وذكّرهم بأيام الله

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لم يكن أيار شهرًا عاديًا في ذاكرة اللبنانيين، ولم تكن أيامه أيامًا عادية، فعلى أعتابه تطل بوادر النصر وفي خواتيمه تتجلى معالمها، عزف اللبنانيون على وقعه ألحان عز وفخر، وزفّ الجنوبيون فيه أخبار التحرير والنصر، نصر كتب على جبين التاريخ بالدم والصبر.

كنّا صغارًا حينها، وكان لا زال في الذاكرة متسعٌ للصور والذكريات. عشنا لسنوات تحت وطأة محتل ظالم ولم نكن نعلم متى تبحر إلينا سفينة النجاة، إلا أننا كنا على يقين بأنها يومًا ما ستأتي.

في ذاك الفجر، لم تغطِّ الشمس أرض الجنوب بنورها وحسب، لأنني أظن أن الأرض استفاقت قبل شروقها، وضجّت بكل ما عليها. كنت أبكي لأنني لم أقوَ على فعل شيء آخر، بل ربّما لأنني رأيت الجميع يبكي. لم تكن دموع حزن ولا خوف ولا فقد، كانت مشاعر فرح، عجزت كل وسائل التعبير عن وصفها سوى الدموع.

لا أدري كيف بإمكان المرء أن يصف هذا الكم الهائل من المشاعر حينها، وكيف لطفولة نشأت على الحرمان والقصف والخوف أن تدرك للحظة من الزمن أنها باتت أخيرًا تبحر على متن سفينة النجاة تلك، والتي كانت قبل أيام معدودة تظنها بعيدة بُعد السماء عنها.

رأيت يوم القيامة بعيون الأطفال؛ كان الناس يأتون من كل ناحية وصوب، وكانت دموعهم تسبقهم. رأيت وجوهًا كنت أظنها على الضفة الأخرى من العالم، كيف لا ونحن الذين لم نكن نعلم إن كان بإمكاننا الوصول إليها يومًا واللقاء بها. ولأن ما يُلقى في ذاكرة الطفولة لا يُمحى، حاولت قدر المستطاع أن أرسم فيها كل ما لاح أمام عينيّ حينها، ولا زلت أحاول مرارًا وتكرارًا إنعاشها كي لا تمحى يومًا.

كانت أعراس النصر تقام في كل بقعة من أرض الوطن، وكان الجنوب بوصلة القلوب ووجهتها. في كل بقعة ثمة أثر لا يموت ولا يمحى، رُسمت معالمه بالدماء الزكية، أثر سيظل مزارًا لكل أحرار العالم، خالدًا مدى الدهر، يعيد بث روح الصمود والجهاد والنصر فينا كلما أراد العدو مواجهتنا، وكل صخرة في أرض جبل عامل هي بصمة شهيد روى الأرض بدمائه فأنبتت عزًا ونصرًا.

كبِرْتُ، وكَبرَتْ معي ذكرياتي التي حملتها في قلبي كما في ذاكرتي، فهي أيام من أيام النصر الإلهي، وفي كل موقف يمر ووقفة عز وذكرى، تراودني أبيات الشاعر الكبير الراحل عمر الفرا التي بدايتها:
جنوبي الهوى قلبي وما أحلاه أن يغدو هوى قلبي جنوبيّا.
وإن أردنا أن نغني المعنى بالحبّ أكثر لقلنا: لدروب الحبّ تهفو القلوبْ، فكيف إذا كانت دروب الحب جنوبْ.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد