علي محمود شحادة – خاص الناشر |
مع بداية الاحداث الخطيرة في فلسطين مطلع القرن الماضي تنبه علماء وفقهاء حوزة النجف الأشرف لخطورة المؤامرة التي تحاك للأمة والتي اكدها الوعد الشهير الذي أطلقه وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور خلال الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٧ وهو تعهد بريطاني رسمي بإقامة وطن لليهود في أرض فلسطين.
لقد ادرك علماء النجف أن واجبهم الشرعي والإنساني التصدي للمشروع الصهيوني بكافة الامكانيات المتوفرة، فعملوا دائمًا على حث الرؤساء والملوك في الأمة العربية والإسلامية على الجهاد ضد الصهاينة ومنعهم من تحقيق مرادهم بإقامة دولة يهودية عنصرية على أرض فلسطين.
فمنذ أن بدأت اخبار عمليات غصب الأراضي أو شرائها بأثمان باهظة تنتشر في أوساط شعوب الأمة وأن ذلك كان يحصل مصاحبًا لهجرة معاكسة نحو فلسطين من اليهود المنتشرين في اصقاع الأرض ادرك الفطين بين جموع المسلمين أن الغفلة أو التخاذل سيؤدي إلى نكبة تصيب الشعوب الإسلامية والاسلام في مقتل؛ فالأمر الذي بدأ في فلسطين إن نجح لن يتوقف على حدود فلسطين بل سيستمر حتى يقضي على التراث والتاريخ الاسلامي بل انه سيقضي على كل ما يمت إلى الاسلام بصلة، فإن الصهاينة أنفسهم صرحوا أن دولتهم المزعومة لن تكتفي بالحدود الجغرافية لفلسطين بل إن اطماعهم التوسعية تشمل المساحة الواقعة بين نهر الفرات في العراق ونهر النيل في مصر والسودان، أن مثل هذه المؤامرة هدفها النهائي القضاء على الاسلام.
يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: “إن مسألة الدفاع عن فلسطين ومواجهة الصهيونية لا تخصّ الفلسطينيين أنفسهم، بل إنها واجب على كل إنسان لا على العرب والمسلمين فقط، لأنّه إذا كانت الغلبة (لا سمح الله) لليهود على فلسطين، فإنهم لن يتركوا البلاد العربية والإسلامية تعيش بأمان واطمئنان، وسيعملون بكل ما في وسعهم وبالتعاون مع الغرب على محو كلمة الإسلام من صفحة الوجود”. (الامام كاشف الغطاء: قضية فلسطين الكبرى ص ١٤ – ١٥)
وقد بدا واضحًا أن تخاذل الأنظمة السياسية والملوك والامراء العرب سيودي إلى خسارة الشعب الفلسطيني أرضه وإقامة دولة عنصرية معادية وسط المحيط العربي والإسلامي تمهيدًا للتوسع المزعوم، لذلك كان الموقف العلمائي والشعبي في النجف الأشرف داعيًا وبشدة للتصدي لهذه المؤامرة الخبيثة.
سنذكر في هذا المقال بعض الشواهد على اهتمام علماء الحوزة النجفية بالقضية الفلسطينية منذ بداية الكارثة إلى يومنا هذا.
الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1877-1954)
في عام ١٩٣١ قام المرجع الديني الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بزيارة تاريخية إلى فلسطين حيث شارك في المؤتمر الاسلامي المنعقد في القدس ملبيًا دعوة مفتي القدس الشيخ امين الحسيني (1895-1974) وألقى خطابات في الجماهير المكتظة تدعو المسلمين في كل الامصار إلى الجهاد ضد الصهاينة، واقام صلاة الجماعة في المسجد الأقصى المبارك وزار العديد من القرى الفلسطينية لدعم صمود ناسها. ثم اصدر سماحته بيانًا بتاريخ 6 آب 1938م جاء فيه: “انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، أيها العرب أيها المسلمون، إن الجهاد أصبح واجبًا عليكم في سبيل الوطن”.
السيد محسن الحكيم (1889-1970)
عند اندلاع حرب 1967 التي انتهت بهزيمة الجيوش العربية وجه زعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد محسن الحكيم رسالة الى مؤتمر العالم الاسلامي المنعقد في الاردن دعا فيها رؤساء وملوك العالم الإسلامي الى الاتحاد وبذل الجهد من أجل مواجهة المشروع الاسرائيلي في فلسطين وتحرير القدس وكامل الأراضي المحتلة.
