هل سمعتم سابقًا بمصطلح (هجرة العقول) أو ما يسمى برحيل الأدمغة؟
كان شبحًا مرعبًا يحكي عنه الآباء في مجتمعاتنا الشرقية بكثير من الحزن والحذر، وأقصد بالآباء وجهاء المجتمع وأصحاب القرار وأولئك الذين يمتلكون زمام أمور الفئة العمرية الأكثر حساسية وحرجًا في حاضر أي مجتمع وتاريخ كل حضارة وهي فئة الشباب.
لطالما سمعنا من هؤلاء الآباء عبارات الإطراء وتحميل المسؤوليات وشحذ الهمم والدعوة إلى الاجتهاد والارتقاء مثل (أنتم جيل المستقبل)، وأنَّ آمالهم متعلقة بنا في المُهمات والملمّات إلى جانب عبارة العتاب المعروفة (نحن وقت كنا قدكم… ).
اليوم وبعد الانفجار التكنولوجي الذي خلّف صغار وكبار مواقع التواصل الاجتماعي تاركًا مساحةً ضئيلةً للواقع كي يتنفس، وخَلقَ المستنقعات الافتراضية تاركًا هوامش صغيرةً للبيئة الحقيقية كي تفرش بساطها الخجول، كيف تنامى شبح رحيل الأدمغة الصغير وتحول إلى حوت كبير يبتلع كل غارق؟
هجرة العقول ما بين قناعها القديم ومكياجها الجديد
كان الحديث فيما مضى عن هجرة الشباب العقول حيث تعني مغادرة الطامحين من الشباب وعباقرة العلم والاختراع ونخب الثقافة والأدب والفن والرياضة إلى البلدان الغربية معبدين سبيل هجرتهم الشائك بكثير من الأسباب وأهمها:
1- أنهم لم يجدوا في أوطانهم من يقدر مكانتهم العلمية وقدراتهم العقلية.
2- لم يجدوا من يعمل على تطوير أدمغتهم ومهاراتهم واستثمارها بالمشاريع المطلوبة لتحسين واقعهم.
3- قلة الدخل المادي أو فرص العمل المتناسبة مع جهودهم ومستوى تحصيلهم العلمي.
هذه الهجرة كان يعتبرها المجتمع سيلًا جارفًا لا يمكن الوقوف في وجهه، أو مرضًا ينهشُ جسده من الداخل ويمتصُّ حيويته ورونقه وتطوره ونموه وبقاءه المعنوي والجوهري دون أن تكون محاولات الحدّ منه مجدية.
لكن ما إن هبّت رياح الفوضى أو التغيير أو ما سمي “بالربيع العربي” في حياة مجتمعات الشرق الأوسط وتزامنت مع طفرة تكنولوجية مدوّية وتطور وسائل الاتصال والتواصل، حتى أصبح للميديا بأدواتها وموادها وسياساتها عصا سُلطان، ومطرقةُ قاضٍ، وأخذت تقدم نفسها الحاكم والحَكَم على القوانين والأعراف الاجتماعية وتسنُّ تشريعات نظامها الاجتماعي الجديد على مقاس من يُمسك بخيوطِ شِراكها وذلك بأسلوب الكيد الناعم والهادئ لكي لا تصطدمَ بجدار مخالفة المألوف، إنما تتسلل من خلاله، وما إن تنفذ وتستحوذ عليه حتى تبدل المعايير وتغيّر القيم فتسرق منه الصدارة واللقب، وتلقي عليه صفة الغرابة والاستهجان وتسلبه رداء الرضا والقبول الشعبي والاجتماعي.
فقد أصبح الإنسان الشرق أوسطي اليوم يخجلُ من هويته ولغته وثقافته وموروثاته لأن الميديا حولتها في نظره إلى عنوان للتخلف، وبذلك أصبحت هجرةُ العقول تأخذُ شكلًا مختلفًا أكثر فتنةً من السابق، فلم تعد تقتصر الهجرة على الشباب العقول، بل تعدتها إلى هجرة عقول الشباب بمختلف فئاتهم وأجناسهم وأطيافهم، وبغض النظر عن مستواهم العلمي أو مهاراتهم أو ثقافتهم.
