يحتفل السوريون في هذا اليوم من العام بما يعرف لديهم بعيد الجلاء، وهو يوم 17 نيسان، يوم أُجلي آخر مستعمر فرنسي عن الأراضي السورية، كما يعبر عنه في أدبيات الاستقلال لدى الشعب السوري.
عيد الجلاء الذي لطالما اجتمع عليه السوريون يهللون له بكل فخر وإكبار قبل الحرب، لماذا أصبح الآن لدى البعض عنوانًا مثيرًا للجدل؟
إن الحرب السياسية والعسكرية التي فرضت على البلاد منذ أحد عشر عامًا وإلى الآن، والتي جاءت مصحوبة بحرب ايديولوجية وإعلامية أو ما يسمى بالحرب الناعمة بكل أشكالها، تعد عاملًا أساسيًا في إحداث هذه الإشكالية بسبب:
أولًا: الانبهار بالحضارة الغربية ورؤيتها بعين واحدة ومن زاوية واحدة، وتجسيم محاسنها وإغفال آفات باقي المنظومة، يجعل بعض السوريين يظنون أن خروج فرنسا من سورية ونيلها الاستقلال كان خسارة لهم ولبلادهم.
ثانيًا: إن الوضع المعيشي المتردي والفساد الذي خلفته الحرب وكل ويلاتها الأخرى من دمار وتشرد وفقدان الأمان وانتشار الجريمة جعل بعض السوريين ينسون طعم أيام الزمن الجميل التي تمتعوا بها في ظل استقلال بلدهم وسيادته وأمنه وأمانه فينظرون بعين المقارنة مع الدول الأخرى ويرون أن أي مكان آخر لو وجدوا فيه لكان أفضل من هذا الجحيم.
ولكن لو نظرنا بعين الانصاف إلى تلك الدول التي يتطلع إليها بعض السوريين بالإعجاب المفرط، ما الذي يجعل دولة مثل فرنسا مثلًا أفضل من سورية؟
ونحن نعلم أهمية موقع سورية الجغرافي وثرواته الباطنية، وكثيرًا مما يميزه عن فرنسا. لكن فرنسا تلك الدولة التي تعيش على الهيمنة تقوم ببناء أي قوة وتعد كل عدة وتجند شتى الأدوات لتستطيع من خلال كل ذلك أن تنهض على رماد دمار الدول التي تستضعفها وتنقضّ على خيراتها كما فعلت في سورية قبل الجلاء.
إن بعض السوريين الذين يتحدثون عن خسارتهم من خروج فرنسا سواء من ناحية التقدم التكنولوجي الذي كانوا سيحظون به لو ظلت مستعمرة في أرضهم أو التطور العمراني أو الازدهار الاقتصادي يغفلون عن حقيقة مهمة جدًا وهي أن فرنسا إنما كسبت كل هذا الذي كسبته من جيوبهم وجيوب آبائهم سواء هم أو باقي الدول التي ما زالت مستضعفة وتابعة لدول الاستكبار كفرنسا وغيرها، وليس لديهم ولو جزء بسيط من المونة على حقل نفط من أرضهم.
إن السوريين عليهم أن يعوا نقاط قوتهم وإمكاناتهم ويؤمنوا بقدراتهم لكي يعلموا أنهم لم يخسروا شيئًا من خروج فرنسا، وأنه لا يمكن لمستعمر أيًّا كان أن يستعمر أرضًا ليُكسبها بل ليكسب منها، وإنما يفرض عليها ثقافته في اللغة ونمط الحياة من طعام وشراب وفن وعمران وغير ذلك لكي يبقوا راضخين لسياساتها ويغضوا الطرف عن كنوزهم التي تسرق من كهوف أرضهم في وضح النهار.
إذا علمنا أنه لا خسارة لشعب في استقلاله عن محتل، وإذا علمنا أن السوريين لم يخسروا من جلاء المستعمر الفرنسي عن أرضهم فإذًا ماذا كسبوا؟
ناهيك عن خلاص السوريين من ممارسات المستعمر بحقهم والتعنيف والتضييق وكل الجرائم التي ارتكبت بحقهم والتي مهما استفاضت الدراما السورية في تصويرها لن تحصيها، فإن أهم مكسب للسوريين من إجلاء المستعمر الفرنسي هو خوض هذه التجربة.
لقد كانت تجربة الثورة على الاستعمار الفرنسي تختلف عن سابقتها التي كانت ضد المحتل العثماني في أنها كانت سورية بحتة وبإرادة شعبية مطلقة بدون تدخل أي يد أجنبية فيها.
هذه التجربة ألهمت السوريين مقومات إرادتهم الشعبية في كل قضية تتعلق بمصيرهم منذ ستة وسبعين سنة خلت وإلى يومنا هذا.
وتجلت ثمرات هذه التجربة التي خاضها كبار الثوار السوريين مثل ابراهيم هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش وغيرهم في رسوخ عقيدة مقاومة المحتل في وعي الشعب السوري، وهذا ما انعكس على الوضع الراهن وأثناء الحرب من مقاومة الشعب السوري في الشمال للمحتل التركي الذي عانوا منه الأمرّين من قبل، ولم يسمحوا لسورية أن تُستباح مرتين من قِبَله، وكذلك مقاومة أهلنا الجولانيين السوريين للمحتل الإسرائيلي، والذي أنتجت لنا مناضلين مثل صدقي المقت والشهيد مدحت الصالح،
وأيضًا مقاومة أهلنا في شمال شرق سورية للاحتلال الأميركي بأدواتهم الشعبية البسيطة معبرين عن رفضهم لتواجده بينهم، لأن طعم النصر والاستقلال في 17 نيسان عام 1947م لم يغب عن ذاكرتهم كما مرارة الاحتلال والاستبداد.
هذه المحاولات في المقاومة والتصدي والتي تأتي فردية بشكلها الشعبي هي نتاج تجربة مهمة في ذكرى الجلاء تعلم منها السوريون أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
ليس فقط على مستوى الدافعية كسب السوريون من هذه التجربة بل كونت لديهم تجربة ثورة إجلاء المستعمر الفرنسي مفهومًا راسخًا حول المعنى الحقيقي للثورة، فلم ينجرفوا أثناء الحرب وراء محاولات تشويهه وتزييفه من قبل دول الاستكبار التي ترى مصالحها في خلق الفوضى وعدم الاستقرار فيها ليوظفوا إرادة الشعب نحو الاقتتال الداخلي فيستنزف نفسه بنفسه.
يبقى على الشعب السوري اليوم أن يستحضر هذه الذكرى بمزيد من الاعتزاز وبتجديد الهمة على توحيد الجهود وتكثيفها لإجلاء كل من يحاول إعادة تاريخ الاستعمار لحاضر سورية ومستقبلها، وأن لا ينخدع أحد من السوريين بوهم يسمى مكاسب أو امتيازات يقدمها محتل لشعب يعتبره عدوه الأول؛ فالناهب الذي يلهيك بلقمة خبز يقدمها لك بعد تجويعك وحصارك هو من حيث تدري أو لا تدري قد سرق أضعافها من حسابك ومن حقك وحق الأجيال القادمة من أبناء أرضك.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.