علي حجازي – خاص الناشر |
ما فتئَت دول الخليج العربي، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، منذ تأسيسها في العام 1932، تتّبع سياسة الابتزاز والفوقيّة اتجاه عدد لا بأس به من الدول العربية بشكل عام، ولبنان بشكل خاص. وقد لعبت المملكة دورًا “مُكَوِّنًا” في طبيعة النظام اللبناني الحديث، الذي حكم منذ ما بعد اتّفاق الطائف التي رَعَتهُ وساهمت في تشكيل مساره.
لم تتقبّل السعودية يومًا أن يكون لبنان شريكًا بمعنى الشراكة والتعاون، ولو أَوحَت بذلك في فترة الثمانينيات والتسعينيات، إنما كانت تبغي دائمًا وضع لبنان تحت جناح سياستها بشكل كلّي، ويكون حينئذٍ كيانًا مزيّفًا يتبعها ويلتحق بركب الخاضعين لها، كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى مملكة البحرين مثلًا، وكما كان الحال في اليمن سابقًا قبل أن ينتفض اليمنيّون على واقع الحال، وينالوا بعد ذلك حربًا شعواء أرادتها السعودية “جزاءً” لهم على خروجهم عن الطاعة.
هكذا إذًا، تريد السعودية إخضاع لبنان وجعله إمارة تابعة لها، وقد جيّرت لأجل ذلك الأموال واشترت من خلاله الأتباع والإعلام والنُخَب، وصنعت على مقلبٍ آخر نفوذًا خاصًا بها داخل تركيبة النظام اللبناني وأركان الحكم فيه.
تعرّضت السعودية خلال مسيرتها السياسية في لبنان لعدة نكسات، ما جعل نفوذها يتعرّض للاهتزاز، بالتزامن مع تنامي نفوذ حلفاء المقاومة داخل الدولة، ولو أن الكفّة لا زالت لصالح السعودية وأتباعها لأسباب تتعلّق بضعف القوى السياسية التابعة وليس الأمر تعلّقًا بقوة السياسة السعودية.
اتَّبَعَت المملكة سلوك “الحَرَد” في مسيرتها داخل لبنان، وخصوصًا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وبالتالي غياب راعي مصالحها الأول، ما اضطرّها إلى انتهاج مسار سياسي مختلف بشكل أو بآخر، تعرّض للتَعَثُّر في عدد من المراحل، وكانت كلما خسرت جولة تُهَدِّد بالحَرَد، وتنفّذه بأحيان كثيرة.
تصرَّفَت السعودية على قاعدة “ما فيك تعيش من دوني”، وتأكَّدوا أن “البوطة” التابعة لها أضعف من أن تعيش من دونها، لأن السعودية تعتبر -وهي كذلك- أنها هي من ثبَّتَت وجود تلك المجموعة السياسية وحافظت على ديمومتها واستئثارها بالحكم، وهي من رَعَتهم وحَمَتهُم طالما أنهم يخدمون مصالحها الاستراتيجيّة لوجودها في لبنان. وهذا التصوُّر يشعر به أتباع المملكة اللبنانيون، أنها الأم الحنون ولا وجود لهم ككَيانات مستقلّة من دونها. وهكذا، باتت السعودية على يقين أنها عندما تحرَد، ستأتي إليها جحافل الطاعة وتطلب العفو والسماح والعودة عن هذا القرار العظيم! أكاد أجزم أنه لم يمرّ على رأس المملكة مجموعة سياسية تابعة لها أضعف وأكثر ذُلًا من شركائنا في الوطن اللبناني.
عند حلول موعد الانتخابات الرئاسية عام 2016، وانتخاب الرئيس ميشال عون عبر تسوية لم ترضَ عنها المملكة، أو بالحدّ الأدنى لم تكن ترضى بالشكل الذي أتت به تلك التسوية، يومها أعلنت الخصومة مع “حليفها” الأول في لبنان سعد الحريري، وريث رفيق الحريري وما يعنيه هذا الاسم بالنسبة لأركان الحكم في المملكة، كونه مثّل أحد أركان الاتفاق غير المرضي عنه. بعد اتّخاذ السعودية هذا القرار وما له من تداعيات على الشارع اللبناني، لما للسعودية من خصوصيّة في الشارع السُنّي، اتَّضَحَ أن مملكة الخير لم تعد تنوي الخير في تعاملها مع أتباعها اللبنانيّون، وهذا ما دَلَّ على مستوى الضعف الذي باتت تتمتّع به السعودية على الساحة اللبنانية، وتراجع نفوذها الداخلي، وتراجع قدرتها على السيطرة ضمن المسارات السياسية اللبنانية الداخلية. أن يأتي رئيس جمهورية لا ترضى عنه السعودية، يعني أن المسألة باتت خارجة عن نطاق السيطرة، وهذا ما لا تتقبّله “الأم الحنون” على نفسها ومصالحها ونفوذها في هذا البلد الصغير.
