخيمًا للمبيت قريبًا من الطريق السلطاني الذي يمر غرب المنطقة والذي يوصل إلى الشام .

انطلقت أولى الدورات في ذكرى موقعة بدر في 17 رمضان 1402هـ، وقد انضم إليها العشرات منهم سماحة سيد شهداء المقاومة الاسلامية، وسماحة السيد حسن نصر الله، وسماحة الشيخ حسن ملك، ومجموعة من قيادات حزب الله الحاليين.

وجد المتدربون في نوع وشكل التدريب أنماطًا مختلفة عن كل ما خبروه من دورات عسكرية في المنظمات الفلسطينية أو في الجيش اللبناني إبان أداء بعضهم خدمة العلم قبل العام 1975؛ فهم في حضرة مجموعة تعرف كيف تصقل الروح قبل الجسد، فإذا صارت تلك الروح دليلًا للجسد يصبح أسيرها وتستخرج منه أهم طاقاته:
القابلية البدنية على انجاز أصعب الاعمال، التجلّد الذي يصبح جلَدًا، الصبر، الثبات، القدرة على التحمل، اعتياد الألم، الثقة بالقدرات التي أودعها الله في الإنسان، إطلاق طاقات كامنة في العقل والوعي، عدم استصعاب أي تكليف أو عمل مهما بلغت صعوبته طالما كان في طاقة الانسان، القدرة على التمييز بين طاقات البدن المحدودة وطاقات الروح الهائلة.

مدربون؟ لا بل أولياء
وجد المتدربون أيضًا سمات في مدربيهم لا يمتلكها إلا الاولياء الذين قرأوا عنهم في الكتب؛ فهذا المدرب الصلب الذي يجبرك على أن تتكيف مع الصخر والوعر والشوك والطبيعة القاسية، هو نفسه الذي يفيض دمعًا في دعاء الندبة أو يقرأ القرآن والأدعية اليومية والمناجاة ودعائي التوسل وكميل بطريقة تبكي الصخر أيضًا، وهو أيضًا الذي يتفقد المتدربين في الليل ليغطيهم بعد نهار أخذ فيه التعب من الجميع (المدربين والمتدربين) مأخذًا، إلا أن المدرب الفلاني أو الفلاني أو جميعهم كانوا يتعاطون مع متدربيهم كأنهم أبناءهم الذين تركوهم في صقع بعيد في إيران.

وإذا حالف الحظ أحد المتدربين، وكانوا كثرًا، من الذين يصلون صلاة الليل بالخروج للوضوء فإذا به يرى الأسد الذي كانت ترتعد له الجبال في جنتا أو الزبداني، فضلًا عن قلوب المتدربين، فاردًا جناحيه تحت شجرة أو في ظل حائط وهو يتململ في حضرة المعشوق على أعتابه تململ السليم يبث له غربته في هذه الدنيا وشوقه وعشقه إليه واشتياقه لإخوانه الشهداء الذين سبقوه.

الميزة الأعظم، والتي ما زالت حتى اليوم تتكرر في كل مناسبة جماعية يتشرف فيها الحرس بخدمة المجاهدين، هي التواضع المفرط؛ فهناك عشرات الأحاديث والروايات التي رواها مجاهدون تدربوا تحت خيمة حرس الثورة الاسلامية يقسمون فيها بالعزيز الجبار أن فلانًا الذي كان يحرس المعسكر أو فلانًا الذي كان يعمل طباخًا كان المتدربون ينتقدونه لأنه قلل الملح في الطبخة الفلانية وغير هؤلاء من الذين يعملون في خدمات بسيطة والذين كانوا في بعض الأحيان يتسللون ليلًا لمسح “أحذية المتدربين المجاهدين” وهم نيام. نفس هؤلاء البسطاء يظهر بعد حين أنهم كانوا جنرالات كبارًا في الحرس الثوري. ويذكر أحد الأخوة “في عام 1985 كنا قد خضعنا لدورة مغلقة على دفعتين الأولى في مبنى مغلق في منطقة يحفوفا أما الدفعة الثانية من الدورة وهي التنفيذ العملي فكانت في إيران”. يقول الأخ “كان في خدمتنا شاب لا يتعدى الـ 26 عامًا مهمته خدمة الشباب الذي قضوا وقتًا لا بأس به في الشقة المغلقة، وكان الشباب يطلبون منه أن يأتيهم بوعاء السكر أو بكمية من الشاي وبعض الملح هنا والبهارات هناك، وهو يخدم بنشاط كبير بابتسامته المحببة. المهم كان برنامج الدورة أن ينطلق المتدربون فور إنهاء اختبارات مرحلة الدروس النظرية إلى إيران ليخضعوا للتدريب العملي. في الطائرة كان الاخوة على عادتهم يتمازحون حينًا ويطلقون الاناشيد الثورية الاسلامية أخرى ويلطمون ثالثة. كل هذا والشاب الخادم كان يجلس مبتسمًا في آخر المقاعد لا يأبه له أحد.