كما بعث سماحته ببرقية إلى عبد الرحمن محمد عارف رئيس جمهورية العراق (1966-1968) يطالبه فيها بالعمل لتحرير الأراضي العربية المقدسة والرد على العدوان الصهيوني الصريح، داعيًا الله عز وجل أن يكلل جهود المسلمين وقادتهم بالنصر والعز .
السيد ابو القاسم الخوئي (1899-1993)
عام ١٩٧٣ في أعقاب حرب أكتوبر أقيم في النجف الأشرف في الصحن العلوي تجمع علمائي كبير لنصرة فلسطين حضره الأعلام الكبار وكان أبرزهم زعيم الحوزة العلمية آنذاك السيد ابو القاسم الخوئي والشهيد السيد محمد باقر الصدر. واللافت أن السيد علي السيستاني كان حاضرًا في هذا التجمع كذلك. ومن مواقف السيد الخوئي في هذا الصدد أنه بعث رسالة الى النظام الشاهنشاهي في ايران مطالبًا بقطع العلاقات مع الكيان الغاصب ووقف الإمدادات النفطية له.
السيد علي السيستاني (1930)
استكمالًا للنهج الذي اتبعه اسلافه، برز بشكل جلي اهتمام السيد علي السيستاني بأحداث فلسطين والقدس منذ تصديه للمرجعية العليا في النجف الأشرف. فقد صدرت عدة بيانات عن سماحته تعليقًا على أحداث مهمة وحساسة كانت تحصل على أرض فلسطين، وهذه البيانات كانت تشدد على وجوب استعادة الحقوق ونصرة الشعب الفلسطيني المظلوم. وفي ١٢ أيار عام ٢٠٢١ صدر آخر بيانات المرجع الأعلى حول القضية ومما جاء فيه:
“تؤكد المرجعية الدينية – مرة أخرى – مساندتها القاطعة للشعب الفلسطيني الأبيّ في مقاومته الباسلة للمحتلين، الذين يسعون الى قضم المزيد من اراضيه وتهجيره من أجزاء أخرى من القدس الشريف، وتدعو الشعوب الحرة الى دعمه ونصرته في استرجاع حقوقه المسلوبة”. (راجع البيان رقم ٥ في صفحة البيانات – موقع آية الله العظمى السيستاني).
وصدر بيان عن سماحته تعليقًا على اعلان القدس عاصمة للكيان مما جاء فيه: “إن هذا القرار مدان ومستنكر، وقد اساء الى مشاعر مئات الملايين من العرب والمسلمين، ولكنه لن يغير من حقيقة أن القدس أرض محتلة يجب أن تعود الى سيادة اصحابها الفلسطينيين مهما طال الزمن”. (راجع البيان رقم ١٦ في صفحة البيانات – موقع آية الله العظمى السيستاني)
قبل ذلك، في أواخر كانون الأول عام ٢٠٠٨ صدر بيان عن سماحته تعليقًا على الحرب الإسرائيلية على غزة، وبيان حول عملية اغتيال الشيخ أحمد ياسين وبيان حول احداث جنين. وما يجمع بين البيانات امور ثلاثة:
- التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة من أجل استعادة حقوقه المسلوبة.
- ضرورة تضافر جهود المسلمين في انحاء العالم من أجل دعم الفلسطينيين ونصرتهم.
- إن مسؤولية دعم القضية الفلسطينية قبل أن تكون مسؤولية قومية وانسانية هي مسؤولية شرعية ودينية.
خاتمة
لقد كانت النجف الأشرف ولا زالت بحوزتها الشامخة وعلمائها العظام تضع ثقلها التاريخي وإمكاناتها المعنوية في نصرة المسلمين المستضعفين في العالم، ولم يكن الاختلاف المذهبي مانعًا من الاستمرار في هذا النهج، بل إن الرؤية الوحدوية للعالم الاسلامي كانت ولا زالت غالبة في مسلك المرجعيات العليا منذ تأسيس هذه الحوزة إلى اليوم.
لذلك فإن هذه الحوزة بقيادة المرجعية العليا لا زالت تعمل على التذكير الدائم بضرورة بقاء فلسطين في وجدان الأمة حتى تعود الحقوق إلى أهلها ويرجع شذاذ الآفاق إلى البلاد التي قدموا منها.
وإن موقف الحوزة العلمية نابع من صميم النهج العلوي المبارك في الدفاع عن المستضعفين ونصرتهم وفي العمل على وحدة الأمة الإسلامية في مواجهة الأخطار الخارجية التي تستهدف بيضة الاسلام.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.