إن الشاب في بلدنا نجده من جانب لا يملكُ ثمنَ تذكرةِ طيارته إلى البلاد المتحضرة لأن تلك البلاد تحضرت على رميم تدخلاتها المدمرة في شؤون بلده، ومن جانب آخر نجده يهدرُ الكثير من الأموال لأنه مرتهن في غالب شؤون حياته وتفاصيلها الدقيقة واليومية إلى نمط حياة تلك الدول والتي صدرتها له الميديا والشركات التجارية العالمية والتي لا تشبهه ولا تشبه ظروفه ولا تقدّر اختلافه، وخصوصية هويته، وبيئته، ولا تلقي اعتبارًا لقيمه، ورغم هذا يبقى شاخصًا ببصره إلى هناك يقلدُ بإعجابٍ مفرط كلّ ما يجده أمامه مما يسمى (موضة) أو (مودرن) لأن الشاشة أخبرته أنّ هذا هو رمز التحضر والتمدن والرقي والحداثة والتطور وما دونه خواء.
ما بين السيطرة بالقوة الصلبة واحتكار مسرح الزي الحضاري بالقوة الناعمة كيف يتم ذلك؟
تلعب وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية وما تقدمه من برامج وأفلام ومسلسلات إلى جانب عمل منظمات المجتمع المدني واللعب على الهوية البصرية في تصميم منتجات شركات التجارة العالمية دور الوسواس الخناس بحيثُ تدفعُ الفرد والمجتمع والأمة إلى اتخاذِ قرار التبعية والانقياد لها بكاملِ قواها اللاعقلية وباختيارها من تلقاء نفسها.
أما ممارسةُ السيطرةِ بالقوّة الصَّلبة عبر الحروب والتدخلات السياسية والعسكرية في شؤون الدول المستضعفة فتأخذُ دور معلم الابتدائية المتسلط ومقولته المشهورة بعد كل عقاب جماعي غير مفهومة أسبابه (يا ابني أنا عم بضربك لمصلحتك)!.
إن الميديا كانت مع كل دبابةٍ دخلت منطقةَ من الشرق الأوسط وقبلها وبعدها، حيث لا بد أن تهيئ لها الظروف، وتخدّر العقول، وتروض أي غضب شعبي يثور في وجهها وفق نظرية (نحن عم نضربك لمصلحتك).
لم تكن الدبابة قادرة على تجاوز أي قارّة أو اختراق أي سيادة دون أن تكون يد الميديا قبلها وبعدها، فتكون قد سبقتها في اقتحام خصائص الشعوب والمجتمعات وعلى عكس التبادل الثقافي الطبيعي الذي يحصل نتيجة احتكاكِ الحضارات الإنسانية وانفتاحها على بعضها بحكم التعارف والتآلف، فقد فرضت الحضارة الغربية زيّها المستحدث والمتسلق على أكتاف تراث الأمم الأخرى وكذلك هويتها وثقافتها ونمط حياتها، فقد احتكرت مسرح العرض العالمي وحدها، فلا رائج سوى لشعاراتها ونماذجها وتصاميمها وأبطالها ونجومها وأدواتها وأسمائها ومصطلحاتها وكل ما يخدم مصالحها، اللهم إلا من رضيت عنه ممن هو مذعن لها بالتبعية والتقليد، منبهرًا بمظاهرها، مقرًّا بفقره وضعفه وعجزه أمامها، حتى أصبح الواحد منا اليوم حينما يُرزق بمولود يجد شيئًا من الحرج في تسميته باسم عربي عريق وأصيل وذي معنى يعبرُ عن هويته وانتمائه، وربما يجدُ في هذه التسمية جورًا واجحافًا بحق طفله.
ولعل السؤال هنا كيف تستفيد دبابة الهيمنة الصلبة من هذا التمهيد الناعم؟
ربما تستثمر في أهم ثلاثة مكاسب وهي:
أولًا: المكاسب الاقتصادية، فالشركات التجارية التي تروج لها وسائل الإعلام ومواقع التواصل إلى درجة تُشعر معها المجتمعات بضرورتها الماسة في حياتهم فإنها بذلك تكسبها أموالًا طائلة وتبقيها بلا منافس.