يقول الأخ: “حطت الطائرة في أحد المطارات الايرانية، ولشد ما تفاجأ الجميع من أن الشاب الخادم الذي يطالبه هذا المتدرب بالملح وذاك بالسكر كان مسؤول ملف التدريب في المجال الذي يتخصص فيه هؤلاء المتدربون. ووجدوا سيارة على سلم الطائرة يقف على جانبيها شابان بحالة استعداد، وسرعان ما يأخذ أحدهما حقيبة الخادم، وما أن دخل السيارة حتى انطلقوا بها إلى المعسكر الذي كان من المفترض أن تنجز فيه المرحلة العملية “. يتابع الأخ: “خلال التدرب العملي مر يوم تدريبي قاس وفي نهايته زارهم الخادم بكامل أبهته العسكرية بهدف إعطائهم معنويات، وصار يلاطف هذا وذاك ويقابل اعتذار الاخوة بابتسامته المعهودة بكلمات لبنانية متعددة اللكنات تعلمها منهم في لبنان ثم ودعهم، وفور خروجه قامت اللجنة التدريبية بتوزيع هدايا للمتدربين مقدمة من “الخادم””.

اختتمت الدورة وجرى التخريج وفي نهاية مراسم التخريج طلب من المتدربين أن يذهبوا إلى قاعة كبيرة في المعسكر. دخلوا القاعة وجلسوا على المقاعد المدرسية، وإذا بالخادم هذه المرة بالثياب التي كان يلبسها أيام خدمتهم يدخل عليهم حاملًا معه ضيافة خاصة تولى توزيعها بنفسه كما كان يفعل في لبنان .

جنتا صيف 1982

فلسفة الإعداد الجهادي عند الحرس
بقدر ما كانت التدريبات تتسم بالصعوبة إلا أنها كانت لا تحيد عما ذكرناه آنفًا؛ فالأصل عدم كسر وتحطيم الفرد بل تطويع وتطوير قدراته على الدمج بين السعة الوجودية للبدن واللياقة الروحية؛ ففي عقيدة الحرس يجب على الهيئة التدريبية أن تخرج من دوراتها مجاهدين وليس عسكريين، وهذه فلسفة اعتمدها حزب الله والحشد الشعبي وكل عناصر محور المقاومة لاحقًا. فالأصل ليس السلاح بل روحية استعماله والارادة والحماسة والثقة بالله وقدرته وغيبه التي يحملها صاحب السلاح، فإذا أدى تكليفه الدقيق بالسلاح بالاعتماد على الله فإنه يكون قد حقق الربط بين الفرد الذي يحمل السلاح ومصدر القوة الأعظم في الكون وهو الله جل وعلا.

كما أن التدريب الذي يخرّج عسكريًا فقط والذي يهتم بصقل بنيته المادية أي الجسدية فقط غير موجود في عقيدة الحرس القتالية والتدريبية. حيث إن صقل العسكري ليصبح مجاهدًا يتطلب العمل على صقل ملكاته الاخلاقية والعقلية مع صقل ملكاته البدنية؛ بمعنى أن العسكري الذي لا يفكر إلا بالأسباب والنتائج المادية للأعمال الحربية فقط يعطل قدرة هائلة من خارج الطبيعة تعينه على عدم الاستسلام أو ترك الموقع والانسحاب تكتيكيًا إذا انعدمت الظروف المادية وتعينه أيضًا في أشد حالات الضعف والانكسار على الإيمان بالنصر وقدرة عنصري المادة والغيب على تحويل الانكسارات إلى انتصارات.

كان ذلك الحضور الحسيني والنفَس العيسوي لرسل الإمام الخميني إلى لبنان هو الوصفة الوحيدة لإذلال إسرائيل؛ فمن المعسكر الذي أخذ اسمه من الحبيب المصطفى (ص) الذي وصفه الامام علي (ع) بأنه “طبيب دوار بطبه أحكم مراهمه وأحمى مياسمه” خرجت شجرة باسقة صلابتها مأخوذة من البأس الحيدري وجذعها وأغصانها نمت على نداء الدم الحسيني وثمارها أبدال من كور الشام تضوع عطرها وأصاب كل محور المقاومة انتظارًا لقائد موعود تنصب على يديه رايات إلى “إيلياء” حيث ستقام ذات فجر صلاة، وأيّ صلاة.

*مقطع من كتاب “نفير الحفاة” الذي سيُنشر للكاتب ضمن مساهمته في فعاليات إحياء ٤٠ عاماً على انطلاقة المقاومة الاسلامية (حزب الله).

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد