جمال شعيب* – خاص الناشر |
بعيدًا عن خطابات “الجلد” و”التنظير عن بعد” وسعيًا لمقاربة الأزمة التي يواجهها الإعلام الملتزم بأدوات عاقلة ومنصفة، لا بد بداية من عرض الوقائع التي فرضت نفسها على وسائل الإعلام الملتزم بمختلف “أوعيتها” و”قنواتها” و”جمهورها”، قبل الخوض في نقاش الوسائل والأدوات التي استخدمها هذا الإعلام لتطوير “المحتوى” و”المنصات” والحكم على نجاحه أو فشله.
الوقائع الجديدة: التكنولوجيا تفرض نفسها
فرضت الطفرة التكنولوجية الحديثة نفسها على وسائل الإعلام والاتصال منذ نشأة الانترنت. ولكن هذه الطفرة لم تؤثر كثيرًا في أشكال وأساليب بثِّ المحتوى الإعلامي، سوى في التحول التدريجي نحو “الإعلام الالكتروني” أو بث المادة والمحتوى الإعلامي عبر المواقع الالكترونية، وهو أمر يختلف تمامًا عن المرحلة الأخطر والأكثر حساسية بالنسبة لوسائل الإعلام والتي تعرف بمرحلة “الموبايل والسوشال ميديا”، والتي نعتقد أنها التحدي الأكبر الذي واجهته وسائل الإعلام بشكل عام والإعلام الملتزم بشكل خاص.
فبالإضافة الى دخول عاملي “الحجم والسرعة” كمؤشري نجاح الولوج الى عالم الموبايل والسوشال ميديا، كان هناك عوامل أخرى تقنية و”احتكارية” تحدد مدى إمكانية صمود الإعلام الملتزم على المنصات، سواء تلك التي توفر خدمات “الاستضافة” للتطبيقات الخاصة بالموبايل كـ “بلاي ستور” و”آبل ستور” أو تلك التي تدير منصات التواصل الاجتماعي كـ “فايسبوك” و”تويتر” و”انستغرام” وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي التابعة لشركات إما أميركية بالكامل أو تخضع للشروط والقوانين الأميركية التي تمنع أو تحد من إمكانية حضور تطبيقات وصفحات الإعلام الملتزم على منصاتها.
مزاج الجمهور: التحدي الأكبر
قد يكون صحيحًا أن الإعلام الملتزم يتوجه بالدرجة الأولى الى جمهور يشبهه ويتبنى نفس المبادئ ووجهات النظر والمواقف في العديد من القضايا المعاصرة أو المستجدة، لكن مما لا شك فيه أن مزاج الجمهور ومتطلباته سواء على صعيد “المنصات” نفسها أو على صعيد “المحتوى” هو مزاج متبدل ويختلف بين شريحة وأخرى، وإن كان تحت نفس سقف المبادئ والتوجهات، إلا أن هذا لا يعني تطلعه الدائم وبحثه عن كل جديد حينًا وعن فسحة من “الراحة والترفيه” حينًا آخر.
وقد ساهمت منصات وتطبيقات التواصل الاجتماعي (بما فيها الواتس آب) في إحداث تبدل سريع وسلبي في مزاج الجمهور (المقصود) وتركت آثارها على خياراته واهتماماته، بالتالي بتنا نجد أنفسنا أمام جمهور “لحظوي” يحتاج الى استهداف “نقطوي” للوصول الى إرضائه وتلبية تطلعاته.
الإعلام الملتزم: تطوير المحتوى وفخاخ المنصات
أدخل العديد من وسائل الإعلام -لا سيما التلفزيونية والإذاعية منها- “عالم السوشال ميديا” الى استديوهاتها (تفاعلًا ومتابعة) بالتزامن مع دخولها الى منصاته، وقد حقق هذا الدخول المتوازي الأفقي لهذه الوسائل قدرة أوسع على التأقلم مع المتغيرات التكنولوجية وأمن لها قاعدة حضور عند جمهور مزاجي ومتطلب، الأمر الذي ساعد على صمودها خلال المرحلة الانتقالية ونجاحها لاحقًا في تثبيت حضورها وتطوير محتواها بما يضمن لها جذب أوسع شريحة ممكنة من الجمهور المستهدف الى تطبيقاتها وصفحاتها.
أما الإعلام الملتزم غير القادر على إدخال “السوشال ميديا” الى استديوهاته إلا وفق شروط وضوابط محددة (قراءة التغريدات والهاشتاغ)، فقد كان دخوله الى السوشال ميديا مقننًا حينًا ومقموعًا حينًا آخر، حيث واجهت العديد من وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية الملتزمة بخيارات المقاومة تحدي “الحظر المتواصل” لحساباتها ومنصاتها وصفحاتها على مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، ولا سيما على “فايسبوك” و”انستغرام”، فيما لم يكن “تويتر” متسامحًا بالقدر اللازم لكي تستطيع بناء حضورها بين جمهورها وتقدم محتواها المتميز والمتفرد عبر منصته.
ولم يكن الوضع مختلفًا كثيرًا لجهة “المحتوى”، إذ إنه وبدل نقل تجربة المحتوى الخاص بالسوشال ميديا الى البرامج والتقارير التلفزيونية والإذاعية إن لجهة “الاختصار واستخدام البيانات والرسوم والمؤثرات الصوتية والبصرية” لإنتاج مادة قابلة للهضم من قبل “جمهور مزاجي”، لجأت العديد من الوسائل الإعلامية الملتزمة الى فرض “منتجها الإعلامي” كما هو على جمهور مواقع التواصل، لا بل وصل بعضها الى حد إنتاج مواد لا يمكن نشرها حجمًا “ميغا بايت” أو “مدة زمنية” على أغلب المنصات وكان المحتوى فيها أقرب الى “الستاند آب” الإخباري منه الى “فلاش السوشال ميديا” (واجه مستخدمو السوشال ميديا مشاكل عديدة في إعادة “المونتاج” لتقارير مستقاة من وسائل إعلام ملتزمة وتقطيعها الى فيديوهات قصير لنشرها عبر حساباتهم). بينما قامت مختلف وسائل الإعلام الأخرى، لا سيما تلك التي تختلف أو تقف على النقيض تمامًا من خيارات وتوجهات الإعلام الملتزم، بإنتاج المادة الإعلامية والاخبارية الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي، ولجأ بعضها الى تدريب كادرها بواسطة اختصاصيين محترفين، لتطوير المحتوى وأساليب الإعداد والإنتاج والإخراج البصري والصوتي.
الجمهور، معيار النجاح والفشل
للحكم على استراتيجيات وسائل وقنوات الإعلام الملتزم وعلى خططها التنفيذية، فيما يتعلق بتطوير المحتوى وأساليب الإنتاج والإخراج، ومدى مواءمة موادها مع متطلبات الجمهور والإعلام الجديد، لا سيما السوشال ميديا، وكي لا يحسب “رأينا” ويحتسب في خانات “الجلد” أو “التنظير”، نحيلكم الى “الجمهور”، طالبين منكم استفتاءه أو البحث في منشوراته وتعليقاته عن رأيه في أداء “الإعلام الملتزم والمقاوم”، واستخلاص النتيجة التي تجدونها مناسبة … والعِبَر.
*إعلامي لبناني
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.