عام 2017، اختطف محمد بن سلمان رئيس الحكومة سعد الحريري، وتحوّل الأخير من الطفل المدلَّل إلى عدوّ يجب إقصاؤه ومجازاته على خروجه عن طاعة “ولي الأمر”. فشل المخطَّط السعودي مرة أخرى، واستطاع لبنان الرسمي، على رأسه العماد ميشال عون وحزب الله، إفشال المخطَّط السعودي، وإبطال الاستقالة التي أُرغم على تقديمها “ابن الرّفيق”. زاد حقد “حُكّام الجزيرة” على “عروس الشرق”، وبات المطلوب الفوضى، لا شيء سواها.
عقب الانهيار اللبناني عام 2019، استغلّت السعودية الأحداث السياسية والاجتماعية التي تَتَالَت، وحاولت، عبر استغلال الوضع السياسي والاجتماعي الذي استَجَدّ، معاقبة لبنان والتنكيل في جرحه أكثر فأكثر، وكان الهدف إحداث الفوضى العارمة، ليكون جزاءً للبنان من جهة، وتحيُّن الفرصة المناسبة لإعادة التموضع واستعادة النفوذ الكامل والسيطرة.
ساهمت مملكة آل سعود في تكريس الانهيار اللبناني، وأدارت ظهرها لأي مساعدة كما جرت العادة، بحسب ما يصرّح به ليل نهار أركان الحكم السعودي (كانت مساعدات ذات طابع مصلحي بحت تذهب للنافذين الذي ينضوون تحت جناحها السياسي)، لأنها تيَقَّنَت أن أي مساعدة في ظل التركيبة الحالية التي لا تتيح لها أخذ “مجدها” داخل ساحة اللعبة السياسية، لن تحصل مقابلها على مكتسبات إضافية ذات قيمة، مثل التي كانت تحصل عليها بعد أي تسوية. فمعركة السعودية في لبنان هي معركة سيطرة ونفوذ، وهي تسعى إلى الفوضى للإيحاء بأنه لا بديل عن وجودها في لبنان. فشلت الفوضى لحدّ الآن، ولم تستطِع السعودية الوصول إلى مبتغاها، ولم يعد بوسعها التعبير عن غضبها سوى “بالحَرَد”.
بعد انتفاضة 17 تشرين، والحدث الذي استغلّته الدول الغربية والسعودية لتَسييلِهِ في المواجهة ضد المقاومة، دفعت “مملكة الخير” منذ تلك الفترة، ولا زالت، ملايين الدولارات لتشويه مسيرة المقاومة وشَيطنة مسارها وأبلسة قياداتها، بغية عزلها وتجهيز الأرضية للانقضاض عليها وسحقها. وكان الاستحقاق الأول المُنتظر هو الانتخابات النيابية التي ستقام بعد حوالي الشهر من الآن. وقد أُقصِيَ الزعيم السُني الأقوى عن الساحة، وترك خللًا يتناتش جرّاءه الطامحون لوراثته السياسية.
كان هدف السعوديين -مع الأميركيين وعدد من الدول الغربية والعربية- تأليب بيئة المقاومة عليها، وإسقاطها في استحقاق الانتخابات، لإظهار ضعفها الشعبي وهشاشة الاحتضان المجتمعي الذي كان يلتفّ حولها، ليُصار إلى إرغامها على المساومة على سلاحها وقوتها العسكرية بحجّة عدم وجود الشرعية وادّثار المقبولية الشعبية التي كانت تتمتّع بها، بمعنى آخر، تريد السعودية -ومعها باقي الدول المعادية للمقاومة- إظهار المقاومة على أنها عبء لا يريده الشعب اللبناني، وأن البيئة الحاضنة لها أصابها التشتُّت ولم تعد بتلك الصلابة المعهودة.