ثانيًا: التفوق الحضاري
إن شعوب الدول الآسيوية طالما أنها تنظرُ إلى الحضارة الغربية على أنها ملكةُ جمالِ الحضارات، وأنها المثلُ الأعلى فستبقى مدينةً لها، تلهثُ وراء محاكاتها، ونبذ ما سواها، وبالتالي فإنها لن تجد غضاضةً في تنفيذ كل ما تمليه عليها بدون تحكيم عقلي ومنطقي وقيمي.
ثالثًا: المكاسب السياسية، وهي أهم المكاسب وغايتها، فعندما تقرر إحدى الدول الكبرى أن تمارس الوصاية السياسية على أي دولةٍ من الشرق الأوسط وتفرضُ سيطرتها السياسية والعسكرية، فإن تلك الدولة المهزومة سياديًا وثقافيًا، والمسلوبة الهوية، المجهولة المصير عبر التمهيد الناعم ستكون فخورةً بتلك الاجراءات ولن تجد فيها أي انتهاك لقضاياها.
وإذا ما قررت الدبابة بعد ذلك التحصن داخل أي منطقة شعبية، فإنها لن تجدَ نفسها غريبةَ الوجه الثقافي أو الاجتماعي، وكذلك سكان تلك المنطقة فلن يشعروا أن هذا الاحتلال سيغير في طبيعة حياتهم أي شيء، لأن نمط الحياة الذي صدّرته الميديا قد بسط جناحه الذي حيكَ بخيوطها الخفية، وصنّع في مخابرها الفكرية، علاوة على أن دبابةَ الدُّول المتحضّرة تلك لن تدخل أي مكانٍ قبل أن تمهد لها الميديا أيضًا عبر بثّ سموم الفتن فتجعلها تتآكل من الداخل باقتتال شعبي تحت أي مسمى يصيب نقاط ضعف المجتمع المستهدف ثم بعد ذلك تجدُها تغزوك بابتسامة عريضة وأنت راجل أمامها تدلُّها على الطريق بحفاوة حيث توهمك أسنانها البيضاء ببقايا حلمك الضائع، فإذا ما غزّت في جسمك تعلم بعد فوات الأوان أنها أكفان موتك، وتلتهمُ بشراهةٍ كلّ ما تجده أمامها من ثرواتك ومصادر قوتك لأنَّ عليها أن تتغذى وتمتلئ فتكون قادرة على رعاية مصالحك وإدارة شؤونك وشجونك لأنها أدرى بمصلحتك!.
الخلاصة
ما زالت القيم الأصيلة تحيا في مجتمعاتنا، وإن كانت تتنفس بصعوبة، ولكن علينا مساعدتها وإنعاشها وتوفير البيئة الخصبة لنموها وازدهارها من جديد من خلال:
1- الاستنباط من القيم المجردة الأفكار والأطروحات والنظريات والمشاريع والنماذج.
2- تقديم الخطط ورسم السياسات وفق مبادئها والتزامًا عند تطبيقاتها العملية.
3- مأسستها وفق قواعد وقوانين وجعلها معيارًا لمنح المكافآت وتوجيه الثناءات لتعزيزها مجددًا في وعي الشعوب.
4- البحث عنها في نمط الحياة المجتمعية الأصيلة وإظهار جماليتها ومحاكاتها للفطرة الإنسانية السليمة.
ثم يأتي بعد ذلك دور الشركات التجارية المحلية وخصوصًا في الدول المحاصرة والمحرومة من حق الاستيراد والتصدير لتحول هذا التهديد إلى فرصة فتسوق لنماذج شعبية والقيم التي تعبر عنها تلك النماذج، فبحقيبة مزينة بصورة المناضل باسل الأعرج وزجاجة عطر باسم الأب الروحي الطيب هيلارين كبوجي أو لوحة فنية للبطل باسل القرفول أو فنجان قهوة مزخرف فوق تضاريسه حكمة عربية ذات قيمة أخلاقية وذخر معنوي نستطيع أن نكون نحنُ لا أن نكون غيرنا بشكل يمحق عراقتنا، وأن نقدم أنفسنا بالحد الأدنى لأنفسنا، وأن نعيد لحضارتنا ربَّة الوجه الصبوحي إشراقتها، ثم نقدمها عروسةً على مسرح المنارة العالمي، فندافع بذلك عن جوهر وجودنا وحريتنا ونلقي عصى الحق فتلقف ما صنعوا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.