إذًا، أريد للانتخابات، التي يجب أن تكون عرسًا ديمقراطيًا يعبّر فيه الشعب اللبناني عن رأيه وطموحاته، أن تكون منصّة ثأرٍ ضدّ حزب الله، وموعدًا لهزيمته والانقضاض عليه.
المُضحِك أن مواطني المملكة ممنعون حتى بالإشارة عن الكلام عن الانتخابات، ومن يخالف يتعرّض للمحاكمة والسجن. يا للديمقراطية والتقدُّم!
المُهِم، جرت رياح الواقع اللبناني المقاوِم بما لا يشتهي الحُكّام السعوديّون. فجأة انقلب المشهد عليهم، وتلاشت “فلوسهم” في الهواء، وبدأ الحديث عن أرجحية ربح المقاومة وحلفائها في الانتخابات، والاحتفاظ بالأكثرية لا بل تعزيزها. ما يخيف القوى المهيمنة، أن سلوك الحزب أخذ منحًى أكثر تقدُّمًا وفعاليةً على الساحة السياسية، وصار منتظمًا ومَستعِدًا لمواجهةٍ “أَدَقّ” بعد الانتخابات.
ومنذ اتّضاح المشهد، لمّح خصوم المقاومة إلى امكانية تأجيل الانتخابات، أو بالأحرى تطييرها، بعدما كان بعضهم يطالب بإجراء انتخابات مبكّرة في ذروة الاحداث التي لحقت 17 تشرين، ظنًّا منهم أن فرصة اكتساح المقاومة قد حانت وعليهم استغلالها.
وبعدما فشلت لحدّ الآن فرص تطيير موعد الاقتراع المرتقب في 15 أيار المقبل، وعدم ايجاد حُجّة مُقنعة يمكن تحمّلها من دون تبعات النقمة الشعبية، أو اختلاق سبب وإلصاقه بفريق المقاومة، بعد ذلك كلّه يبدو أن الأمور متّجهة نحو حدوث الاستحقاق في وقته الأصلي، اللهم إلا إذا طرأ شيء ما طيّر تلك الانتخابات، وسيكون متعَمَّدًا حتمًا.
استنفر الخصوم كافة وسائلهم، واستجدى الفريق الآخر السعودية إلى الاهتمام بالشأن الانتخابي والمساهمة في التصدّي “لمشروع حزب الله”. لم يقنع السعوديّون بدايةً بخطوة العودة، لكن المستجدّات على الأرض جعلتهم يقتنعون بوجوب الحضور الشخصي في الساحة وإدارة العملية الانتخابية بشكل مباشر وإعادة هيكَلَة المشهد وتنظيمه، وكأن المعركة أصبحت وجوديّة بعدما كانت هامشية لا تسرق أي اهتمام سعودي منذ مدّة. أدرك السعوديّون أن الأمر الآن مختلف، فمصير النفوذ السعودي بدأ بالتآكل، وصار يتّسم بالضعف والهشاشة، ولا يمكن القبول داخل المملكة بالتخلّي عن الوجود الاستراتيجي لها داخل لبنان. بكلام آخر، أصبح الموضوع جديًا الآن، و”كترة الحرَد بتولّد تطنيش”.
وعليه، شرّفنا بالأمس السفير السعودي مُهَروِلًا، ومن دون استراحة بدأ العمل، واتّصل بكافة الأقطاب لتجميعهم على مأدبة الافطار ، وفعَّلَت السفارة ملفاتها، وشكّلت “خلية نحل”.
تَيَقَّنَ صُنّاع القرار داخل المملكة بوجوب التواجد على الأرض، وإدارة الاستحقاق الانتخابي “باليَد”، ورَصّ الصفوف في مواجهة حزب الله.
هكذا إذًا، عادت السعودية مرغمة، بعدما باءت كل عملياتها العنيفة في وجه حزب الله بالفشل، وبعدما كاد يتهاوى مشروعها وتتهالك أركانه، وبعدما دخل الحزب وحلفاؤه باب الانتخابات مُنَظَّمين ومدركين حجم المعركة، وبعدما طارت الدولارات الخضراء في الجيوب من دون جدوى، جاء “البخاري” مهروِلًا علّه ينجح بإعادة تشكيل المشهد، ويستعيد ما خسر فريقه في الفترة الأخيرة، خصوصًا مع انحسار الوقت واقتراب موعد الانتخابات النيابية الشهر القادم.
وفي 16 أيار، لن ينفعهم الندم!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.